تظهر الإحصاءات المتوفرة كيف أنّ العائلات تسيطر على 95 في المئة من الشركات في آسيا والشرق الأوسط، كما كشفت دراسة حديثة أجرتها شركة برايس واتر هاوس كوبرز (PwC) أنّ الشركات العائلية لها أهمية خاصة في اقتصادات الشرق الأوسط، حيث تساهم بنسبة 60 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي وتوظف أكثر من 80 في المئة من القوى العاملة. ووفقاً لشركة إرنست آند يونغ للخدمات (Ernst & Young)، فإنّ ما يقرب من ثلاثة أرباع الشركات العائلية في الشرق الأوسط يملكها ويديرها الجيل الثاني، ويدير الجيل الثالث 20 في المئة منها.
تتأثر الشركات العائلية العربية بقوة التحديات الاقتصادية التي تواجه بلدانها، وبالتالي يجب أن تسهم بنشاط في حلها. رغم أنّ الدول العربية تشكل كتلة إقليمية ذات خصائص متشابهة، فإنها تختلف عن بعضها في العديد من الجوانب الاقتصادية. في حين أنّ العديد منها لديه ثروات طبيعية مفيدة، والبعض منها يبقى أقل حظاً على هذا الصعيد.
علاوة على ذلك، تتطلب معدلات البطالة المرتفعة وانخفاض تنوع بعض هذه الاقتصادات إصلاحات ضرورية، بما أنّ السياق الاقتصادي الذي تعمل فيه الشركات العائلية العربية غير متجانس إلى حد كبير، فإنّ تحديات مختلفة تطرح عليها. وفي حين قامت بعض المجموعات العائلية المعروفة بتطوير أعمالها حول النفط واستخراج الموارد الطبيعية الأخرى، ولكن تبقى الشركات العائلية تشكل 85 في المئة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي في العالم العربي.
الربح التقليدي والنفوذ
إنّ الشركات العائلية العربية تملك جذوراً عميقة في مجتمعاتها، ولها التأثير الكبير في تشكيل اقتصادات بلدانها، فهي مفتاح التنمية في المنطقة، لأنها يمكن أن تساعد في توفير حلول للأزمة الحالية والاضطرابات السياسية التي تنبع أساساً من البطالة وانعدام الحرية. وفي حين أنّ عدم الاستقرار السياسي يعيق دون شك تطور بعض الشركات العائلية (بعض الشركات المملوكة لشخصيات مرتبطة ببعض الحكام الذين قامت ضدهم ثورات صودرت من قبل سلطات ما بعد الثورة، وفقد الآخرون زبائنهم وأسواقهم واختفى آخرون ببساطة نتيجة للنهب والانتقام والدمار)، من المتوقع أنّ هذه الاضطرابات، على المدى المتوسط والبعيد، يمكن أن تفضي إلى نمو الأعمال التجارية عن طريق خلق ظروف اقتصادية جديدة من شأنها أن تفيد السكان والدول والشركات.
إنّ بعض الشركات في البلدان العربية النفطية، وخاصة في القطاع العام، كانت تستمد ربحاً مضموناً من الصناعات الاستخراجية، حتى لو كان هذا الربح يميل إلى التقلص بسبب انخفاض أسعار النفط.
وفي بعض هذه الدول، فإنّ الشركات العائلية، وخاصة الكبيرة منها، كانت تتمتع ببعض النفوذ وتهيمن على كثير القطاعات الاقتصادية بحكم بعض العلاقات والشراكات التاريخية. غير أنّ الواقع يشير إلى أنّ الكثير من هذه المجموعات العائلية الكبيرة هشة من الناحية الهيكلية، وهي تبدو متماسكة ومستدامة بفضل تكوين شبكة ممتدة عبر الزمن من الزبائن وبسبب استنادها إلى الإعانات والتسهيلات الحكومية. ونتيجة لذلك، يتم تجاهل تحديات المنافسة العالمية، ما يجعل هذه الشركات غير محصنة ضد التهديدات الحيوية لاستمراريتها.
أما في البلدان العربية غير النفطية، فإنّ النسيج الاقتصادي متنوع نسبياً منذ عدة عقود، وهذا ما ساهم في خلق مبدأ ريادة الأعمال ضمن كثير من هذه الشركات. وعلى الرغم من الصعوبات الهيكلية المرتبطة بالفساد والتواطؤ بين بعض أصحاب الأعمال والطبقة الحاكمة في بعض هذه الدول، إلا أنّ عدداً منها يظهر نسيجاً اقتصادياً أكثر تنوعاً، كما يمكن لعدد أكبر من هذه الشركات المنافسة في الساحة الدولية، وقد دفعت الصعوبات التي تواجهها الشركات العائلية في هذه الاقتصادات المفتوحة تدريجياً إلى التحديث والاحتراف والارتقاء إلى مستوى نظيراتها الدولية.
