ملخص: نرى اليوم أن شركات تجزئة كبرى عديدة، وعلى رأسها شركة أمازون، تتجه إلى إنشاء منصاتها الإعلانية الخاصة وتشغيلها محققة أرباحاً بملايين الدولارات، وتشير تقديرات شركة ماكنزي إلى أن "الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة" ستضيف 1.3 تريليون دولار إلى قيمة الشركات في الولايات المتحدة وحدها بحلول عام 2026، مع هوامش ربح تتراوح بين 50 و70%. في هذه المقالة، يتحدث المؤلفون عن الأنواع الرئيسية من الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة، ويناقشون 3 تحديات استراتيجية تفرضها ويقدمون بعض الإرشادات للتعامل معها بفعالية.
تشهد الساحة التجارية اليوم تحولاً ملحوظاً، إذ تزداد شركات تجارة التجزئة التي تعمد إلى إنشاء منصاتها الإعلانية الخاصة وتشغيلها، وهي ظاهرة معروفة بـ "الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة" (Retail Media). لم تحقق أي شركة لتجارة التجزئة نجاحاً في هذا المجال يضاهي نجاح أمازون، التي حققت في عام 2023 ربحاً قدره 47 مليار دولار من الإعلانات على موقعها، علماً أن الإعلانات الممولة تشكل غالبيتها العظمى. يتجاوز هذا الرقم الإيرادات السنوية العالمية لشركة كوكاكولا، ويضع أمازون في المرتبة الثالثة بين أكبر المنصات الإعلانية في الولايات المتحدة بعد شركتَي جوجل وفيسبوك.
قبل 10 سنوات، توقعت شركات قليلة فقط للبيع بالتجزئة أن يصبح الإعلان محفزاً مهماً لنموها، لكن نجاح أمازون شجعها على الدخول إلى هذا المجال، فباتت شركات تمتلك الآن منصاتها الإعلامية الخاصة وتديرها بنفسها، ومنها ديكس سبورتينغ غودز (Dick’s Sporting Goods) وهوم ديبوت (Home Depot) وإنستاكارت (Instacart) ولوز (Lowe’s) ومايسيز (Macy’s) وألتا (Ulta) وول مارت. في عام 2023 وحده، حققت وول مارت 3.4 مليارات دولار من إعلانات التجزئة، كما تجاوزت أرباح كل من تارغت وإنستاكارت المليار دولار.
لماذا تتجه شركات تجارة التجزئة بقوة نحو الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة؟ لأنها ترى فيها فرصة نمو لا يمكن تفويتها. تقدّر شركة ماكنزي أنه بحلول عام 2026، ستضيف الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة 1.3 تريليون دولار إلى قيمة الشركات في الولايات المتحدة وحدها، حيث ستستحوذ شركات تجارة التجزئة على 820 مليار دولار من هذا المبلغ. وتتوقع ماكنزي أيضاً أن تصل هوامش ربح المنصات الإعلامية لتجار التجزئة إلى ما بين 50 و70% بحلول عام 2026، وذهبت مجموعة بوسطن الاستشارية في توقعاتها إلى أبعد من ذلك، إذ تقدّر أن هوامش الربح ستصل إلى ما بين 70 و90% بحلول عام 2026. تتمتع هذه الأعمال الإعلانية بنمو سريع وهوامش ربح عالية، وهي تتناقض بشدة مع الأعمال الأساسية ذات النمو البطيء وهامش الربح المنخفض في شركات تجارة التجزئة، ما دفع الشركات ذات النظرة المستقبلية منها لإطلاق منصاتها الإعلامية الخاصة.
بصفتنا باحثين ومستشارين للشركات، ساعدنا العديد من شركات تجارة التجزئة والشركات المصنعة على التعامل مع هذه البيئة الجديدة، وسنستعرض في هذه المقالة الأنواع الرئيسية المختلفة من الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة، وسنتناول 3 تحديات استراتيجية تطرحها ونقدم إرشادات لإدارة هذه التحديات بفعالية.
ما هي الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة؟
مصطلح "الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة" واسع النطاق ويشمل 3 أنواع رئيسية من البرامج.
