إننا نلغو ونثرثر وننهمك في القيل والقال والمزاح. لكن في بعض الأحيان نخوض مناقشات مجهدة، أكثر مما نود، وهي تلك الحوارات الحساسة التي من شأنها أن تؤذينا أو تلاحقنا على نحو لا يفعله أي نوع آخر من الحديث. ولهذا نحتاج لمعرفة أهم طرق تخفيف التوتر في المناقشات، ولا يمكن تجنّب المناقشات المجهدة في الحياة، وفي مجال الأعمال يمكنها أن تتدرج، على نحو غريب للغاية، من فصل موظف من عمله، إلى تلقّي الثناء. إذاً لنطرح السؤال التالي: كيف أزيل التوتر والقلق من النقاشات المجهدة؟
إنّ المناقشات المجهِدة، بغضّ النظر عن سياقها، تختلف عن المناقشات الأخرى بسبب الأحمال العاطفية التي تنطوي عليها. إذ تستدعي هذه المناقشات الإحراج والالتباس والقلق والغضب والألم أو الخوف، إنْ لم يكن لدينا، فلدى نظرائنا. والواقع أنّ المناقشات المجهِدة تسبّب القلق لدرجة أنّ معظم الأشخاص يتجنبونها. وهذه الاستراتيجية ليست خاطئة بالضرورة؛ إذ إنّ إحدى القواعد الأولى للمشاركة، هي تركيز جهدك على ما يستحق التركيز. ولكن في بعض الأحيان قد يكون الأمر مكلفاً للغاية لتفادي المشكلات واسترضاء الأشخاص صعبي المراس والتخفيف من الخصومات؛ لأنّ الحقيقة هي أنّ التفادي عادة ما يجعل المشكلة أو العلاقة أسوأ.
وفي حين أنّ المناقشات المجهدة شائعة للغاية - ومؤلمة للغاية - فلم لا نعمل بجد لتحسينها؟ السبب هو لأنّ مشاعرنا متشابكة للغاية. إذ عندما لا نتورط عاطفياً في قضية ما، فإننا نعلم أنّ الخلاف أمر طبيعي، وأنه بالإمكان حله - أو على الأقل التعامل معه. ولكن عندما تتعرض المشاعر للإثارة، يختل توازن معظمنا. وكما هو حال الظهير الرباعي الذي يتعرض في مباراة كرة قدم للضغط بسبب الوتيرة المتسارعة للّعب، يفقد أي أمل في الوصول إلى خط المرمى.
ظللت، على مدار العشرين عاماً الماضية، أدرس الفصول الدراسية وأعقد ورشات العمل في بعض الشركات والجامعات الكبرى في الولايات المتحدة بشأن كيفية التواصل أثناء المناقشات المجهِدة. وقد تعلّمت، في الفصول الدراسية باعتبارها مختبري الخاص، أنّ معظم الأشخاص يشعرون بعدم القدرة على التحدث خلال القضايا الحساسة. إذ يبدو الأمر وكأن كل مهاراتنا تذهب أدراج الرياح ولا يمكننا التفكير على نحو مفيد بشأن ما يحدث أو ما بوسعنا أن نفعله لتحقيق نتائج طيبة.
بيدَ إنّ المناقشات المجهِدة لا يجب أن تكون على هذا النحو. فقد رأيت أنه يمكن للمدراء تحسين المناقشات الحادة بشكل أحادي إذا ما تعاملوا معها بقدر أعلى من الوعي بالذات، وتدرّبوا عليها مسبقاً، وطبّقوا فقط ثلاثة أساليب للتواصل أثبتت جدواها. ولا تسيئوا فهمي؛ إذ لن يوجد مطلقاً نهج نمطي للمناقشات المجهدة. فهناك الكثير من المتغيرات والكثير من التوتر، كما أنّ التفاعلات بين الأشخاص في المواقف الصعبة هي دائماً فريدة من نوعها. بيد إنّه يمكن اعتبار جميع المناقشات المجهِدة تقريباً بمثابة مزيج من عدد محدود من المناقشات الأساسية، ولكل منها مجموعة مميزة من المشاكل. وسنستكشف كيف يمكنكم توقع هذه المشكلات والتعامل معها. ولكن أولاً، دعونا نلقي نظرة على المناقشات المجهِدة الثلاث الأساسية التي نصطدم بها في أغلب الأحيان في مكان العمل.
