يزيد إنفاق الولايات المتحدة بمعدل 40% لكل مريض عن الدول المتقدمة الأخرى، ولكنها تحظى بنتائج صحية سيئة على وجه العموم. هناك إجماع عام على أن الحل الرئيس يكمن في تحسين إدارة الأمر والوقاية من الأمراض المزمنة لدى البالغين وخاصة مرض السكري والسكتة القلبية. ولكن البدء في مرحلة البلوغ يُعدّ متأخراً جداً. فالكثير من نتائج الرعاية الصحية تتشكل في مرحلة الطفولة. معنى هذا أنه يجب أن تبدأ جهود تحسين تلك النتائج في مرحلة الطفولة. هناك دور هام جداً يمكن أن تؤديه النماذج الجديدة تماماً للرعاية الأولية الشاملة للأطفال – التي تحتل موضع الصدارة فيها مؤسسات مثل "مركز جونز هوبكنز للأطفال – هارييت لين كلينك" (Johns Hopkins Children’s Center Harriet Lane Clinic)، و"منطقة هارلم للأطفال" (Harlem Children’s Zone)، ومؤسسة "شركاء في رعاية الأطفال" (Partners for Kids) التابعة لمستشفى "ناشين وايد للأطفال" (Nationwide Children’s Hospital).
هناك 4 سلوكيات رئيسة غير صحية تؤدي إلى أمراض البالغين: تدخين التبغ، الإفراط في شرب الكحول، سوء نظام التغذية، والخمول الجسدي. كما أن ما نطلق عليه اسم تجارب الطفولة الضارة (مثل: الاعتداء النفسي أو العاطفي أو الجسدي) يسهم أيضاً في الأمراض النفسية لدى البالغين وأيضاً الكثير من الأمراض المزمنة لديهم. وكذلك الظروف المعيشية السيئة والفقر ربما تكون أكثر التأثيرات السلبية انتشاراً في صحة البالغين، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين البالغين بمعدل 20% إلى 50%، حتى وإن تغيرت أحوالهم في مرحلة البلوغ، ولم يعودوا يعيشون في فقر أو في بيئات ملوثة أو غير آمنة.
لا تبذل النماذج الحالية للرعاية الأولية للأطفال الجهد المطلوب لمعالجة هذه الأسباب "غير الطبية"، ومن ثَم فقد كانت غير فاعلة إلى حد كبير في الوقاية من أمراض البالغين. وبناء على ذلك، فإن إصلاح الرعاية الأولية في مجال طب الأطفال ينطوي على إمكانية كبيرة لتحسين نتائج الرعاية الصحية الشاملة في الولايات المتحدة. ويجب أن يكون الهدف متمثلاً في إبقاء الأطفال في مسار منضبط حتى يكونوا منتجين وناجحين ويتمتعوا بصحة جيدة، بدلاً من الاكتفاء بتوفير العلاج لهم عندما تصيبهم الأمراض. وهكذا فإننا في حاجة إلى نماذج جديدة من الرعاية الأولية للأطفال تتسم بالميزات التالية:
الشمول واعتماد الفريق كأساس لها. يجب أن تعالج الرعاية الأولية للأطفال بشكل صريح وشامل، ليس فقط صحة الأطفال من الناحية الطبية ولكن أيضاً سلوكياتهم غير الصحية، والظروف الاجتماعية والجسمانية، والوضع الاجتماعي الاقتصادي لهم. ولتحقيق النجاح والفاعلية من حيث التكلفة في معالجة الأحوال الصحية الشاملة للأطفال، يتعين وجود فريق كبير من العاملين غير الطبيين ممن يمتلكون القدرة على التدريب ولديهم المهارات المتنوعة للعمل مع الأطفال وأولياء أمورهم. يجب أن يتضمن الفريق بالإضافة إلى طبيب الأطفال أخصائيين في الإدمان لمعالجة تعاطي المخدرات، ومحامين لمعالجة قضايا الإيواء أو الحضانة، وأخصائيين في مجال تغيير السلوك، ومدراء للحالات، وأخصائيين في مجال التغذية، ومساعدين طبيين، وممرضات وممرضين ممارسين، ومساعدي أطباء، وأطباء نفسيين، وأخصائيين نفسيين، وأخصائيين اجتماعيين، ومعلمين، ومدراء مدارس.