تركّز شركات تجارة التجزئة التي تتبع نهج "التسعير الصاعد والنازل" (High-Low Pricing)، مثل سي في إس (CVS) وتيسكو (Tesco)، التي تدير متاجر تقليدية وتقدم عروضاً ترويجية متكررة، على تقديم قسائم حسومات رقمية من خلال برامج الولاء والمكافآت. تستهدف هذه القسائم العملاء المحتملين بدقة وتصل إليهم قبل الشراء مباشرة، لذلك يمكن أن تكون مربحة إلى حد كبير. في دراسة حديثة، اكتشفنا أن قسائم الحسومات التي تصدرها سلسلة متاجر ألمانية كبيرة داخل متاجرها تحقق زيادات كبيرة في المبيعات للعلامات التجارية كلها تقريباً، وقد حفزت فعالية هذه القسائم شركات عديدة لتجارة التجزئة لم يكن لديها برامج ولاء على تقديمها، مثل بابليكس (Publix) ولوز.
وفي المقابل، تركز المنصات الإعلامية لشركات تجارة التجزئة التي تقدم أسعاراً ترويجية، مثل وول مارت وأمازون، على عمليات البحث والإعلانات الممولة في متاجرها الإلكترونية والقنوات الرقمية الأخرى. يختلف تركيز الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة هنا، حيث ينتقل من مساعدة العملاء في العثور على الحسومات إلى مساعدتهم على العثور على المنتجات التي يبحثون عنها.
النوع الثالث من الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة تديره شركات تهدف إلى توسيع نطاق وصولها إلى ما يتجاوز متاجرها الإلكترونية. على سبيل المثال، وفي خطوة مبتكرة، تبيع بعض شركات تجارة التجزئة الآن مساحات إعلانية على منصات مثل فيسبوك ويوتيوب وتيك توك وغيرها من منصات إعلانات الطرف الثالث. تتيح لها هذه الاستراتيجية مساعدة الشركات المصنّعة على بناء علاماتها التجارية في مرحلة مبكرة من مسار الشراء (عندما يتعرف العملاء على العلامات التجارية ويحددون تفضيلاتهم)، على عكس الأنواع الأخرى من الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة التي تركز على المراحل اللاحقة من مسار الشراء (عندما يختار العملاء المنتجات التي سيشترونها). تتمتع شركات تجارة التجزئة بقدرة أكبر على توجيه هذه الإعلانات مقارنة بمنصات إعلانات الطرف الثالث نفسها، وذلك من خلال تحليل استجابات العملاء في بيانات معاملات الطرف الأول المتوافرة لديها. تستثمر منصات إعلامية مثل أمازون أدفرتايزينغ (Amazon Advertising)، ومنصة 84.51° التابعة لشركة كروغر، ومنصة راوندل (Roundel) التابعة لشركة تارغت، ومنصة يونيفرسال بيوتي (UB)، بكثافة في هذه الإمكانية.
3 تحديات جديدة
على الرغم من اختلاف الأنواع الثلاثة من الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة، فهي كلها تطرح تحديات استراتيجية متشابهة أمام كل من الشركات المصنعة وشركات تجارة التجزئة.
الصراعات المؤسسية
في الماضي، كانت المفاوضات بين الشركات المصنّعة وشركات تجارة التجزئة حول التمويل تجري خلال اجتماعات المبيعات السنوية بين فريق مبيعات العلامة التجارية وتجار التجزئة، أما الآن، ومع تنامي دور شركات تجارة التجزئة في بناء العلامات التجارية، فقد أصبح نطاق العلاقة بينهما أكثر تعقيداً.
على جانب شركات تجارة التجزئة، ما زال التجار طرفاً في هذه العلاقة وإنما انضم إليهم فريق الشبكة الإعلامية والقسم الذي يدير برنامج الولاء. على سبيل المثال، في إحدى أكبر شركات تجارة التجزئة المتخصصة في البقالة على مستوى العالم، واجه قسم الشبكات الإعلامية الذي تأسس حديثاً مقاومة داخلية كبيرة عندما اقترح قادته زيادة إيرادات الشبكات الإعلامية. إذ اعترضت شركات تجارة التجزئة على 75% من الحملات التي طلبتها شركات العلامات التجارية في السنة الأولى من العمليات خوفاً من أن تؤدي زيادة ميزانيات قسائم الحسومات إلى تقليل قوتها التفاوضية في جولة المفاوضات التجارية السنوية مع العلامات التجارية.
