لا تثير قضايا السلامة الغذائية قدراً من الاحتجاجات الشعبية مثل ما تثيره قضايا العنف المسلح وإدمان المخدرات، لكنها مع ذلك تعد وباءً خطيراً مميتاً، إذ تصيب الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء حوالي 48 مليون أميركي كل عام، وهو ما يؤدي إلى وفاة 3,000 شخص وإدخال 128,000 شخص المستشفيات، وجاء ذلك بحسب مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها. علاوة على ذلك، تعتبر الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء مكلفة للغاية في الولايات المتحدة، حيث تقدر فاتورتها السنوية الكلية بما يقارب 55 مليار دولار، متمثلة في العلاج الطبي والإنتاجية المفقودة والأجور الضائعة، ناهيك عن نفقات الدعاوى القضائية.
وبالنظر إلى هذا التأثير الهائل، شرعنا في إجراء بحث علميسعياً منا لإيجاد طرق لتحسين طريقة تعامل مفتشي الحكومة المحليين مع مهمتهم الشاقة المتمثلة في ضمان إعداد الطعام بشكل آمن في المطاعم والمستشفيات والمدارس ومحلات السوبر ماركت. ولا تزال عمليات التفتيش هذه تُنفذ بنفس الطريقة التي نفّذت بها منذ عقود. ويعد أهم ابتكار في هذا المجال حتى الآن هو قانون أقرّته بعض المدن قبل 20 عاماً مضت، يقضي بإلزام المطاعم بتعليق بطاقات تشير إلى درجة تقييم عملية التفتيش الأخيرة سواء أكانت -أ- أم -ب- أم -ج-. وأسفر قانون الشفافية البسيط هذا عن التزام العديد من المطاعم بالمعايير الصحية.
ومع ذلك، لا يزال الأفراد يصابون بالأمراض، وهو ما يشير إلى استمرار وجود انتهاكات صحية وغيرها من بؤر المشكلات التي يتعذر اكتشافها، أو التي لا تعالج عند اكتشافها. وأردنا معرفة كيفية مساعدة المفتشين في ضبط المزيد من هذه المخالفات، كما أردنا معرفة ما إذا كانت الرؤى الثاقبة المستقاة من دراسة العمليات السلوكية التي تدرس دور السلوك البشري في قرارات إدارة العمليات تساعد المفتشين في أن يكونوا أكثر فاعلية.
تحيز التفتيش
من المهم بداية التأكيد على أننا لمسنا سعي المفتشين الجاد في سبيل أداء عملهم بجد واتساق وعدل. حيث يتقيد المفتشون بأداء وظائفهم بصورة جدية ويؤمنون بدور مهمتهم في حماية الصحة العامة. لكن المفتشين بشر مثلنا، وقد تؤثر جداول أعمالهم الزمنية على جودة عملية التفتيش، كما أظهر بحثنا الذي سينشر قريباً في المجلة الأكاديمية "علوم الإدارة".
تعتبر عمليات تفتيش السلامة الغذائية عمليات مضنية عند تأديتها بالشكل الصحيح. ولاحظنا أن المفتشين يميلون إلى ذكر عدد أقل من الانتهاكات عند زيارتهم أكثر من مؤسسة خلال اليوم الواحد، وهو ما يشير إلى أن العمل المرهق يؤثر سلباً على درجة دقتهم. أي أنهم كلما قضوا وقتاً أطول في عمليات التفتيش بداية اليوم، كشفوا عن عدد أقل من الانتهاكات التي تحصل في مؤسسات أخرى نهاية اليوم. وعندما تطلبت عمليات التفتيش إطالة أوقات عملهم إلى ما بعد مواعيد انتهاء أوقات العمل المعتادة، ضبطوا عدداً أقل من الانتهاكات. وليس القصد من هذه المقالة التلميح إلى كسل المفتشين، وإنما الإشارة إلى أن عمليات التفتيش هي إجراءات مرهقة للغاية.
ويكمن أحد الحلول الرئيسة للحد من عمليات التفتيش الأقل دقة في توزيع عمليات التفتيش هذه توزيعاً متساوياً على مدار أيام الأسبوع، لتجنب "أيام الضغط". على سبيل المثال، بدلاً من جدولة مواعيد ثلاث زيارات ميدانية في اليوم الواحد يتبعها يوم عمل في المكتب مع زيارة تفتيش واحدة فقط، يمكن إجراء عمليتي تفتيش وبعض الأعمال المكتبية في كل من اليومين. ويكمن الحل الآخر في تجنب القيام بعمليات التفتيش في فترة ما بعد الظهيرة، إذا كانت ستتسبب في إطالة نوبات عمل المفتشين.