الحاجة إلى الابتكار
إنّ نمو اقتصادات الدول العربية لم يصل إلى سرعة مستقرة بعد، فهو لا يزال يمر بمراحل صعود وانخفاض متتالية. في إطار اقتصادات العالم العربي، يجب على الشركات العائلية الاستفادة من فرصة التعامل مع منطقة شبه متجانسة ضخمة، لغتها موحدة وهي العربية، وحيث يوجد تقارب ثقافي كبير. وعلى الرغم من عدم وجود سوق عربية موحدة اليوم، هناك إمكانية كبيرة للإنماء يجب استغلالها. فهناك تجارب تكامل اقتصادي إقليمي، أحدها اتحاد المغرب العربي، وهذه التجارب يمكن أن تحفز الشركات العائلية. وفي حين أنّ بعض البلدان في المنطقة مثل تونس ولبنان تمثل أسواقاً صغيرة، إلا أنّ بعضها الآخر أكثر أهمية، وهذا يمكن أن يكون محرضاً أساسياً للنمو الإقليمي أو الدولي للشركات العائلية في هذه البلدان. ومع ذلك، فإنّ القطاع غير الرسمي والاقتصاد السري - غير المنظم- يشكلان تهديداً تنافسياً خطيراً للشركات العائلية في العديد من الدول العربية. ومن الناحية الإيجابية، فإنّ معرفتها المتعمقة بالأسواق، وقربها من العملاء، ودمجها في مناطقها المحلية عوامل نجاح لا تقبل الجدل، ما يسمح لها بالمنافسة بكفاءة. والأكثر من ذلك هو أنّ صانعي السياسة، وفي سعيهم لتحقيق التنوع الاقتصادي، يرغبون في مساعدة الشركات العائلية في جهود تدويلها. لذلك، فإنّ حكومات العديد من الدول العربية تقدم الحوافز من مختلف الأنواع لتشجيع الشركات المحلية على التصدير والتدويل. ومما لا شك فيه، أنّ الشركات العائلية يمكنها الاستفادة من هذه الفرص لاستكشاف آفاق النمو في الخارج.
لا تزال معظم الاقتصادات العربية هشة إلى حد كبير، والشركات المحلية ليست مسلحة بالشكل الكافي للتنافس مع نظيراتها الأجنبية في سياق عالمي. على الرغم من بعض الاستثناءات الملحوظة في بعض البلدان، تمتلك الشركات العائلية في العالم العربي نماذج أعمال بسيطة، ضعيفة الابتكار وذات ميزة تنافسية عالمية ضعيفة. وبينما الكثير من هذه الشركات متعاقد مع شركات أجنبية، تعمل أخرى في صناعات مستقرة نسبياً وذات ابتكارية ضعيفة. هناك عائق آخر للتدويل يتمثل في الافتقار الشديد للموارد، خاصة بالنسبة للشركات العائلية الصغيرة والمتوسطة. إذا كانت الشركات الأكبر لديها القدرة على أن تشارك في المنافسة العالمية بما أنّ لديها موارد بشرية ومالية وكذلك شبكات اجتماعية واقتصادية ضرورية للتدويل، تواجه الشركات صغيرة الحجم عموماً نقصاً في الموارد الاستراتيجية. وعلى الرغم من وجود أمثلة من المجموعات العالمية الكبرى من الشرق الأوسط والخليج، فإنّ القليل من الشركات العائلية العربية يتحول إلى شركات عالمية أو متعددة الجنسيات.
لكن الشركات العائلية العربية لديها العديد من الخصائص التي تساعدها على النجاح أولاً، يجب على ملاك هذه الشركات الاعتماد على رؤيتهم طويلة المدى للتغلب على العوائق الداخلية الكامنة في شركاتهم. ففي الواقع، بالنسبة لعائلة الأعمال، فإنّ الشركة ليست مجرد استثمار هدفه خلق عائد اقتصادي فقط، ولكن الالتزام طويل الأمد واستمرارية الشركة هما مهمتان محوريتان لمالكي الشركات العائلية.
تحالفات لتعويض نقص الموارد
ثانياً، تحتاج الشركات العائلية العربية إلى إقامة تحالفات استراتيجية لتعويض نقص الموارد. يجب أيضاً أن يقبل ملاك هذه الشركات المشاركة الخارجية في رأسمالهم وإدارتهم من أجل جذب موارد مالية وبشرية قيّمة. في هذا المجال، يمكن للشركات العائلية الاستفادة من توفر العمالة الماهرة والمواهب رفيعة المستوى في العديد من البلدان العربية، إذ أنّ بعض البلدان غير النفطية مثل تونس والأردن ولبنان أو مصر تزخر بعدد كبير من الخريجين المؤهلين تأهيلاً عالياً والذين يعتبرون من الموارد القيمة لهذه الدول. ومن جهة أخرى، يستطيع صانعو القرار التعويل على الشركات العائلية للمساهمة في حل مشكلة البطالة الجماعية. إذ أنه نظراً للانسحاب التدريجي للدولة في الكثير من هذه البلدان من العديد من القطاعات الاقتصادية وندرة الوظائف في القطاع العام، فمن المتوقع أن يشارك القطاع الخاص بقوة في خلق فرص العمل في هذه الاقتصادات.