المناقشات المجهِدة الثلاث في بيئة العمل
"لديّ خبر سيئ لك"
عادة ما يكون نقل الأخبار غير السارة أمراً صعباً لكلا الطرفين. وغالباً ما يكون المتحدث متوتراً والمستمع قلقاً بشأن الغاية التي تمضي إليها المناقشة. لنأخذ حالة حسن، وهو مدير مؤسسة غير ربحية، فقد كان في موقف غير مريح نظراً لأنه كان يلزمه التحدث مع وليد، وهو باحث طموح، كان لديه رأي أعلى بكثير من الآخرين في المؤسسة بسبب أدائه الوظيفي. وكانت التعقيدات بالنسبة إلى حسن متعلقة بأنّ وليد تلقّى في الماضي تقييمات عالية بصورة مفتعلة. وكانت هنالك عدة أسباب لهذا الأمر. ويرتبط أحد هذه الأسباب بثقافة المؤسسة؛ فالمؤسسة غير الربحية لم تكن من نوع مكان العمل الذي يتخذ منحى المواجهة. فضلاً عن ذلك، كان لدى وليد ثقة هائلة في قدراته وجودة خلفيته الأكاديمية على حد سواء. وإلى جانب استجابته الدفاعية للانتقادات المعتدلة، قادت هذه الثقة الآخرين - بما في ذلك حسن - إلى التغاضي عن المناقشات بشأن نقاط الضعف التي كانت تتداخل مع قدرة وليد على تقديم عمل عالي الجودة. كما كان لدى وليد روح دعابة لاسعة، على سبيل المثال، أفضت إلى الإساءة إلى أشخاص داخل قسمه وخارجه. ولم يتحدث معه أحد من قبل عن أي شيء من ذلك بشكل مباشر، ولكن مع مرور الوقت، كان عدد متزايد من الأشخاص يُحجمون عن العمل معه. وبالنظر إلى أن وليد لم يتلق أي نقد ملموس تقريباً على مر السنين، استحكم أسلوبه اللاذع الآن وأضحى الموظفون قلقين منه.
التحدي الرئيس في المناقشات من هذا النوع هو افتتاحها ببداية صحيحة. فإن بدأت الحوار بشكل جيد إلى حد معقول، ستتاح لبقية المناقشة فرصة جيدة أن تسير على نحو حسن. ولكن إن لم تمض افتتاحية المناقشة على ما يرام، فمن شأن ذلك أن يهدد بانحراف بقية المناقشة إلى ما لا تُحمد عقباه. ويبدأ العديد من الأشخاص هذه المناقشات بإبداء إشارة خفيفة في محاولة ليكونوا لطيفين. وهذا ما فعله حسن؛ حيث افتتح حواره مع وليد قائلاً: "ما رأيك بفريق ‘ريد سوكس’ (Red Sox)؟".
وبطبيعة الحال، أساء وليد فهم الغاية التي يرمي إليها حسن، وبقي على غروره وأنفته المعتادين. واستشعر حسن ذلك، وأحس أنه كان عليه التخلي عن الأسلوب اللطيف. وسرعان ما أصبحت المناقشة صريحة للغاية، تولى فيها حسن كل الكلام تقريباً. وعندما انتهى المشهد، كان وليد يحدّق ببرود إلى الأرض، قبل أن ينهض بصمت شديد ويغادر. شعر حسن بالارتياح؛ فمن وجهة نظره أنّ التفاعل كان مؤلماً ولكنه كان سريعاً. ولاحظ ساخراً أن المناقشة لم تُخلّف الكثير من الدماء على الأرض. لكن بعد يومين، سلّم وليد استقالته، آخذاً معه الكثير من الذاكرة والكفاءة المؤسسيتين.
"ما الذي يجري هنا؟"
نخوض في كثير من الأحيان مناقشات مجهدة تُفرض علينا فرضاً. وفي الواقع، فإن أسوأ أنواع المناقشات - وخاصة بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتجنبون الخلافات - هي المناقشات غير المتوقعة، التي تندلع مثل العواصف الصيفية المتأججة. ففجأة تصبح المناقشة مشحونة عاطفياً بشدة، ويتطاير الشرر منها يمنة ويسرة. والأمر الأسوأ أنّه ما من معنى للأمر كله. إذ يبدو الأمر وكأننا قد جُذبنا إلى سحابة سوداء من المنطق المشوه والأحاسيس المحوّرة.
