أثناء التجول في حرم شركة "آي بي إم" (IBM)، تستكشف شياكو أساكاوا طرقاً جديدة للانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب، وتتعرف على وجوه زملائها الذين يقتربون منها وتحييهم، كما تقرأ ملصقات الوجبات الغذائية الخفيفة لتقرّر تناولها أم لا. لا تحتاج أساكاوا، رغم أنّها عمياء، إلى أحد أو إلى كلب ليساعدها على إنجاز هذه المهام، بل تعتمد على تطبيق للهاتف شاركت في ابتكاره، وكما قالت في أحد خطابات "تيد توك" (TED talk)، فإنّ هذا التطبيق "يفهم ما يحيط بي، ويخبرني عن ذلك بواسطة رسالة صوتية، أو عن طريق هز أصابعي... سأتمكّن أخيراً من العثور على قاعة صف في الحرم، والاستماع بالتسوق عبر النافذة، أو العثور على مطعم أثناء السير في الشارع".
استطاعتْ أساكاوا تحويل إعاقتها إلى ثروة مهنية تعود بمنفعة تجارية على أصحاب العمل، ولكنّ الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة يعملون في أماكن عمل لا تُمكّنهم من فعل الأمر نفسه.
وجدت دراسة جديدة من "مركز ابتكار المواهب" Center for Talent Innovation أنّ جزءاً كبيراً من القوى العاملة الإدارية (الياقات البيضاء)، وفقاً لتعريف حكومة الولايات المتحدة الأميركية للإعاقة لعام 2015، يعانون من إعاقة جسدية أو عقلية تحدّ بشكل كبير من نشاطهم الحياتي الرئيسي: 30% من أصل 3,570 موظفاً إدارياً شملهم استطلاع يعبّر عن الأوضاع الوطنية، إذ تتشابه الأرقام باختلاف الجنس والعرق والجيل. لا يشكّل الموظفون أصحاب الإعاقة مجموعة مواهب كبيرة فحسب، بل مجموعة مبتكرة أيضاً على نحو ملفت: فقد أشار 75% منهم إلى أنّهم يمتلكون فكرة توفّر قيمة لشركتهم (مقابل 66% من الموظفين الذين لا يعانون من إعاقات). ومع ذلك، نجد أنّ الأفراد أصحاب الإعاقة كثيراً ما يعانون في مكان العمل من التمييز والتحيز والإقصاء، ويواجهون عقبات أمام التقدم الوظيفي، ما يعني أنّ أصحاب العمل يخسرون الكثير من المواهب والإمكانات الهائلة للابتكار.
يُفاجأ الكثير من الناس عندما يعلمون بوجود هذا العدد المرتفع من الموظفين المصابين بإعاقات، وذلك لأنّهم يفترضون أنّ "الإعاقة" تعني معاناة الشخص من إعاقة جسدية، فيما يشير الواقع إلى أنّ قرابة ثلثي المشاركين في الدراسة يعانون من إعاقة غير مرئية رغم أنّها مُدرجة ضمن التعريف الفيدرالي. ومن بين هذه الأمراض، داء الذئبة الجلدي، أو داء كرون الذي يؤدي انتشاره إلى التسبب في العجز، والصداع النصفي الذي يمكن أن يسبب عمى مؤقتاً، واضطرابات المزاج مثل الاكتئاب، وصعوبات التعلم مثل عسر القراءة، أو الفوارق النمائية مثل التوحّد، إضافة إلى غيرها من أشكال التنوع العصبي. ويقول حوالي 62% منهم إنّ معظم الناس لا يعرفون بوجود إعاقة لديهم ما لم يتعمدوا الكشف عنها.
لا يكشف عن الإصابة بأحد أنواع هذه الإعاقات سوى 21% من الموظفين، وذلك بناءً على نصيحة من العائلة أو الأصدقاء أو حتى محامي التوظيف الذين يوصونهم بالالتزام الصمت خوفاً من التمييز، وهم محقون في أن يكونوا متردّدين، فقد أشار أكثر من ثلث المشاركين في الاستطلاع من ذوي الإعاقات إلى إنّهم عانوا من التحيز السلبي خلال العمل في شركاتهم الحالية، وكلما كانت الإعاقة واضحة أكثر زاد احتمال التحيز. والموظفون يُقصون زملاءهم من ذوي الإعاقة، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا، عن طريق إطلاق أحكام خاطئة عليهم، والتقليل من شأن ذكائهم، وإهانتهم أو تجنّبهم أو مضايقتهم عبر التحديق إليهم، أو رفض النظر في أعينهم.
