مع احتدام النقاش مرة أخرى حول دور الرئيس التنفيذي في تحسين مستوى الرعاية الصحية وما إذا كان ينبغي على الحكومة أن تتولى تمويل قطاع الرعاية الصحية وإدارته، يجدر بنا أن نحاول معرفة حل اللغز الدائم المتمثل في عدم إمكانية إدارة تكاليف الرعاية الصحية من قِبل أصحاب العمل. ويتمثل أحد الوعود التي تجعل أصحاب العمل يؤدون دوراً بارزاً في هذا القطاع في إتاحة الفرصة لهم في جلب خبراتهم في الإدارة والابتكار إلى هذه القضية. ومع ذلك، فشلت العديد من الجهود السابقة من قبل أرباب العمل في إدارة التكاليف والحد من الإسراف وتحسين الجودة.
لماذا؟ أعتقد أن العنصر المفقود هنا هو قيادة الرئيس التنفيذي، وقد توصلت إلى ذلك من خلال تجربتي في إدارة تكاليف شركة "جنرال إلكتريك" (General Electric) في عهد رئيسها التنفيذي جاك ويلش، واتباعي إجراءات إدارة التكاليف نفسها في مجموعة شركات "ستيف شوارزمان" (Steve Schwarzman) و"بلاك ستون" (Blackstone). إن مطالبة الرؤساء التنفيذيين في شركات "بلاك ستون" بالتعامل مع تكاليف الرعاية الصحية باعتبارها مهمة أخرى ضمن قائمة مهماتهم جعل الزيادات في التكاليف تبلغ مؤشر أسعار المستهلك أو أدنى منه خلال العقد الماضي، وهو ما أتاح لهم فرصة التفوق على منافسيهم بمئات النقاط الأساسية سنوياً.
دور الرئيس التنفيذي في تحسين مستوى الرعاية الصحية
ومن ثم، يجب على الرؤساء التنفيذيين التعامل مع تكاليف الرعاية الصحية باعتبارها أعمالاً أساسية في العمل والقيام بثلاثة أشياء رئيسة، ألا وهي تولي زمام الأمور، والتحلي بالجرأة، والسعي نحو الحصول على أفضل الخدمات الصحية.
تولي زمام الأمور
تنطوي الحكمة الإدارية المتداولة على مبدأ تولي الرؤساء التنفيذيين مسؤولية قيادة شخصية لأصعب التحديات التي تواجه الشركة. ولكن على الرغم من بياناتهم الخطابية حول الرعاية الصحية، لم يتعامل قادة الشركات مع تكاليف الرعاية الصحية بوصفها قضية أعمال أساسية، وإنما يقومون بتفويض تلك المسؤولية إلى قسم الموارد البشرية الذي يقيم رضا الموظفين، وليس من واجبه تحمل أي مسؤولية عن الأداء المالي للشركة. ولا يوجد أي غاية تبرر هذا الإجراء. ويعتمد أخصائيو الموارد البشرية على وسطاء التأمين بهدف الحصول على خبراتهم في هذا المجال. ونادراً ما يكون هؤلاء الوسطاء مسلّحين بالمعرفة اللازمة لمساعدة أصحاب العمل على تطوير استراتيجيات فاعلة للرعاية الصحية. ولا تتطلب العديد من الولايات امتلاك الوسطاء شهادة جامعية من أجل الحصول على ترخيص، كما يحصل هؤلاء الوسطاء على عمولات ورسوم ضخمة من موردي الخدمات الصحية الذين يوظفهم أصحاب العمل لاختيار الخدمات الصحية وإدارتها.
اقرأ أيضاً: أكثر ابتكار يحتاجه قطاع الرعاية الصحية: مساعدة المرضى على إدارة صحتهم بأنفسهم
وتتميز الشركات التي يتولى فيها الرؤساء التنفيذيون السيطرة بإدارتها تكاليف الإنفاق بفاعلية، حيث يلتزمون بمعرفة كيفية إنفاق هذه التكاليف، ويلتمسون مشورة كبار المستشارين ذوي الخلفيات المتعمقة في قطاع الرعاية الصحية بغية تثقيفهم.