يتجه "مركز جونز هوبكنز للأطفال – هارييت لين كلينيك" في بالتيمور نحو هذا النموذج الشامل المستند إلى الفريق. يقدم هذا المستشفى خدمة شاملة لمجموعة كبيرة من الخدمات بالإضافة إلى الرعاية الطبية التقليدية. وتشمل هذه الخدمات سلامة الأطفال الرضّع والوقاية من الإصابات، والخدمة الاجتماعية، والدعم القانوني، وإدارة الحالات، والدروس التعليمية، وفصول اللياقة البدنية، والتغذية والرضاعة، والصحة النفسية، ورعاية الأسنان. كما أسّس هذا المستشفى شراكة مع مؤسسات معترف بها على المستوى الوطني مثل برنامج "تواصل واقرأ" (Reach Out and Read) لتحسين لغة الطفولة ومحو الأمية، ومؤسسة "هيلث ليدز" (Health Leads) (سابقاً مشروع "الصحة" (HEALTH))، لتقييم الاحتياجات الإضافية للأسر وربطها بالموارد المجتمعية.
الاستمرارية والتنسيق. يحتاج كل من الأطفال وأسرهم إلى أن يكونوا قادرين على الوصول إلى فريق الرعاية الخاص بهم على الفور وقت الحاجة إليه. كما أن هذا يتطلب الاستمرارية لأجل تكوين علاقات علاجية هادفة. ولأن فريق الرعاية هذا فريق كبير يعتني بالمرضى، فمن الضروري توافر مسارات واضحة وفاعلة للتواصل وتدفقات العمل لضمان أن تكون تجربة المريض سلسة ومنظمة قدر الإمكان. كما يجب أن يكون هذا التكامل ممتداً طوال حياة المريض مع تقدمه في العمر، رأسياً بين الرعاية الأولية والتخصصية والمستشفيات، وأفقياً بين النظم الصحية ومختلف القطاعات المشاركة (مثل التعليم والصحة العامة والمؤسسات غير الهادفة للربح)، بل وحتى بين الأجيال فيما يتعلق برعاية الآباء والأمهات والأطفال. معنى هذا أنه يجب على جميع مقدمي الرعاية الذين يراهم المريض - من الولادة وحتى سن الرشد، داخل المستشفى وخارجه، ومن مدينة إلى أخرى، وفي المدرسة، وفي مكتب الطبيب أو المعالج – مشاركة المعلومات ببساطة وكفاءة.
تسعى مؤسسة "منطقة هارلم للأطفال" في حيّ هارلم بمدينة نيويورك جاهدة لتوفير تلك الرعاية. وقد أُنشئت هذه المؤسسة في عام 1997، وهي تتبع نهج خدمة الرعاية من "المهد وحتى الجامعة" في خدمتها لمجتمعها الجغرافي بشكل شامل، ذلك الذي يضم حوالي 100 شارع، مزودة إياه بخدمات متكاملة، تشمل المدارس والبرامج عالية الأداء للطفولة المبكرة، والإعداد الضريبي، والحفاظ على الأسرة، والإسكان، والتغذية، وممارسات متنوعة تستهدف تحقيق 600 هدف. وهدف المؤسسة الأساسي هو مساعدة الأطفال على التخرج في الجامعة. وقد أظهر البرنامج نتائج واعدة ومبشرة: بعد 6 سنوات فقط من إطلاق البرنامج، شهدت مجموعة من المشاركين زيادة في التحصيل الأكاديمي، وانخفاضاً في معدلات الإيداع في السجون وحمل المراهقات. وكان هذا أيضاً مصدر الإلهام لـ "مبادرة المناطق الواعدة" (Promise Zones Initiative) التابعة لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأميركية، التي قدمت أكثر من 30 مليون دولار في العام الماضي للحاصلين على المنح بهدف تحقيق أهداف مثل تطوير سلسلة كاملة من الاستراتيجيات الخاصة بالمساعدة من المهد حتى الحياة المهنية، وتحطيم حواجز الاتصال بين الوكالات المجتمعية.
