ما هي الدروس المستفادة من تجربة ديب سيك في حُسن استثمار الموارد؟

16 دقيقة
حُسن استثمار الموارد
فريق هارفارد بزنس ريفيو، فلافيو كويلو/غيتي إميدجيز؛ أنسبلاش

في يناير/كانون الثاني، أحدثت شركة ديب سيك الصينية الناشئة زلزالاً في عالم الذكاء الاصطناعي وأسهم شركات التكنولوجيا، إلى جانب شركة إنفيديا (NVIDIA) التي تحظى بإعجاب المستثمرين في وول ستريت، عندما أصدرت نموذجاً مفتوح المصدر يتميز بصغر حجمه وكفاءته العالية وتكلفته المنخفضة على نحو لافت مقارنة بمنتجات الشركات الأميركية الرائدة. وسرعان ما تصدّر تطبيق ديب سيك قوائم المتاجر الإلكترونية، واعتُبر هذا الحدث بمثابة جرس إنذار لشركات الذكاء الاصطناعي الغربية.

بينما يحاول قطاع التكنولوجيا استيعاب تداعيات زلزال ديب سيك، ثمة مخاوف جدية من أن تُغطِّي حالة الانبهار بالحدث على ما تنطوي عليه التجربة من رؤى أعمق وأشمل تهم مختلف الشركات والقطاعات.

إن القيمة الحقيقية لما حققته ديب سيك من إنجاز لا تكمن في التكنولوجيا أو الموارد التي تمتلكها، بل في قدرتها على توظيف تلك الموارد بأساليب مبتكرة وفعّالة.

حُسن استثمار الموارد أهم من الموارد ذاتها

غالباً ما تتنافس الفرق أو الإدارات المختلفة داخل الشركة فيما بينها للحصول على أكبر حصة ممكنة من الموارد المتاحة؛ لذا تسعى الشركات إلى استقطاب المستثمرين والوصول إلى أسواق رأس المال، وتتمحور عملية إعداد الميزانية برمتها حول الموارد المتاحة. وقد تتخذ هذه الموارد صورة موارد مالية أو مادية أو بشرية أو حقوق ملكية فكرية، وتشمل كل ما يندرج تحت بند الأصول بالميزانية العمومية للمؤسسة.

بيد أن حُسن استثمار الموارد لا يتعلق بما تملكه الشركة من موارد، بل بقدرتها على توظيف مجموعة المعارف والخبرات والموارد والإمكانات المتاحة على مستوى العالم وتسخيرها بصورة إبداعية، حتى إن لم تكن تملكها فعلياً. تتيح هذه المهارة للمؤسسات تحقيق نتائج تتجاوز مواردها وقدراتها الذاتية، مع تقليص التكاليف وتقليل الحاجة إلى رأس المال، وغالباً بجودة أفضل وسرعة تنفيذ أعلى مقارنة بما يمكن إنجازه اعتماداً على الموارد الذاتية فقط.

في مجال الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم مما يُشاع في القطاع من ضرورة ضخ استثمارات بمئات مليارات الدولارات، تشير التقارير إلى أن شركة ديب سيك لم تستخدم أفضل رقائق وحدات معالجة الرسوميات، ولم تستغرق عملية تطوير المنتج 10 أعوام أو تتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، كما لم تستند إلى أحدث الأجهزة المتطورة؛ إذ استطاعت ديب سيك تطوير نموذجها للذكاء الاصطناعي بتكلفة وزمن أقلّ كثيراً مما كان المستثمرون يظنونه ضرورياً لإنجاز مشروع بهذه القوة.

كيف؟

أعطت ديب سيك الأولوية للقدرة على الإبداع بدلاً من اعتماد النهج التقليدي القائم على توسيع القدرات من خلال إضافة المزيد من الموارد بصورة مباشرة ومكثَّفة، وهو النهج الذي تتبناه بقية الشركات العاملة في القطاع؛ فقد رأت الشركة أنها تستطيع تجاوز التكاليف الباهظة لاستخدام أحدث أجهزة الذكاء الاصطناعي من خلال الاعتماد على البيانات الاصطناعية والخوارزميات الإبداعية، واستخلاص المعرفة من النماذج الحالية والبناء عليها بدلاً من البدء من الصفر.

ومع ذلك، فإن الموارد هي المعيار الذي تركز عليه أغلبية الشركات لإحداث فارق حقيقي في الأداء أو النتائج. وكلما ازدادت حدة المنافسة أو "اشتعل لهيبها" في القطاع، مثلما يحدث في سوق مشبعة بالتنافس تنطبق عليها مواصفات المحيط الأحمر الشديد التنافسية أو بمجال الذكاء الاصطناعي الذي ينمو بخطى متسارعة، زادت الدعوات إلى ضخ مزيد من الموارد. أما التفكير في سُبل حُسن استثمار الموارد، فقلّما يلقى اهتماماً أو فهماً حقيقياً.

هذه فرصة هائلة أُهدرت دون استثمار.