أما على جانب العلامة التجارية، فينضم الآن إلى فريق المبيعات فريقٌ مسؤول عن الاستراتيجية الإعلامية للعلامة التجارية تحت إشراف قسمي التسويق والتمويل. ربما تتضح التحديات الناجمة عن زيادة عدد أصحاب المصلحة بصورة أفضل من خلال ما يحدث عندما يتبين أن الحملة التجريبية مربحة: إذ عادةً ما يعبّر الفريق الإعلامي للعلامة التجارية والفريق الإعلامي لشركة تجارة التجزئة عن رغبتهما في زيادة الإنفاق بسرعة، ولكنهما يواجهان مقاومة من فريقي المبيعات والتمويل التابعين للعلامة التجارية، اللذين يريان أن أي زيادة في الإنفاق التجاري تمثل تحولاً في الهامش لصالح شركة تجارة التجزئة. كما يصر قسم التمويل التابع للعلامة التجارية على تخصيص أي نفقات إضافية من ميزانيات الإعلام الأخرى. يكمن التحدي في أن الإنفاق الإضافي للعلامة التجارية يعد أساساً لنجاح المنصات الإعلامية لتجار التجزئة، ومن دونه لا يمكن لشركات تجارة التجزئة تحقيق أهدافها المالية.
الشفافية
في المنصات الإعلامية لتجار التجزئة، شركة تجارة التجزئة هي المسؤولة عن تنفيذ الإعلانات والإبلاغ عن أدائها، لكن ذلك ينتهك مبدأ تحمل المسؤولية الرئيسي؛ أي فصل التنفيذ عن القياس. يخلق هذا التداخل فرصاً عديدة للتعتيم على المعلومات، إذ لا يمكن للعلامات التجارية معرفة تفاصيل مثل عدد مشاهدات إعلاناتها والأرباح التي تحققها شركة تجارة التجزئة من هذه الإعلانات وخوارزمية الإسناد المستخدمة لقياس الأداء.
تدرك العلامات التجارية هذه المشكلة جيداً، على سبيل المثال، في واحدة من شركات التجزئة الألمانية الكبرى التي تقدم تخفيضات كبيرة، رفضت علامات تجارية كبيرة المشاركة في منصتها لإعلانات التجزئة إلا بعد دمج برنامج للكشف عن الاحتيال الإعلاني. تساعد هذه البرامج المعلنين على إجراء تقييم مستقل لأداء الإعلانات، مثل عدد المشاهدات والنقرات، ما يسهم في تعزيز الشفافية وتحمل المسؤولية.
أحد أسباب هذه الثغرات في تقارير الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة هي التحديات التكنولوجية، في حين تتعلق الأسباب الأخرى بتحديات ترتبط بالبيانات، مثل عمليات الشراء غير المرصودة لدى شركات تجارة التجزئة الأخرى أو تجزئة هوية العملاء (صعوبة تتبع مسار العميل عبر الإنترنت). ومع توسيع شركات تجارة التجزئة لنطاق تركيز إعلانات التجزئة إلى ما يتجاوز مواقعها الإلكترونية وصولاً إلى المراحل المبكرة من مسار عملية الشراء، تزداد صعوبة تحديد الإجراءات التسويقية التي حفزت العميل إلى الشراء في النهاية.
القوة التفاوضية
تحتاج شركات تجارة التجزئة في المدى المنظور إلى محتوى جذاب من العلامات التجارية الكبرى لتأسيس قوة جذب لمنصاتها الإعلانية، لكن بمجرد أن تكتسب المنصة انتشاراً واسعاً تنتقل قوة التفاوض إلى شركة تجارة التجزئة. وإذا نجحت الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة في زيادة ولاء العملاء فسيقل اعتماد شركات تجارة التجزئة على العلامات التجارية لجذب الزبائن الجدد.
قد تسهم الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة أيضاً في زيادة المنافسة بين العلامات التجارية من خلال خفض تكاليف دخول السوق. على سبيل المثال، تفيد التقارير بأن أكثر من 20 ألف علامة تجارية للعناية بالبشرة يجري بيعها على موقع أمازون، وتتنافس جميعها على جذب انتباه العملاء. يمكن أن تساعد الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة في التغلب على هذه العقبة؛ فعندما تطلب شركة تجارة التجزئة من العلامات التجارية الإسهام في نمو منصتها الإعلانية، فإنها في الأساس تطلب تقليل حواجز الدخول للأسواق، أي الحواجز التي تحمي العلامات التجارية الراسخة.