في المقابل، يُظهِر الموظفون أصحاب الإعاقة نقاط قوة مثل المثابرة والانضباط والرغبة في الالتزام، ولكنّهم يشعرون أنّ أصحاب العمل لا يقدّرون هذا. فمن بين 75% من الموظفين أصحاب الإعاقة الذين يقولون إنّ لديهم أفكاراً تستحق التسويق، يقول 48% إنّ أفكارهم تجاهلها أشخاص لديهم سلطة التعامل معها، ويلفت 57% منهم إلى أنّهم يشعرون أنّ حياتهم المهنية عالقة، ويشعر 47% أنّهم لن يصلوا أبداً إلى منصب ذي نفوذ في شركتهم، بغضّ النظر عن أدائهم أو ما إذا كانوا مؤهلين له. سمعنا خلال المقابلات أنّ الأشخاص ذوي الإعاقة يواجهون تحيزاً كبيراً ووصمة عار (عن قصد أم من غير قصد) من الزملاء والمدراء. وقال أحد المشاركين في الاستطلاع من مواليد الألفية الثانية "لقد أمضيت في الشركة ستة أعوام دون ترقية رغم أنّ أدائي ممتاز، لا يمكنني أن أؤكّد أنّ إصابتي بالشلل الدماغي لعبت دوراً في ذلك، ولكنّ الحقيقة تشي أنّك لا ترى في القطاع مدراء تنفيذيين من ذوي الإعاقات".
ثمّة طرق لإزالة التحديات التي تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة وتفتح الباب أمام فرص مبتكرة. يكشف البحث الذي أجريناه أنّ سلوكيات القيادة الشاملة التي تستفيد من التنوع لتعزيز الابتكار ونمو السوق، يمكنها أن تمكّن المدراء من دعم الأفراد ذوي الإعاقة. وتشتمل هذه السلوكيات على الاستماع إلى كلّ فرد من أفراد الفريق، وتقديم ملاحظات عملية، وتمكين أعضاء الفريق من اتخاذ القرارات، وتقبل اقتراح أفكار جديدة من قبل الجميع. يُعتبر الموظفون أصحاب الإعاقة الذين يكون لديهم قادة فريق شاملون أقلّ عرضة لمواجهة التحيز بنسبة 36% (مقارنة بالذين ليس لديهم مثل هؤلاء المدراء)، وأقل عرضة لقمع الذات في العمل بنسبة 14%، وأقل عرضة للإحباط في حياتهم المهنية بنسبة 32%، إضافة إلى ارتفاع نسبة تأييد أفكارهم.
تعليم المدراء إظهار سلوكيات القيادة الشاملة ليس إلا الخطوة الأولى، فالشركات تحتاج أيضاً إلى إنشاء ثقافة دعم وإدماج (شمول) عن طريق القيام بما يلي:
- التدريب. يحتاج الكثير من الموظفين أصحاب الإعاقة إلى الدعم لمواكبة وتيرة الأعمال، غير أنّ زملاءهم ومدراءهم قد لا يعرفون كيف يساعدونهم، أو قد لا يمتلكون الصبر لتقديم المساعدة. لذا، ينغي للشركات أن تضع أنظمة لمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة وكذلك مدرائهم وأقرانهم. في إطار استراتيجية "يونيليفر" (Unilever) لمساعدة الموظفين ذوي الإعاقة على تأسيس حياة مهنية طويلة الأجل، أبرمت الشركة شراكة مع إدارة خدمات التأهيل في ولاية كونيتيكت، وخدمات التوظيف في جنوب شرق الولايات المتحدة من أجل إطلاق برنامج للتدريب والتوظيف. يوفر البرنامج تدريباً لمحللي خدمة العملاء ومنسقي التوزيع الإقليمي - وظيفتان للمبتدئين تُتاحان بشكل متكرر - إضافة إلى تدريب للموظفين الحاليين للوعي بالإعاقة ومساعدتهم على دعم زملائهم ذوي الإعاقة بشكل أفضل، والهدف من ذلك يتمثّل في تدريب 20 إلى 30 موظفاً من ذوي الإعاقة سنوياً بمعدل تحويل الفرص التدريبية إلى وظائف بدوام كامل بنسبة 50%.
