طوال عدّة سنوات من العمل جمعت بين جين يونغ ومديرتها، لم تضطر خلالها فعلياً إلى التفاوض معها أبداً. فقد كانت وبكلّ ببساطة تقول نعم حتى لو قاد الأمر إلى حالة من الاضطراب المؤقت كما كان يحصل غالباً. كما كانت تخصّص عدداً لا يحصى من الساعات لإنجاز كلّ طلب ومهمّة تلقى على عاتقها، حيث كانت تؤدّيها بإتقان كبير وعلى أكمل وجه، بغضّ النظر عن التضحيات المطلوبة.
وبعد أن حضرت جين يونغ ورشة عمل كنت أحاضر فيها حول "فلسفة الجوهريّة" أي السعي المنضبط في الحياة وراء تحقيق الأقل، قرّرتْ صياغة عقد اجتماعي يهدف إلى رسم بعض الحدود في العمل. وبالتحديد، بيّن هذا العقد كيف يمكنها أن تزيد إنتاجيتها في العمل وأن تحصل في الوقت ذاته على إجازة من العمل لمدّة خمسة أيام تحضيراً لحفل زفافها القادم. وقد وافقت مديرتها على الشروط التي عرضتها، كما فوجئت وشعرت بالسعادة عندما حدّدت جين يونغ عدداً معيّناً من الأيام لتركّز خلالها على إتمام مهامها المعتادة قبل المهلة الزمنية المطلوبة. فهذا الأمر منح الفرصة لجين يونغ لتنهمك خلال عدد من الأيام بالتحضير لحفل زفافها دون أن يقطعها أو يعكّر صفوها أي عمل آخر، والأهم من ذلك هو أن المديرة وافقت على هذه الإجازة.
لكن وفي خضمّ تخطيطها للعرس، طلبت منها مديرتها تولّي أمر مشروع إضافي قبيل اجتماع قادم لمجلس الإدارة لأن أحد زملائها الآخرين كان قد انسحب من الفريق. في هذه المرّة، وعوضاً عن الخضوع للضغوطات المفروضة عليها من مديرتها، أشارت إلى العقد الاجتماعي وقالت ما معناه: "كم كنت أتمنّى أن أساعدك في هذا المشروع وأنا أعلم أن هذا الموضوع يشكّل مشكلة. غير أننا توصّلنا إلى اتفاق واضح بخصوص هذه المسألة، وأنا التزمت بما هو مطلوب منّي بموجب هذه الصفقة. لقد خطّطت لهذا الوقت، وعملت بجدّ في سبيله، وأنا استحقّ الحصول عليه دون أي شعور بالذنب". ثم قضت خمسة أيام كاملة منهمكة في التحضير ليليتها الكبيرة.
تأثّرت جين يونغ كثيراً بهذه التجربة إلى حدّ أنها قرّرت أن تجعل هذه التجربة جزءاً من وعود الزواج التي قطعتها لزوجها، إذ تعهّدت بإعطاء الأولوية لعلاقتها معه على كلّ ما عداها. في بادئ الأمر، كانت مديرتها تغلي غضباً. لكن بعد أن عانت شخصياً في إنجاز المهمّة على مدار أيّام، رأت بأن طريقتها في إدارة الفريق كانت مليئة بكلّ أنواع العيوب. وسرعان ما أدركت بأنها إذا ما أرادت أن تكون مديرة أكثر فعالية، فإنها تحتاج إلى تولّي زمام الأمور، وإلى أن توضح لكل عضو في الفريق ما هي التوقعات، والمحصلات المطلوبة وكيف ستجري المساءلة: أي بصورة أساسية صياغة عقد اجتماعي مع كل عضو من أعضاء الفريق. فجين يونغ لم تفتح عيني مديرتها على الآلية غير الصحية التي تحكم عمل الفريق فحسب ولم تفتح المجال أمام التغيير فقط، وإنما فعلت ذلك بطريقة أكسبتها الاحترام.
يواجه العديد منّا حالات مشابهة من المفاوضات الحسّاسة مع مدرائنا عندما نريد الحصول على زيادة في الراتب، أو تمديد المهلة النهائية لإنجاز مهمّة معيّنة، أو عندما نريد ساعات دوام مرنة، أو عندما نريد العمل انطلاقاً من المنزل. وفيما يلي ثلاث قواعد تمكّنك من التفاوض على ما تريده بفعالية أكبر:
القاعدة الأولى: ليس بوسعك أن تفاوض إذا لم تكن تعرف ماذا تريد.
لا أفتأ أبداً بالاندهاش من عدد المرّات الكثيرة التي أسأل فيها الناس: "ما الذي تريدونه حقّاً؟" وينظرون إليّ بوجوه خالية من المعالم، غير قادرين على التعبير عن الإجابة. ليس الأمر هو أنهم لا يريدون شيئاً، وإنما تتمثّل القضية في أنهم لا يمتلكون درجة عالية من الوضوح بخصوص ما يريدون.
وهذا شيء مهم لأن حياتنا العملية لا تحصل في فراغ حيادي. فما نقضي وقتنا في فعله هو نتاج تفاعل ديناميكي بين الوضوح الداخلي (ما نريد فعله) والضغط الخارجي (ما يريد لنا الآخرون أن نفعله). وفي واقع الحال، فإن زمننا هذا لا يتّسم كثيراً بتخمة المعلومات بقدر ما يتّسم بالتخمة بالآراء. ولكي نضمن بألا يضيع صوتنا الذاتي في زحمة الضوضاء المحيطة بنا، فإننا نحتاج إلى أن نعرف ما نريد حقّاً. فإذا لم نكن واضحين تماماً بخصوص ذلك، فإن الآخرين سيملؤون الفراغ بأجنداتهم الخاصّة بهم.