توصيات لشركات تجارة التجزئة
بينما ننتقل إلى عصر إعلانات التجزئة، سيتعين على شركات تجارة التجزئة إنشاء نقاط تواصل جديدة مع الشركات المصنعة. يجب أن تتجاوز هذه النقاط طرق التفاوض التجارية التقليدية لتشمل العلاقات الإعلامية والإعلانات، حيث يتحول دور شركات تجارة التجزئة من المشتري إلى البائع. تتميز الإعلانات بهامش ربح أعلى من تجارة التجزئة الأساسية، ما يعزز أهمية مفاوضات الشراء السنوية ويمنحها بعداً جديداً. يجب أن يتعاون التجار وفريق الشبكات الإعلامية لتجار التجزئة للتوافق على هدف استخلاص القيمة من الشبكات الإعلامية.
من الضروري أيضاً إعطاء الأولوية لتطوير أنظمة إبلاغ شفافة، ويجب أن تكون شركات تجارة التجزئة قادرة على قياس عائد الإنفاق الإعلاني بمصداقية، وهذا يتطلب دمج قدرات إجراء التجارب في المنصات الإعلامية لتجار التجزئة. ويجب أن تتوخى شركات تجارة التجزئة الحذر من تكرار الخطأ الذي ارتكبته شركات التكنولوجيا الكبرى في الماضي عندما كانت تخفي بيانات أداء الإعلانات.
سيتعين على شركات تجارة التجزئة أيضاً تعديل محور تركيزها بمرور الوقت؛ ففي البداية من الضروري التركيز على التعاون مع الشركات المصنعة، أما على المدى الطويل فيجب أن ينتقل محور التركيز من التعاون إلى التفاوض حول القيمة التي خلقتها هذه الإعلانات.
توصيات للشركات المصنعة
تؤدي فرق المبيعات والإعلام والتمويل والتسويق دوراً مهماً في العلاقة الجديدة مع شركات تجارة التجزئة. بالنسبة للشركات المصنعة التي تمتلك مجموعة كبيرة من العلامات التجارية، مثل بروكتر آند غامبل وإس سي جونسون (SC Johnson)، سيصبح لكل علامة تجارية الآن نقاط تواصل متعددة مع تاجر التجزئة، وهذا يتطلب عملية إعادة تصميم كبيرة للعمليات الداخلية وهيكليات التحفيز.
بسبب قلة الشفافية والتهديد بالمساءلة، ستضطر الشركات المصنعة إلى تطوير أنظمة إبلاغ بديلة لتقييم العائد على الإنفاق الإعلاني على نحو مستقل. في الوقت الحالي، تعمل شركات تجارة التجزئة والعلامات التجارية على تقييم حلول إبلاغ مختلفة، ولم ينتهِ تطوير أي منها تماماً بعد، ما يمنح العلامات التجارية فرصة لأداء دور مهم في تحديد معايير القياس التي تكشف ما تشتريه ومقدار ما تدفعه والعملاء الذين يتفاعلون مع إعلاناتها.
يجدر بالشركات المصنعة أيضاً الانتباه لتهديد القوة التفاوضية الذي ستواجهه بمجرد نضوج المنصات الإعلامية لتجار التجزئة. فإذا قللت المنصات الإعلامية لتجار التجزئة حواجز الدخول للأسواق، فسيتعين على الشركات المصنّعة ابتكار مصادر جديدة لتمييز نفسها، ويمكنها أن تتعلم من استجابة شركة بروكتر آند غامبل عندما زعزعت العلامات التجارية الخاصة العلاقة بين شركات تجارة التجزئة والشركات المصنعة، إذ كثّفت تركيزها على الابتكار فحققت نمواً مربحاً على مدى عقد من الزمن.
تشهد العلاقة بين شركات تجارة التجزئة والشركات المصنعة زعزعة كبيرة تخلق فرصاً جديدة للنمو ولكنها تطرح تحديات جديدة أيضاً. يجب على شركات تجارة التجزئة والشركات المصنعة التي تتطلع إلى الاستفادة من هذا النمو إعادة تقييم طريقة التعاون بينهما وطريقة تنظيم العمل داخل الشركات وتعزيز العمل التعاوني بين الأقسام المختلفة. من المتوقع أن تمهد هذه التغييرات الطريق أمام تحولات جوهرية في قطاع تجارة التجزئة توفر فرصاً للنمو والربح للشركات التي تستعد من الآن لهذه الزعزعة التي سيشهدها مجال الإعلانات في قطاع التجزئة. وبما أن شركات تجارة التجزئة باتت الآن تبني العلامات التجارية بنفسها، فقد تغيرت طبيعة علاقتها مع الشركات المصنعة جذرياً. لكي تنجح الأطراف جميعها في هذا العهد الجديد، يجب أن يسارع الجانبان إلى تعديل استراتيجياتهما.