- توفير فرص تطوير القدرات القيادية للموظفين ذوي الإعاقة. يمكن أن يؤدي التحيز اللاواعي إلى تجاهل المدراء للأشخاص ذوي الإعاقة وعدم ضمهم إلى البرامج القيادية، يستطيع المدراء توفير خيارات تطوير مهني مصمّمة لهؤلاء الأشخاص من أجل مكافحة هذا الأمر، كما يمكن أن يتيحوا لهم الفرص الموجودة والمتاحة لمجموعات مختلفة من المواهب. على سبيل المثال، مجموعة "أبيليتيز إن موشن" (Abilities in Motion) لموارد الموظفين من ذوي الإعاقة والموظفين الذين تضم أسرهم أفراداً ذوي إعاقة، والتابعة لشركة "كيه بي إم جي" (KPMG)، أطلقت مبادرة منذ عامين لمنح موظفي الشركة ذوي الإعاقة فرصة لصقل مهاراتهم القيادية. تربط المبادرة القادة الطموحين ذوي الإعاقة مع القادة في المراكز العليا داخل الشركة، فيقدمون لهم المشورة والنصح، كما يشاركون في مؤتمر تطوير القيادة "التغيير الملهم والشمول المؤثر" (Inspiring Change, Influencing Inclusion) الذي تنظمه "كيه بي إم جي"، إذ يشاركون في ورش عمل وحلقات نقاش مع كبار القادة، مع التركيز على الحضور في مجال الإدارة التنفيذية وبناء ومهارات قيادية.
- القدوة. عندما يوجد مدير تنفيذي بارز ذو إعاقة، يصبح من السهل على الموظفين الآخرين من ذوي الإعاقة أن يروا أنفسهم في مناصب قيادية في شركاتهم. كما أنّ نماذج القدوة هذه تساعد في تغيير طريقة تفكير الأشخاص الذين يمتلكون خبرة أقل مع الأشخاص ذوي الإعاقة بشأن بما ينبغي أن يكون عليه القائد. تعرّض رئيس شركة "أتنا" (Aetna) ومديرها التنفيذي، مارك بيرتوليني، لحادث تزلج أدى إلى تلف كبير في حبله الشوكي. ولكنّه أصرّ بعد الحادث على العودة إلى العمل باستخدام كرسي يسند رقبته ولوحة مفاتيح تتيح له العمل بيد واحدة، إضافة إلى أريكة للراحة عند الحاجة، ووسائل راحة أخرى. واستمرّ خلال عمله بالحديث عن الألم المزمن الذي يعاني منه جرّاء الحادث، ليكون قدوة للآخرين ويريهم ألا شيء مستحيل.
- كوّن حلفاء في المؤسسة. شجِّع الموظفين على التحدث وإظهار تعاطفهم مع الأشخاص ذوي الإعاقة، خصوصاً الزملاء الذين يعرفون التحديات التي يواجهها الأشخاص أصحاب الإعاقة، سواء عن طريق العلاقات الشخصية أو تقديم الرعاية. يشير مدير العمليات في شركة "كيه بي إم جي" العالمية، شون كيلي، إلى أهمية التحدث علناً عن رعايته لابنته التي تعاني من متلازمة داون، ويقول إنّ "وصمة العار تتلاشى على ما يبدو لأنّ ثمّة شخصاً ما في دور قيادي يرتاح للحديث عن الأمر".
لطالما نظرت الشركات إلى الموظفين أصحاب الإعاقة بعين الامتثال، وتوفير وسائل الراحة، ولكنّ الوقت قد حان للنظر إلى الإعاقة بعين أخرى: الشمول والإمكانات غير المحدودة.