الاستباقية واعتماد السكان كأساس لها. يجب أن يتمثل الهدف في تحديد الأطفال المعرضين للخطر بشكل استباقي قبل أن يصابوا باعتلالات صحية وإبقائهم على المسار الصحيح إلى الصحة الجيدة، بدلاً من انتهاج أسلوب رد الفعل في التعامل مع المشكلة ومعالجة الحالات الموجودة فعلياً. معنى هذا أن أطباء الرعاية الأولية للأطفال وأعضاء الفريق الآخرين مسؤولون عن صحة جميع مرضاهم كل يوم، وليس فقط المرضى الذين يزورون المستشفى لتلقي العلاج. وحتى يتسنى لأعضاء الفريق فعل ذلك، يتعيّن على الذين يعتنون بمريض واحد منهم أن يتتبعوا ويراقبوا باستمرار المقاييس الشائعة للصحة الجيدة بصورة كاملة، والعمل على تحقيق أهداف مشتركة مثل زيادة الاستعداد للمدرسة ودرجات الاختبارات، والحد من كل من التغيب والإيداع في السجن وتعاطي المخدرات والحمل غير المرغوب فيه، وزيادة معدلات التخرج في الجامعة والمكاسب على المستوى المهني، وبطبيعة الحال، زيادة فحوص السرطان، واللقاحات والحد من الإصابة بالأمراض المزمنة. يجب على الفريق تطوير استراتيجيات تعاونية بهدف تحقيق تلك الأهداف، وتحديد الأولويات للمرضى ذوي الاحتياجات المعقدة، وتكييف التدخلات بما يتناسب مع الاحتياجات الخاصة لمختلف المجموعات الفرعية من المرضى.
نجحت مؤسسة "شركاء في رعاية الأطفال" على مستوى البلاد والمسؤولة عن تنظيم الرعاية، وهي أكبر مؤسسة مسؤولة عن الرعاية في مجال طب وصحة الأطفال، في استخدام إدارة صحة السكان في مجال طب الأطفال. ذلك أن هذه المؤسسة تحرص على تتبع البيانات عبر أكثر من 20 مؤشراً لجودة طب الأطفال وضعتها "وكالة بحوث الرعاية الصحية والجودة" (AHRQ)، بالإضافة إلى مقاييس الاستخدام، ما أدى إلى تحسين جودة الرعاية وتحقيق وفورات في التكاليف بين مجموعة السكان من الأطفال تحت مظلة "برنامج المعونة الطبية" (Medicaid). كما تعمل تلك المؤسسة أيضاً على توسيع استراتيجيتها الآن لتلبية الاحتياجات الصحية للأطفال ذوي الإعاقة. ومع ذلك، لا يزال من الضروري أن تتضمن هذه المقاييس تدابير شاملة للصحة الجيدة مثل التحصيل الدراسي أو الانخراط في الجريمة أو نتائج العمل الوظيفي (أي ما إذا كان ذلك الشخص المعني يشغل وظيفة معينة، ودخله من تلك الوظيفة مع مرور الوقت).
تكنولوجيا المعلومات الصحية وغيرها من أنواع التكنولوجيا. سيكون تحقيق هذه الميزات الأساسية أكثر سهولة بمساعدة تكنولوجيا المعلومات الصحية، بما في ذلك السجلات الطبية الإلكترونية وبرمجيات إدارة صحة السكان. يجب تخصيص هذه الأدوات لتناسب السكان، كما يجب دمجها عبر النظام. كما أن الزيارات الشخصية أو الفردية لا تكون دائماً ضرورية أو هي الحل الأفضل. تنطوي التكنولوجيات على إمكانية واعدة للمراقبة والتدخل عن بُعد. فضلاً عن بوابات المرضى عبر الإنترنت، فإن الرسائل النصية، وعقد الاجتماعات عبر تقنية مؤتمرات الفيديو، ومزاولة الطب عن بعد، والفصول أو الزيارات الجماعية، كل هذه الأدوات يمكن أن تساعد فريق الرعاية على التواصل مع المرضى بشكل أكثر ملاءمة واستمرارية وفاعلية.
كما استخدمت مؤسسة "شركاء في رعاية الأطفال" تكنولوجيا المعلومات الصحية لتحقيق أهدافها، وتخصيص السجلات الطبية الإلكترونية بها لتلبية احتياجات منسّقي الرعاية لديها. كما أقرت "الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال" (American Academy of Pediatrics) مؤخراً إرشادات جديدة خاصة بضغط الدم توصي بزيادة استخدام تقنيات مراقبة ضغط الدم خارج المراكز الطبية للأطفال المعرضين للخطر. وعلى الرغم من عدم تطبيق مزاولة الطب عن بُعد على نطاق واسع في طب الأطفال، فإن دراسة استقصائية حديثة أجراها "نظام نيمورس لصحة الأطفال" (Nemours Children’s Health System) تشير إلى وجود رغبة متزايدة في استخدامه بين مقدمي الرعاية.