ولننظر إلى حالة حسناء وكريم. فهما كانا قائدا فريق يعملان معاً في مشروع لشركة استشارية كبرى. ويبدو أنّ كل شيء سيئ يمكن أن يحدث في المشروع قد حدث، وتعثّر العمل بشكل كبير. وكان هذان الاستشاريان يجتمعان لمراجعة جدولهما الزمني بالنظر إلى التأخيرات، ولتقسيم المهام المحبطة للأسبوع المقبل. وأثناء حديثهما، كانت حسناء تكتب على السبورة البيضاء وتمحو ما تكتبه. وعندما انتهت، نظرت إلى كريم وقالت بواقعية: "هل هذا هو كل شيء؟". ليضغط كريم على أسنانه من الإحباط ويجيبها بعصبية: "إن كان هذا هو رأيك". تراجعت حسناء، وأعادت تكرار الحوار الذي دار بينهما في رأسها لكنها لم تستطع معرفة ما الذي استفز كريم؛ إذ بدا رد فعله منفصلاً تماماً عن تعليقها. ورد الفعل الأكثر شيوعاً لأي شخص في مكان حسناء هو الدفاع عن نفسها كما لو كانت مذنبة من خلال رفض اتهام كريم غير المعلن. لكن حسناء لم تشعر بالارتياح إزاء المواجهة، لذا حاولت تهدئة الموقف، وتلعثمت قائلة: "أنا آسفة يا كريم، هل هناك خطب ما؟". ليرد عليها كريم بسرعة: "مَن أوكل لك القيادة؟"، "من قال لك أن تكلفيني بعمل؟".
ومن الواضح أنّ كريم وحسناء قد أجريا للتو مناقشة صعبة، حدثت فيها بعض التجاوزات. لكن حسناء لا تعرف بالضبط ما هي هذه التجاوزات. وشعرت بالصدمة؛ فقد أساء كريم تفسير محاولتها التعجيل بالمهمة الماثلة. بينما يشعر كريم أنه قد وُضع في موقف الدونية بسبب ما يراه سلوك حسناء المسيطر. ولسبب غير مفهوم، يبدو أن هناك أكثر من شخصين يشاركان في هذه المناقشة، وأنّ الأطراف غير المرئية تخلق الكثير من التشويش.
شعرت حسناء بالاستياء من كريم لوهلة واعتذرت له مجدداً قائلة: "أنا آسفة. كيف تريد تقسيم العمل؟". وأفضت إحالة الأمر إلى كريم بهذه الطريقة إلى تلطيف الأجواء المتوترة في الوقت الحاضر. لكنها شكّلت سابقة لعدم المساواة، وهو وضع لم تكن حسناء أو الشركة تعتقد أنه صحيح. والأمر الأسوأ من ذلك أنه على الرغم من أنّ كريم وحسناء بقيا في الفريق نفسه بعد حوارهما المؤلم، إلا أنّ تغيُّر الوضع أثار غضب حسناء، وانتقلت من المشروع بعد ثلاثة أشهر.
"أنت تهاجمني!"
الآن، دعونا نوجه اهتمامنا صوب المناقشات المجهِدة بشدة، التي يستخدم فيها الأشخاص جميع أنواع الآليات النفسية والخطابية لإفقاد نظرائهم التوازن ولتقويض مواقفهم وحتى فضحهم والتقليل من شأنهم. وتتخذ "تكتيكات العرقلة" هذه أشكالاً متعددة، مثل استخدام الألفاظ النابية والاستغلال والصخب، ولا يتعرض كل شخص للاستهداف أو الإرباك باستخدام هذه الآليات نفسها. ولا يكمن الخطر في تكتيكات العرقلة فحسب، بل في اقتران هذه التكتيكات بقابلية الفرد للتأثّر.
ولنأخذ حالة محسن وفاتن، وهما اثنان من كبار المسؤولين الإداريين ويعملان في المستوى نفسه في شركة لتقنية المعلومات. كانت فاتن تقدم عرضاً تقديمياً لأحد العملاء، وكانت المعلومات التي تقدمها ضعيفة وغير منظمة. ولم تتمكن هي وفريقها من الإجابة عن الأسئلة الأساسية. وتحلّى العميل بالصبر والهدوء قبل أن يضيق ذرعاً بوضوح. وعندما أوشك العرض التقديمي على الانهيار حقاً، وضع العميل الفريق في موقف محرج بأسئلة جعلته يبدو قاصراً بشكل متزايد.