إنّ إعادة الهيكلة الكبرى التي تحتاج الشركات العائلية العربية إلى تنفيذها هي إدارة موارد بشرية شفافة ومنصفة. إذ إنّ المواهب الخارجية تتردد في الانضمام إلى الشركات العائلية لأنها تخشى أن ترتطم آفاقها المهنية بسقف زجاجي بسبب استمرار الإدارة العائلية وأيضاً بسبب المحسوبية المحتملة. يمكن أيضاً للشركات العائلية أن تكون طرفاً فاعلاً ومهماً في تصميم الدورات التدريبية والديبلومات الجامعية، كجزء من جهود صناع القرار لمطابقة احتياجات المهارات المستقبلية للاقتصادات العربية مع عرضهم التعليمي.
تحدي الجيل القادم
وعلاوة على ذلك، يمكن للشركات العائلية العربية أن تلعب دوراً رئيسياً في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. لطالما كانت شريكة متميزة للشركات الدولية والمتعددة الجنسيات المصدرة إلى هذه الدول أو تلك التي اختارت تأسيس شركات فرعية فيها. يمكن للشركات العائلية العربية الاستمرار في لعب هذا الدور الميسر للاستثمار الأجنبي المباشر طالما أنها تعمل وفق آليات تحكم، حوكمة وإدارة فعالة وحامية لمصالح المستثمرين الأجانب. هناك أيضاً حاجة إلى إضفاء الطابع المهني على ممارسات الإدارة الخاصة بها. ومما لا شك فيه أنه يمكن للشركات العائلية الاستفادة من مجموعة المواهب المؤهلة المتوفرة في المنطقة العربية. هذا لا يعني بالضرورة أن يتم فصل أفراد الأسرة المالكة عن اتخاذ القرار. في واقع الأمر، يمكن السعي إلى تحقيق توازن عادل بين وظائف صنع القرار والرقابة: مع السماح للأسرة المالكة بالإشراف على العمليات التجارية والمشاركة فيها، يجب حماية مصالح أصحاب المصلحة الآخرين (بما في ذلك المستثمرين الأجانب). وبشكل أعم، يمكن تحقيق التعاون بين الشركات العائلية والمستثمرين الأجانب من خلال إنشاء مشاريع مشتركة في الأسواق الوطنية أو من خلال شراكات أخرى غير مالية مثل التحالفات الاستراتيجية.
وبالإضافة إلى ذلك، قد يشكل انسحاب الدولة من قطاعات معينة وخصخصة الشركات العامة فرصة استثمارية جذابة لأسر الأعمال في بعض البلدان، إذ إنّ هذا الخيار يمكن بالطبع أن يفضي إلى نتائج مالية إيجابية، إلا أنه يسمح أيضاً للشركات العائلية بتطوير سمعتها في بلدانها. وقد تساهم الشركات العائلية أيضاً في التعامل مع مشكلة الفساد في بلدانها. إذ إنّ هذا الطاعون يؤدي إلى خسائر مالية ناتجة عن المنافسة غير العادلة ومصادرة الأسواق لصالح أقارب الأنظمة القائمة. من الواضح أنّ بعض الشركات العائلية في بعض البلدان تكون في بعض الأحيان متورطة بشكل جدي في الفساد الذي قد يدمر الاقتصاد. إذ إنّ قدرتها على ربط الشبكات الاجتماعية تسمح لها بتوسيع شبكة علاقاتها إلى المجالات السياسية والاقتصادية. على الشركات العائلية أن تستمد قوتها من عملها المؤسسي فقط، وليس من أي ارتباط آخر. وبذلك سوف تتحسن مصداقيتها وسمعتها بين المواطنين. علاوة على ذلك، سيقدم هذا الخيار ضمانات أكثر إلى الشركاء والمستثمرين الأجانب. في كلمة واحدة، يجب عليها الحصول على استقلالها عن دوائر النفوذ الرسمية. ومع ذلك، قد يكون من الصعب تحقيق هذا التوجه دون فتح رأس المال للمستثمرين المحليين أو الأجانب، من أجل تقليص مشاركة الدولة أو المستثمرين الحكوميين.
أخيراً، إنّ توارث ملكية الشركات العائلية وإدارتها للجيل القادم هي التحديات الأكثر صعوبة. صعوبات الخلافة تتفاقم بشكل خاص بسبب عدم وجود خلفاء أكفاء وقادرين ومتحمسين لذلك، فضلاً عن الافتقار إلى خطة للتعاقب على الإدارة وتوارث الملكية. لدى الحكومات في دول العالم العربي مصلحة واضحة في تعزيز استقرار واستدامة الشركات العائلية لأنها تشكل العمود الفقري لاقتصاداتها. لذلك، ينبغي تسهيل توارث الشركات العائلية بين الأجيال، لا سيما من خلال الحوافز الضريبية (في بعض البلدان، لا توجد ضرائب عقارية)، ما يشجع الأجيال الجديدة على تولي الخلافة الملكية والإدارية.