ويمكن للمفتشين أيضاً التقليل من التأثيرات المحتملة لهذه التحيزات. على سبيل المثال، نقترح جدولة مواعيد عمليات التفتيش في المنشآت الأكثر خطورة والأكثر عرضة للمشكلات في فترة الصباح. إذ من شأن الزيارات المبكرة إلى مواقع مثل مقاصف المدارس الابتدائية أو مرافق دور رعاية المسنين أن تمكّن المفتشين من تطبيق مستوى أعلى من التدقيق في أماكن وجود التلاميذ وهؤلاء الأفراد المعرضين بشكل خاص إلى مخاطر التسمم الغذائي.
وتعتبر جدولة مواعيد زيارات التفتيش مهمة لسبب آخر أيضاً: فقد وجدنا أن تجربة المفتش في مؤسسة ما تؤثر في عملية تدقيقه في المؤسسة التالية المدرجة في جدول مواعيد أعماله. على سبيل المثال، كان المفتشون الذين ضبطوا العديد من الانتهاكات أو السلوكيات الخاطئة المتفاقمة في الموقع الأول يميلون إلى تكثيف عملية التفتيش في الموقع التالي، وهو ما أدى إلى ضبطهم عدداً أكبر من الانتهاكات الصحية فيه، سواء أجروا الزيارة الثانية في نفس اليوم أو في اليوم التالي. ونعتقد أن "تأثيرات النتائج" هذه جاءت نتيجة شعور المفتشين بالإحباط بسبب تصوراتهم أن مؤسسات الغذاء هذه تتجاهل إجراءات السلامة الغذائية، وهو ما يحفز فيهم شعور الحاجة إلى أن يكونوا أكثر اجتهاداً.
ولكن ما الذي يمكن أن يفعله المفتشون بالنظر إلى هذه النتائج؟ تجول ببالنا فكرتان اثنتان: أولاهما هي التذكير بأن عدم الالتزام بالقوانين قد يزيد بقدر كبير من الانتهاكات الصحية. والفكرة الثانية هي ضمان تأدية عمليات التفتيش في المدارس وغيرها من الأماكن التي تخدم الفئات المستضعفة على أفضل وجه ممكن، حيث يمكن جدولة مواعيدها بعد المؤسسات التي يتوقع منها أن تنطوي على قدر كبير من الانتهاكات على الفور. ونعتقد أنه توجد عدة طرق أخرى لتشجيع المفتشين على القيام بكل عملية تفتيش بنفس القدر من الحماس.
التحسينات المحتملة
مع وجوب مراقبة مليون مؤسسة تُعنى بالغذاء في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تعد الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء عدواً صعباً وماكراً يصعب التغلب عليه. ولكن إذا قمنا بتعديل نظام عمليات التفتيش بحيث يعنى بالعوامل السلوكية التي حددناها، يمكننا حينئذ التقليل من مخاطر السلامة الغذائية بقدر كبير. إذا تمكنا من تخفيض تأثيرات جدول المواعيد اليومي التي كانت تؤثر على درجة التدقيق إلى النصف، وإذا تمكنا من زيادة تأثيرات النتائج بنسبة 50% بهدف رفع درجة التدقيق، نتوقع أن يزداد ضبط الانتهاكات بنسبة 5.5%، وهو ما يعني ضبط ما يقرب من 127,000 انتهاك كل عام. ونتوقع أن يسفر هذا عن انخفاض عدد حالات التسمم الغذائي بحوالي 10 ملايين حالة، وانخفاض الحالات التي تستوجب الدخول إلى غرف الطوارئ بسبب التسمم الغذائي بنحو 27,000 حالة. سيكون التأثير المالي كبيراً أيضاً، حيث ستقل تكلفة الأمراض المنقولة عبر الغذاء بمقدار 7 مليارات دولار لتصل إلى 16 مليار دولار سنوياً.
في نهاية المطاف، قد يساعد فهم ومعالجة تحيزات التفتيش هذه في تحسين الرقابة في المطاعم والمدارس والمستشفيات ومحلات السوبر ماركت من جهة، وفي المواقع التي تُصنع فيها الأغذية والعقاقير من جهة أخرى، بالإضافة إلى مجموعة من الأمور الأخرى، مثل الامتثال لقواعد السلامة البيئية والمهنية ومراقبة جودة عمليات الخدمات والتصنيع. ومن ثم، يمكن أن تكون جدولة مواعيد المهمات أداة بسيطة وقوية بهدف تحسين نتائج عمليات التفتيش.