ولم يكن محسن، في هذا اليوم بالذات، جزءاً من فريق التقديم؛ بل كان يراقب ببساطة ما يجري. وكان مندهشاً تماماً بقدر اندهاش العميل من الأداء الضعيف لفاتن. وبعد أن غادر العميل، سأل محسن فاتن عما حدث، فثارث غاضبة في وجهه بطريقة دفاعية وقالت: "أنت لست مديري، لذا لا تبدأ في التعالي علي. دائماً ما كنت تقوّضني بغض النظر عما أقوم به". وواصلت فاتن الصراخ في محسن، خصمها الواضح. وفي كل مرة يتحدث فيها، كانت تقاطعه بالاتهامات والتهديدات قائلة له: "أتوق لرؤية كم سيروق لك الأمر عندما يتركك الأشخاص تتخبط في مهب الريح". ليرد عليها محسن: "تمالكي نفسك يا فاتن. أنت تُحرّفين كل كلمة أقولها".
في هذا الموقف، لا تتمثل مشكلة محسن في أنّ فاتن تستخدم مجموعة كبيرة من تكتيكات العرقلة، ولكن كل تكتيكاتها، وهي الاتهام والتشويه والانحراف عن الموضوع، عدوانية. وهذا ما يزيد خطورة الوضع بشكل كبير. ومعظمنا عرضة للتأثّر بالتكتيكات العدوانية لأننا لا نعرف ما إذا كانت العدوانية ستتصاعد وإلى أي مدى ستتصاعد. وقد أراد محسن تجنّب عدوانية فاتن، لكن إصراره على العقلانية في مواجهة الانفعالية لم يكن مجدياً. ليتغلب النهج العدواني لفاتن على نهجه الهادئ. ونتيجة لذلك، وجد محسن نفسه محاصراً في فخ اختيارات فاتن. وعلى وجه الخصوص، فقد أزعجته تهديداتها بأنها ستنتقم منه بهذا العميل. ولم يستطع معرفة ما إذا كانت تثرثر فحسب أم أنها تعني ذلك. وأخيراً لجأ محسن إلى المدير الإداري، الذي أصبح محبطاً، وغدا غاضباً لاحقاً، من محسن وفاتن بسبب عجزهما عن حل مشكلاتهما. وفي نهاية المطاف، كلفهما افتقارهما إلى المهارات في التعامل مع مناقشاتهما غالياً؛ إذ تخطتهما الترقية كليهما بعد أن ألقت الشركة اللوم بصورة مباشرة في فقدان العميل على فشلهما المستمر في التواصل.
كيف أزيل التوتر والقلق من المناقشات المجهدة؟
التحضير لمناقشة مجهِدة
إذن، كيف يمكننا التحضير لهذه المناقشات المجهِدة الثلاث الأساسية قبل حدوثها؟ البداية الموفقة هي أن تكون مدركاً لنقاط ضعفك حيال الأشخاص والمواقف، حيث لم يتمكن حسن وحسناء ومحسن من السيطرة على نظرائهم، لكن مناقشاتهم المجهدة كانت ستمضي على نحو أفضل لو أنهم كانوا أكثر وعياً بمواطن الضعف لديهم. فمن المهم بالنسبة إلى الأشخاص المعرضين للعدوانية، على سبيل المثال، أن يعرفوا كيفية استجابتهم لها؛ هل سينسحبون منها أم يصعّدونها - هل سيكتفون بالصمت فيها أم سيردّون؟ وعلى الرغم من أنه ما من رد فعل في الاثنين أفضل من الآخر، فإنّ معرفة كيف تستجيب في موقف مجهد ستعلّمك الكثير عن نقاط الضعف لديك، ومن شأنها أن تساعدك في السيطرة على المواقف المجهدة.
وبالإشارة إلى مشكلة محسن، فلو كان أكثر وعياً بذاته، لعلم أنه يتصرف بعقلانية في مواجهة نوبات العدوانية مثل تلك التي صدرت من فاتن. إذ منح اختيار محسن سلوكاً قائماً على فض الاشتباك فاتن السيطرة على المناقشة، لكن محسن لم يكن مضطراً للسماح لفاتن - أو أي شخص آخر - باستغلال عُرضته للتأثّر. ويمكن لمحسن، في لحظات من تمحيص الذات بشكل هادئ، عندما لا يكون متورطاً في مناقشة مجهدة قائمة، أن يستغرق بعض الوقت للتفكير في عدم قدرته على تحمل نوبات العدوانية غير المنطقية. هذا الوعي بالذات من شأنه أن يحرّه لتحضير نفسه؛ ليس لاتهامات فاتن غير المتوقعة، بل لضعفه المتوقع حيال أي هجوم مفاجئ مثل الذي صدر منها.