كما تبنّى الرئيس التنفيذي في شركة "نيلسن" (Nielsen) المتخصصة في مجال المعلومات والقياس والعميل السابق لدى شركتي "إيكويتي هيلث كير" (Equity Healthcare) نهجاً مختلفاً، حيث ألغى سيطرة فريق الموارد البشرية المتردد، واتبع نهجاً استهلاكياً شمل تقديم حوافز مالية للموظفين الذين يحافظون على صحة أجسامهم، وتوجيه أولئك الذين يعانون من ظروف صحية تتطلب تكاليف باهظة للحصول على آراء خبراء آخرين قبل الخضوع إلى العلاج، كما نصحهم بالتوجه إلى "مراكز التميز" التي تعتبر أحد مراكز مقدمي الخدمات التي تمتلك سجل إنجازات حافل في تقديم نتائج صحية عالية الجودة بتكلفة منخفضة. وكانت الزيادات في التكاليف في الشركة أدنى من مؤشر أسعار المستهلك عدة سنوات.
اقرأ أيضاً: كيف نقلل أعباء عمل أطباء الرعاية الأولية مع تحسين نظام الرعاية الصحية؟
وبعد دراسة مقدار إنفاق شركته على الرعاية الصحية، كان الرئيس التنفيذي لأحد رواد قطاع الإيواء الاقتصادي قلقاً من أن تكلفة الأدوية المتخصصة قد تستهلك أرباحه. ومن ثم، قام بدفع شركته إلى تبني قرار بتغطية الأدوية الجديدة فقط شريطة أن يكون سعر الدواء مبرراً بقيمة النتائج الصحية. ولا تتوفر معلومات حول مقدار التوفير المكتسب من هذا الإجراء بعد، لكن وجود رئيس تنفيذي يرسل رسالة مفادها أن ارتفاع أسعار الأدوية قد يهدد القدرة التنافسية لشركته يمثل درساً هاماً، من المؤكد أن يعيه قادة شركات الأدوية.
كن جريئاً وتواصل
تنطوي القضية التي تحتاج إلى قيادة الرئيس التنفيذي على موازنة التحكم في التكاليف ورضا الموظفين. وعلى الرغم من أهمية المبادرات التي تتمحور حول الموظف مثل الرفاهة والنزعة الاستهلاكية في موقع العمل، ينجح عدد قليل جداً من الموظفين في زيادة مستوى صحتهم البدنية، أو يصبحون مستهلكين أذكياء في قلب موازين التكاليف لصالحهم. وتتطلب مراقبة التكاليف توجيه الموظفين إلى مقدمي الخدمات الذين يمكنهم تقديم رعاية عالية الجودة بأقل سعر. وتوجد أدلة واضحة على أن الأسعار المرتفعة لا تعني جودة أفضل، وأن مؤسسات الأطباء والمستشفيات التي تقدم رعاية أفضل بأسعار أقل آخذة في الازدياد.
اقرأ أيضاً: كيف تتعاون مع مبتكرين من خارج مجال الرعاية الصحية؟
وبالنظر إلى كراهية الموظفين للقيود المفروضة على الأطباء الذين يمكنهم التداوي عندهم، خلصت معظم الشركات إلى أن القضية لا تستحق عزل العمال للسيطرة على تكاليف الرعاية الصحية. بل اعتمدت بدلاً من ذلك على تحويل الزيادات في التكاليف إلى الموظفين في شكل أقساط تأمين أعلى ومبالغ مقتطعة وسداد تشاركي. ومع ذلك، وصل هذا النهج إلى مرحلته النهائية، إذ إن النفقات الباهظة التي تتحملها الشركة من أموالها الخاصة تعمل على تنفير العاملين الأشحاء الذين تحاول الشركات توظيفهم والاحتفاظ بهم.
وقد تمكنت بعض الشركات من إجراء هذه التغييرات دون التسبب في أي خلافات مع الموظفين عبر شرح سبب فرضها قيوداً على مقدمي الخدمات الذين يمكنهم التداوي عندهم، وجعل الموظفين يدفعون أقساطاً أعلى للحصول على مزيد من الخيارات، أو توجيههم إلى مراكز التميز. ولا يوجد أي أدلة على تردد الموظفين في قبول وظيفة ما أو ترك وظائفهم بسبب مزايا الرعاية الصحية.