القاعدة الثانية: الوضوح هو بداية التمكين كلّه.
يكمن الأمر الرئيسي في قصّة جين يونغ في لجوئها إلى صياغة عقد اجتماعي أشار بوضوح إلى ما ستفعله، وما هي المدّة الزمنية المحدّدة لفعل ذلك، وما هي التبعات الإيجابية والسلبية التي ستنجم عن التقيّد أو عدم التقيّد بذلك. ومن خلال وضوحها حول هذا الأمر، تمكّنت من التفاوض بصورة أفضل على الأشياء التي لن تركّز عليها لا قبل إجازة الخمسة أيام التي ستأخذها ولا خلالها.
وفيما يلي الأسئلة الستّة الأهم التي من الضروري الإجابة عنها عند صياغة عقد اجتماعي:
- ما هي النتيجة المرغوبة الأهم والمفيدة للطرفين خلال الفترة المقبلة (يتمّ تحديد هذه الفترة حسب الوضع)؟
لماذا يُعتبر ذلك مهمّاً؟ - ما هي الأشياء التي يجب التخلّص منها، أو تأجيلها، أو تخفيض حجمها؟
- ما هي الموارد التي يجب إعادة تخصيصها أو زيادتها؟
- ما هي التبعات (الإيجابية أو السلبية) لأداء المطلوب أو عدم أدائه؟
القاعدة الثالثة: تحدّث من منظور أجندة مديرك (وليس من منظور أجندتك الذاتية).
عند العمل تحديداً مع المدراء التنفيذيين المشغولين، ليس هناك فائدة كبيرة في أن تتحدّث ببساطة عمّا تريده. فهم غالباً ما يكونون في حالة تركيز كبير على أجندتهم التي تثقل كاهلهم أصلاً إلى حدّ أن أي طلب إضافي، مهما كان مشروعاً، يمكن أن يجعلهم يشعرون بضغط أو عبءٍ إضافي. وبقليل من التحضير، بوسعك أن تعبّر عن الرغبات ذاتها بطريقة تتوافق مع جدول أعمال مديرك، الأمر الذي يزيد بشكل كبير من فرصة إصغائه إليك، ومن فرصة أن تسير المفاوضات على ما يُرام، كما هو مبيّن في الجدول التالي.
احصل على ما تريده من خلال مواءمة أجندتك مع أجندة مديرك
فعوضاً عن أن تقول ما يلي....
قل ما يلي....
"أنا أحتاج إلى هذه الزيادة في الراتب لأن أجرة بيتي مرتفعة، ولأنني أعتقد أنني استحقها".
"أنا مسرور جدّا بجهودك الرامية إلى تحقيق (شيء معيّن) وأنا أرغب في أن أتأكّد بأنني سأكافأ فقط عند تقديمي لإسهامات هامّة. وفيما يلي طريقتي المقترحة التي أعتقد أن بوسعي أن أساعد من خلالها بأفضل شكل ممكن".
"أنا أشعر بالملل ممّا أقوم به وأريد أن أتوّلى أمراً آخر سيساعدني في الحصول على ترقية".
"أعتقد أنني أستطيع أن أساعد في دعم إنجاز الهدف (س) من خلال القيام بالعمل (ع)".
"إنجاز كل المهام المطلوبة منّي في المنزل بات تحدّياً حقيقياً بالنسبة لي، لذلك أرغب في أن اتّبع نظام دوام مرن".
"في بعض الأحيان يُدفع لي المال مقابل الجلوس في المكتب في وقت يمكنني أن أكون فيه أكثر إنتاجية. وفيما يلي مقترح يسمح لي بالقيام بالشيء الصحيح بالنسبة للشركة ويعطيني أيضاً بعض المرونة".
"أريد أن أعمل انطلاقاً من المنزل. فهذا سيسمح لي بأن أكون هناك عندما يعود أطفالي من المدرسة وبذلك أوازن بين كل المهام المطلوب مني أداؤها".
"يتعيّن عليّ أن أزيد وبشكل هائل عدد الأيام التي يجب أن أخصّصها بالكامل للتركيز على هذا المشروع. وبالنسبة لي، هذا يعني الابتعاد عن المكتب. فهل بمقدورنا مناقشة هذا المقترح الذي قمت بكتابته؟".
ليس أيّ من هذه الأمثلة كاملاً وخالياً من العيوب، لكنّ كلّ واحد منها يوضح كيف أن من الأفضل البدء انطلاقاً من أجندة المدير. فالحقيقة هي أنّنا إذا أردنا من شخص أن يتصرّف، فإننا يجب أن نخلق رغبة عارمة لدى هذا الشخص من خلال التطرّق إلى أكثر شيء يريده.
باتباعنا لهذه القواعد الثلاث، بوسعنا أن نتفاوض بشكل أفضل في مكان العمل، وبوسعنا أن نحقق نقلة نوعية من خلال انتقالنا من أشخاص "يتلقّون الأوامر" إلى "مستشارين موثوقين"، وبوسعنا أن نتعلّم كيف نوازن حياتنا بشكل أفضل.