ولا يتعلق تكوين الوعي بالتحليل الذاتي الذي لا نهاية له، على الرغم من أنه قد يبدو الأمر كذلك. إذ ينطوي قدر كبير من هذا الوعي - ببساطة - على جعل معرفتنا الضمنية عن أنفسنا أكثر وضوحاً. نحن جميعاً نعلم من التجارب السابقة، على سبيل المثال، أنواع المناقشات والأشخاص التي نتعامل حيالها بشكل سيئ. فعندما تجد نفسك في مناقشة صعبة، اسأل نفسك ما إذا كان هذا أحد هذه المواقف، وما إذا كان يتضمن أحد هؤلاء الأشخاص. على سبيل المثال، هل تكشر أنيابك عندما تواجه منافساً متعجرفاً؟ وهل تنغلق على نفسك عندما تشعر بالإقصاء؟ بمجرد أن تعرف ما هي مكامن الخطر الخاصة بك، يمكنك توقع ضعفك وتحسين استجابتك لهذه المواقف.
وغالباً ما يساعد الوعي الواضح بالذات في إنقاذك من التورط في مناقشة بطريقة تمس مشاعرك بدلاً من مناقشة تخدم احتياجاتك. وبالتفكير مجدداً في حسن، مدير المؤسسة غير الربحية، ووليد، موظفه المغرور، فإنه بالنظر إلى تاريخ وليد، فقد كانت خطة حسن لإجراء المناقشة، بتيسير الدخول فيها، ثم عندما لم ينجح ذلك، كان الانفجار المؤلم والسريع، محكوم عليها بالفشل. وثمة نهج أفضل كان يمكن لحسن اتباعه وهو تقسيم المناقشة إلى قسمين. إذ كان بإمكانه، في اجتماع أول، إثارة القضايا الرئيسة المتمثلة في روح الدعابة اللاسعة لدى وليد وأدائه المخيب للآمال. وكان يمكن عقد اجتماع ثان للمناقشة نفسها. كما كان من شأن التعامل مع الموقف بشكل تدريجي أن يتيح الوقت لكل من حسن ووليد للتحضير لمناقشة ذات اتجاهين بدلاً من تولي أحدهما زمام المشهد بأكمله. ففي نهاية الأمر، لم يكن الموقف ذا طابع ملح، ولم يكن على حسن استنفاد سبل هذا الموضوع على الفور. وفي الواقع، لو أنّ حسن كان أكثر وعياً بذاته، لأدرك أنّ الطريقة التي اختارها لإجراء المناقشة أملاها نفوره من الخلافات أكثر مما أملتها شخصية وليد.
وثمة طريقة ممتازة لاستباق المشكلات المحددة التي قد تواجهها في مناقشة مجهدة وهي التدرب مع صديق محايد. اختر شخصاً لا يعاني من مشكلات التواصل نفسها التي تعاني أنت منها. وينبغي أن يكون هذا الصديق، من الناحية المثالية، مستمعاً جيداً وصادقاً ولكن غير ميّال إلى إصدار الأحكام. وابدأ بالمحتوى؛ فقط أخبر صديقك بما تود أن تقوله لنظيرك دون القلق بشأن نبرة كلامك أو صياغته. كن شريراً، وكن خجولاً، وكن لطيفاً بشكل ساخر، وتنقّل بين حالة وأخرى في نقاشك، ولكن عبّر عما يجيش بداخلك. وراجع ما قلته الآن مجدداً وفكّر فيما يمكن أن تقوله إذا لم يكن الموقف مشحوناً عاطفياً. ويمكن أن يساعدك صديقك لأنه ليس في حالة من الانفعال تجاه الموقف. واكتب ما توصلتما إليه معاً لأنك إذا لم تفعل، فسوف تنساه لاحقاً.