في النهاية، من المعتاد أن يتخذ الرؤساء التنفيذيون خطوات جريئة تؤثر على أعمال الموظفين الأساسية، مثل إغلاق المصانع ووقف إنتاج المنتجات. ومن واجب هؤلاء الرؤساء شرح أسباب اتخاذ هذه الخطوات للموظفين الذين يقبلون بدورهم هذا التغيير كجزء من حياتهم العملية. ولا ينبغي أن يكون النهج مختلفاً فيما يتعلق بالتغييرات في الرعاية الصحية.
وكانت شركة وول مارت جريئة في استخدامها حوافز مالية كبيرة لتوجيه الموظفين إلى عدد محدود من مراكز التميز بهدف إجراء العلميات باهظة التكلفة، مثل جراحة العمود الفقري واستبدال مفصل الورك. وكانت النتائج مثيرة للاهتمام، إذ يوصي الأطباء في مراكز التميز هذه بعدم إجراء عمليات جراحية في 50% من الحالات المرضية، وهو ما يؤدي إلى كسب توفير كبير في التكاليف. وكان لدى الشركة أدنى نسبة من شكاوى الموظفين لأن القيادة أبلغت عن الدافع وراء اتباع هذا النهج، تماماً مثل أي تغيير مهم آخر في استراتيجية الشركة.
السعي للحصول على أفضل الخدمات الصحية
تعتبر الرعاية الصحية قضية محلية مثل السياسة تماماً، إذ لا تتساوى قاعدة الموظفين العالمية والكبيرة مع الحجم والنفوذ في المجتمعات الفردية. لقد اعتمد أصحاب العمل فيما مضى على شركات التأمين الصحي لتوليد العدد المطلوب من الأفراد للحصول على أفضل خطط التأمين الصحية، لكن شركات التأمين كانت مترددة من توجيه هذا العدد إلى أفضل الأطباء خوفاً من تخلي الأطباء الآخرين عنهم. وعلى الرغم من الجهود المتعددة التي بذلها أصحاب العمل على مدى عقود عديدة، لم يحققوا سوى قدر محدود من النجاح في توليد العدد المناسب من هؤلاء الأفراد في سبيل شراء أفضل خطط الرعاية الصحية.
وفي حين أن هذا الفشل لم يكن مدروساً بعناية، تشير الملحوظات المتناقلة إلى أن أحد أسباب هذا الفشل يتمثل في تخوف أصحاب العمل من التخلي عن قدرتهم على تقديم مزايا رعاية صحية مخصصة، على الرغم من وجود اختلاف بسيط بين خطط الشركات. ويكمن السبب الجذري لهذا التردد في الجمود والخوف من الجرأة. ويعتبر قادة الشركات في وضع مثالي يمكنهم من التواصل مع أقرانهم، بغية إيجاد طرق للعمل معهم على نحو فاعل. وتشمل الخيارات إشراك شركات جديدة مثل شركة "سينتيفو" (Centivo) التي تمثل الطرف الإداري الثالث الذي يقوم بتوليد الحجم وتأمين تحالفات جديدة بين الشركات.
كما أن عدم سداد شركتي "ميديكير" (Medicare) و"ميديك إيد" (Medicaid) مستحقات المستشفيات والأطباء قد أجبر مقدمي خدمات الرعاية الصحية هؤلاء على مطالبة أصحاب العمل بدفع تكاليف إضافية. ولا يمكن لأصحاب العمل فعل أي شيء حيال ذلك. لكن بإمكانهم توجيه موظفيهم إلى مقدمي الخدمات الصحية الذين يقدمون خدمات أفضل بأقل تكلفة ممكنة. كما يمكنهم التواصل فيما بينهم للتفاوض بشكل أكثر فاعلية مع مقدمي الخدمات الصحية، والتفكير في عدة إجراءات لضمان أن تبرر أسعار الأدوية قيمة النتائج الصحية المرتبطة بها. ومن المؤكد أن يعمل الرؤساء التنفيذيون الذين يتولون زمام الأمور على إنفاق أقل التكاليف على الرعاية الصحية، ومن المؤكد أن يحذوا موظفوهم حذوهم بسبب معرفتهم دور الرئيس التنفيذي في تحسين مستوى الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: الأطباء يشعرون بإقصائهم من عمليات تطوير قطاع الرعاية الصحية