التمويل. تحتاج نماذج الرعاية الأولية الجديدة للأطفال إلى كل من: (أ) الدفع مقابل القيمة وليس مقابل الكم، و(ب) تمويل نظام الرعاية الشاملة، وليس الاكتفاء بالرعاية الطبية التقليدية. في هذه الحالة، تُعرّف "القيمة" على أنها الوقاية من الأمراض المزمنة لدى البالغين وإدراك الفوائد العديدة للصحة الجيدة عند البالغين (على سبيل المثال، زيادة إنتاجية العمل وزيادة الدخل، والحد من الجريمة ومعدلات الإيداع في السجون، وما إلى ذلك). يجب أن يشترك في دفع مقابل الخدمات جميع الأطراف والمؤسسات التي تساهم في الصحة الشاملة للأطفال: أطباء الأطفال والمستشفيات، والمدرسون والمدارس، والأخصائيون الاجتماعيون، وأقسام الصحة العامة. وعلى الرغم من كثرة العوائق التي تحول دون تنفيذ نظام الدفع هذا، فإن هناك تقدماً ملحوظاً في ذلك. ومما يبعث على الأمل حقيقة أن بعض التدخلات التي تتناول الأسباب المرتبطة بالصحة والأسباب غير الطبية فيما يتصل بالأمراض، قد أظهرت بالفعل فاعلية واعدة من حيث التكلفة وارتفاع العائدات على الاستثمار. ستكون هناك حاجة إلى إجراء تجارب لتحديد الطريقة التي يمكن من خلالها لبرامج رعاية الأطفال الشاملة هذه أن تحقق أفضل عائد على الاستثمار على المدى الطويل.
وتُعد "مراكز الرعاية الصحية والخدمات الطبية" (Centers for Medicare & Medicaid Services) (CMS) رائدة في تشجيع طرق الدفع البديلة على مستوى البلاد. ففي عام 2015، وفي مجال رعاية البالغين، أعلنت مراكز الرعاية الصحية والخدمات الطبية عن أهداف دفع طموحة تستند إلى القيمة فيما يتصل ببرنامج الرعاية الصحية "ميديكير" (Medicare)، وهو ما تحقق قبل 11 شهراً من الموعد المحدد. أما في مجال طب الأطفال، فقد موّلت مراكز الرعاية الصحية والخدمات الطبية مؤسسة "شركاء في رعاية الأطفال" من خلال جائزة الابتكار للرعاية الصحية بمبلغ 13.1 مليون دولار، كما تم تشكيل العديد من المؤسسات المسؤولة عن الرعاية في مجال طب الأطفال بمساعدة تمويل "برنامج المعونة الطبية". تضمن قانون الرعاية ميسورة التكلفة أحكاماً لمشروع أكبر لإبراز المؤسسات المسؤولة عن الرعاية في مجال طب الأطفال، ولكن لسوء الحظ، لم يتم تمويل هذا المشروع.
ولا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه تبني النماذج الشاملة الجديدة للرعاية الأولية للأطفال في الولايات المتحدة. وسوف يتطلب دمج الخدمات الشاملة إحداث تغييرات كبيرة في الثقافة والبنية التحتية والتدريب والتنظيم والتمويل. كما أن تقييم سلوكيات الطفل غير الصحية والبيئة الاجتماعية والمادية وفقر الأسرة سيكون أمراً صعباً، وسوف يتطلب أدوات قياس جديدة. وسوف يكون إثبات القيمة أيضاً أمراً صعباً جداً: فلن تصبح نتائج التدخل في الطفولة للوقاية من أمراض البالغين واضحة لمدة عقود من الزمن.
ومن ثم، يجب تطوير نماذج التنبؤ والتحقق من صحتها بحيث تتكون لدى دافعي الضرائب وصانعي السياسات والجمهور العام القناعة بأن الدفع الآن لرعاية أكثر شمولية بالنسبة إلى الأطفال، بكل العناصر المذكورة أعلاه، سوف يوفر الكثير من المال في المستقبل. تشير الأدلة حتى الآن، هنا وفي الخارج على السواء، إلى أن الاستثمار في الرعاية الشاملة للأطفال سيحقق قيمة بارزة. من ناحية أخرى، إذا واصلنا غض الطرف عن هذه المشكلات "غير الطبية" رغم أهميتها البالغة كما يواجهها أطفالنا، فسنظل بالتأكيد أمام نتائج صحية سيئة للبالغين مع زيادة تكاليف الرعاية الصحية.