نقّح الآن صياغة حديثك. إذ غالباً ما تكون الصياغة بالغة الاحتقان عندما تتخيّل أنك تتحدث إلى نظير، ولا يسعك سوى التفكير في طريقة واحدة فقط لقول أي شيء. ولكن عندما يقول لك صديقك: "أخبرني كيف تود أن تقول هذا؟"، يحدث أمر مثير للاهتمام؛ إذ إنّ صياغتك غالباً ما تكون أفضل بكثير وأكثر اعتدالاً ومفيدة. تذكّر أنه يمكنك قول ما تريد قوله، ولكنك لن تستطيع قوله على هذا النحو. أيضاً، اعمل مع صديقك على تحسين استخدامك للغة جسدك. وسوف تضحكان عما قريب على التعبيرات التي تخرج في غفلة منك؛ مثل تقافز حاجبيك إلى الأعلى والأسفل، والتفاف ساقيك حول بعضهما البعض مثل التفاف نبات عرق السوس، والضحكات العصبية التي سيُساء فهمها بالتأكيد.
إدارة المناقشة
في حين أنه من المهم تكوين الوعي والتدرب قبل مناقشة مجهدة، فإنّ هذه الخطوات ليست كافية. دعونا نلقي نظرة على ما يمكنك القيام به مع تطوّر المناقشة. ولننظر إلى حالة حسناء، قائدة الفريق التي ادعى زميلها أنها كانت تستأثر بالسيطرة. إذ إنها لم تكن تستطيع التفكير جيداً بسرعة في المواقف التي تتخذ طابع المواجهة، وكانت تعرف ذلك، لذا احتاجت إلى بعض العبارات المحفوظة، وهي العبارات التي يمكن أن تتذكرها على الفور حتى لا تضطر إلى الصمت أو ابتكار شيء من عفو الخاطر. وعلى الرغم من أنّ مثل هذا الحل يبدو بسيطاً، إلا أنّ معظمنا ليس لديه مجموعة أدوات من أساليب المناقشة الجاهزة للاستعمال. ويعد سد هذه الثغرة جزءاً أساسياً من تعلّم كيفية التعامل مع المناقشات المجهدة بشكل أفضل. إذ يلزمنا تعلّم مهارات التواصل بصورة مسبقة؛ وهي الطريقة نفسها التي نتعلم بها مهارات منع الأزمات والتعافي منها، ومعرفة أننا عندما نضطر إلى استخدام هذه المهارات، فإنّ الموقف سيكون حرجاً ومتوتراً. وفيما يلي ثلاث مناورات أثبتت جدواها. وربما لا تتناسب الصياغة المحددة مع أسلوبك، ولا بأس في ذلك. بيد إنّ الأمر المهم هو فهم كيفية عمل هذه الأساليب ثم اختيار الصياغة التي تناسبك.
احترم شريكك
عندما قدّم حسن تعليقات سلبية إلى وليد، كان الأمر سيبعث على الارتياح لو أنه بدأ بالاعتراف بالندم وبعض المسؤولية عن مساهمته في مشكلتهم المشتركة. فربما كان بوسعه أن يقول: "لقد قلّت جودة عملك يا وليد، ويعود ذلك جزئياً إلى إحجام زملائك عن المجازفة في الاقتراب من شفا حسّك الفكاهي بالتحدث عن المشكلات معك. وأنا أتحمل جزءاً من المسؤولية عن هذا لأنني كنت متردداً في التحدّث بصراحة عن هذه المصاعب معك، فأنت تروق لي وأنا أحترمك وقد عملنا معاً لفترة طويلة". إذ يمكن أن يكون الاعتراف بالمسؤولية كأسلوب - وخاصة كافتتاحية للمناقشة - فعالاً لأنه يركز الاهتمام على الفور، لكن دون استفزاز، على الأشياء الصعبة التي يلزم المتحدث أن يقولها ويلزم المستمع أن يصغي إليها.
ولكن هل دائماً ما يكون هذا هو الأسلوب الجيد عند خوض مناقشة صعبة؟ الإجابة هي لا؛ لأنه لن يوجد على الإطلاق أسلوب وحيد جيد بعينه. ولكن في هذه الحالة، يحدد هذا الأسلوب بفعالية مسار مناقشة حسن مع وليد. فهو أسلوب يحترم المشكلات، ويحترم وليد ، ويحترم علاقتهما، ويحترم مسؤولية حسن. وأي أسلوب ينقل الاحترام في مناقشة مجهدة - خاصة تلك المناقشة التي ستأخذ النظير على حين غرة – يكون محل تقدير كبير. وفي الواقع، يمكن أن تؤدي القدرة على التصرف بنُبل إلى نجاح المناقشة المجهِدة أو إلى فشلها. والأمر الأهم من ذلك أنه بينما ترك وليد الشركة، فإنه لا يزال بإمكانه إلحاق الضرر بها من خلال نشر القيل والقال واستخدام معرفته ببواطن الأمور ضد المؤسسة. ويزداد احتمال حرص وليد على جعل الشركة تدفع الثمن بقدر الضيم الذي شعر به في مناقشة حسن معه.
إخماد نيران المواجهة بإعادة صياغة نواياك
يتمثل جانب من الصعوبة الكامنة في المناقشة التي جرت بين كريم وحسناء "في فقرة ‘ما الذي يجري هنا’؟" في أنّ تفسير كريم الخاطئ لكلمات حسناء وتصرفاتها يبدو أنه يتأثر بالإعادة الفورية لما حدث بينهما في المناقشات المجهِدة الأخرى التي أجرياها في السابق. فحسناء لا تُريد أن تُخضِع كريم لتحليل نفسي؛ بل في الواقع، سيؤدي استكشاف المشهد الداخلي لكريم إلى تفاقم هذا الوضع المؤلم. إذن، ما الذي يمكن أن تفعله حسناء لنزع فتيل الوضع بشكل أحادي؟
تحتاج حسناء إلى أسلوب لا يتطلب منها أن تفهم الأسباب الكامنة وراء رد الفعل القوي لكريم، بل تحتاج إلى أسلوب يساعدها في التعامل مع الموقف بفاعلية. كان يمكنها أن تقول له: "أنا أتفهم كيف فهمت ما قلتُه على النحو الذي فهمته يا كريم. لكنّ هذا لم يكن ما قصدته. دعنا نراجع هذه القائمة مرة أخرى". وأسمّي هذا بالأسلوب التوضيحي، وهو أسلوب فعال للغاية في إخماد نيران المواجهة. ويمكن، باستخدامه، أن تغيّر حسناء المواجهة بشكل أحادي إلى نقطة اتفاق. فبدلاً من الجدال مع كريم حول تصوراته ، تمنحه هي تصوراته؛ ففي نهاية المطاف، هي تصوراته هو. وبدلاً من الجدال حول نواياها، تحافظ على مسؤولية التوفيق بين كلماتها ونواياها من جانبها. وتعود إلى المناقشة مباشرة من حيث توقفا.
سيُجدي هذا الأسلوب نفعاً لحسناء بغض النظر عن دافع كريم. فإن أساء كريم فهم ما كانت تقوله بشكل بريء، فهي لن تتشاجر معه، بل تتقبّل رأيه فيما قالته وما فعلته وتصحّحه في ضوء ذلك. وإن دافع كريم عدائياً، فإن حسناء لن توافقه فقط لإرضائه، بل تتقبله وتعيد المحاولة. ولا أحد منهما سيفقد اعتباره، أو يحصل على نقاط على حساب الآخر، أو ينجذب بعيداً عن صلب الموضوع.
حارب التكتيكات وليس الأشخاص
ربما أثار كريم حيرة حسناء، لكن فاتن كانت تتصرف بخبث تام تجاه محسن عندما فقدت أعصابها بعد اجتماع كارثي مع العميل. ومن المؤكد أن محسن لا يمكنه منعها من استخدام تكتيكات العرقلة التي نجحت في استخدامها في الماضي. لكنه يستطيع التفريق بين شخصية فاتن وبين سلوكها. على سبيل المثال، من الأفضل له أن يفكر في ردود أفعال فاتن باعتبارها تكتيكات للعرقلة وليس باعتبارها خصائص شخصية. فإن كان يفكر في فاتن بصفتها شخصاً يتّسم بالتشويه والعدائية والتهديد، فإلى أين سيقوده ذلك؟ وما الذي يمكن أن يفعله أي شخص حيال شخصية شخص آخر؟ ولكن إذا فهم محسن سلوك فاتن باعتباره سلسلة من التكتيكات التي تستخدمها معه لأنها أجدت نفعاً معها في الماضي، فيمكنه التفكير في استخدام أساليب مواجهة لتحييد هذه التكتيكات.
وأفضل طريقة لتحييد تكتيك ما هي تسميته. إذ سيكون من الصعب استخدام هذا التكتيك عند تحديده بشكل صريح. فلو أنّ محسن قال، على سبيل المثال: "نحن عملنا معاً بشكل جيد لفترة طويلة يا فاتن. ولا أعرف كيف أتحدث عما جرى على نحو غير سار في الاجتماع عندما يكون رأيك بشأن ما حدث، وما يحدث الآن، مختلفاَ عن رأيي"، لكان قد قلب الموازين تماماً. ولم يكن ليهاجم فاتن ولا يبقى رهيناً لتكتيكاتها، بل كان سيجعل تكتيكات فاتن في المناقشة هي المشكلة السائدة.
إنّ تحديد التكتيك بشكل صريح، لاسيما التكتيكات العدوانية، هو إخماد لنيران المواجهة لسبب آخر؛ إذ غالباً ما نفكر في النظير العدواني بصفته شخصاً مثيراً للنزاع بشكل مستمر وحتى من دون توقف، ولكنّ هذا غير صحيح. فلدى الأشخاص مستويات محددة من العدوانية التي يشعرون بالارتياح حيالها، وهم يترددون في اجتياز حاجزها. وعندما لا يدرك محسن تكتيكات فاتن، يمكنها استخدام هذه التكتيكات بصورة غير مقصودة أو استخدامها بصورة متعمدة. ولكن إذا تحدث محسن عن هذه التكتيكات، فسيتطلب الأمر المزيد من العدوانية من جانب فاتن لمواصلة استخدام التكتيكات نفسها. وإن كانت فاتن في الحد الأدنى من عدوانيتها أو بالقرب منها، فلن تستمر في استخدام هذه التكتيكات لأنها ستُشعرها بالانزعاج. وربما لا يتمكن محسن من إيقاف فاتن، لكنها ربما تتوقف من تلقاء نفسها.
يعتقد الأشخاص أنّ المناقشات المجهدة أمر لا مفر منه، وهي كذلك بالفعل. لكن هذا لا يعني أنّها لا بد أن تنطوي على قرارات سيئة. خُذ عميلة لي، اسمها زهرة، وهي المرأة الوحيدة في مجلس إدارة شركة هندسية. كانت زهرة حساسة تجاه التصريحات التي تزدري مشاركة النساء في مجال الأعمال، ووجدت أنّ أحد أعضاء مجلس الإدارة لا يراعي ذلك بصورة متعمدة. إذ كان يسخر منها مراراً وتكراراً حول كونها مناصرة لحقوق المرأة، وفي هذه المناسبة، كان يحكي نكتة متحيّزة ضد المرأة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء من هذا القبيل، وشعرت زهرة بالتنافر الداخلي المعتاد بين ردود الأفعال. ولكن لأنها كانت تدرك أن هذا كان موقفاً مرهقاً لها، فقد كانت زهرة على استعداد. أولاً، تركت النكتة تسيطر على الأجواء لمدة دقيقة ثم عادت إلى القضية التي كانت تناقشها. وعندما لم يتركها جابر، بل صعد الأمر بوخزة جديدة قائلاً لها: "بربّك يا زهرة، إنها مزحة"، تمسكت زهرة بموقفها، وقالت له: "هذا النوع من المزاح أمر عبثي بالنسبة إليك يا جابر، لكنه يجعلني أشعر بالاستبعاد جانباً". ولم تكن زهرة بحاجة إلى قول المزيد. ولو استمر جابر في التصعيد لفقد اعتباره. وفي الواقع، تراجع جابر وقال ساخراً: "حسناً، لا أريد أن تسمع زوجتي عن سلوكي السيئ مرة أخرى". وبقيت زهرة صامتة؛ إذ أوضحت وجهة نظرها، ولم تعد ثمة حاجة لإحراجه.
المناقشات المجهِدة ليست سهلة أبداً، ولكن يمكننا جميعاً أن نجعلها أفضل حالاً عند التحضير لها عبر معرفة طرق تخفيف التوتر في المناقشات، ومثلما فعلت زهرة، من خلال تطوير وعي أكبر بنقاط ضعفنا وتطوير أساليب أفضل للتعامل مع أنفسنا. ويمكن أن تكون النصائح والأدوات الموضحة في هذه المقالة مفيدة في تقليل الضغط بشكل أحادي في المناقشات المجهِدة، وفي الإجابة عن السؤال كيف أزيل التوتر والقلق من تلك المناقشات؟ كل ما عليك فعله هو تجربة هذه النصائح والأدوات. وإذا لم ينجح أحد هذه الأساليب، فجرّب أسلوباً آخر، وابحث عن تعبير يبدو طبيعياً. لكن استمر في التدرّب، وستجد أفضل السبل الناجحة بالنسبة إليك.
اقرأ أيضاً: عزّز مقاومتك الداخلية كي تتغلب على التوتر الزائد.