4 مسارات لإتقان حُسن استثمار الموارد

أثبتت أبحاثنا طيلة العقود الماضية حول مفهوميْ "استراتيجية المحيط الأزرق" (Blue Ocean Strategy) و"ما بعد الزعزعة" (Beyond Disruption) أهمية الدور المحوري لإتقان حُسن استثمار الموارد لزيادة القيمة وخفض التكاليف في اغتنام الفرص؛ فهي تتيح للشركات القدرة على خلق مكاسب للسوق ولها على وجه السرعة غالباً بالاستفادة من القدرة على الإبداع وحُسن استثمار الموارد.

ماذا لو ركزت الشركات على حُسن استثمار الموارد بدلاً من التركيز على حشد الموارد؟ وكيف يؤدي التركيز على حُسن استثمار الموارد إلى زيادة القيمة المضافة التي تستطيع الشركة تقديمها وخفض تكاليف نموذج عملها؟

نستعرض هنا 4 طرق تعتمد عليها شركات المحيط الأزرق بانتظام في الاستفادة من حُسن استثمار الموارد لاغتنام الفرص، وهي طرق يمكنك أنت أيضاً الاستفادة منها.

استثمر المعرفة المتاحة عبر الإنترنت لتعزيز قدراتك.

أصبح إجراء الأبحاث أو العثور على الإجابات أو تطوير قدرات جديدة أسهل من أي وقت مضى؛ إذ يمكنك أن تتعلم تقنيات البيع من مدوَّنة صوتية (بودكاست) أو الطباعة الثلاثية الأبعاد للتصنيع واسع النطاق عبر يوتيوب أو البرمجة عبر أكاديمية خان (Khan Academy) أو تكتسب مهارات متنوعة، مثل التصميم أو التوريد أو المالية أو التغليف أو التعامل مع النظام الضريبي، وذلك كله دون أي تكلفة. هناك عالم زاخر بالمعرفة والتعليم المجاني متاح لكل من يرغب في الاستفادة منه، إلا أن أغلبية الأفراد والمؤسسات لا تفعل ذلك. ومع ظهور شركة أوبن أيه آي (OpenAI)، أصبح هذا العالم المعرفي المتاح عبر الإنترنت أكثر ثراءً وأيسر منالاً، بتكلفة ضئيلة أو معدومة تماماً.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة نوت إمبوسيبل لابز (Not Impossible Labs) التي شرعت في خلق فرصة جديدة كلياً تتيح للصم الاستمتاع بالموسيقى الحية مثلما يفعل أي شخص عادي. وقد أطلقت على هذا المشروع اسم "الاستمتاع بالموسيقى ليس مستحيلاً" (Music: Not Impossible).

لم يكن رئيس الشركة، ميك إيبيلينغ، ولا قائد المشروع، دانيال بيلكر، يمتلكان الخبرة اللازمة لتحقيق هذا الهدف؛ فكلاهما ليس عالماً ولا متخصصاً في علم الأعصاب ولا طبيباً في السمع، لكنهما بحثا في الإنترنت عن دراسات علمية حول الاهتزازات والوظائف السمعية للأذن. وتوصّلا إلى أن السمع لا يحدث في الأذن، بل في الدماغ؛ إذ تقتصر وظيفة الأذن على التقاط الاهتزازات ونقلها إليه. قادهما هذا الاكتشاف، بالتوازي مع اكتشافات أخرى، إلى استنتاج ثوري أدركا من خلاله أن الصم لا يمكنهم التقاط الاهتزازات عبر الأذن، ولكن يمكن إيصالها إلى أدمغتهم عبر الجلد لمحاكاة تجربة الاستماع إلى الموسيقى. وانطلاقاً من هذه المعرفة ابتكرا أداة تكنولوجية قابلة للارتداء لتحويل شعار "الاستمتاع بالموسيقى ليس مستحيلاً" إلى واقع ملموس.

من خلال حُسن استثمار الموارد، استطاع إيبيلينغ وبيلكر الاستفادة من أفضل المعارف المتاحة دون أي تكلفة لإنجاز مشروع "الاستمتاع بالموسيقى ليس مستحيلاً" وتجاوز العقبات التي واجهتهما خلال تطويره.

اسأل نفسك: ما هي المعرفة التي تحتاج إليها لتنفيذ نموذج عملك واقتناص الفرصة المتاحة؟ اكتب قائمة بها وابدأ البحث، سواء عبر الإنترنت أو باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. وسّع نطاق البحث في البداية لتكوين صورة شاملة، ثم ابدأ بتضييق الدائرة مع اتضاح الرؤية حول التفاصيل التي ينبغي التركيز عليها والجهات الفاعلة أو الأفراد الذين يملكون الخبرة التي يمكنك الاستفادة منها.

حدّد الموارد الخارجية التي يمكنك الاستفادة منها واستخدمها لصالحك.

غالباً ما تنبع القدرة على حسن استثمار الموارد من التعرف إلى الموارد والمواهب والخبرات والقدرات المتاحة خارج مؤسستك والاستفادة منها.

على سبيل المثال، حين قرر جيم ماكيلفي وجاك دورسي إنشاء سوق للمدفوعات عبر البطاقات الائتمانية موجَّهة لأصحاب المشاريع الصغيرة والأفراد، جاءت فكرة جهاز "سكوير ريدر" (Square Reader)، وهو أداة صغيرة وخفيفة يمكن استخدامها بسهولة في أي مكان لتمرير بطاقة ائتمان لإتمام عملية الدفع. لكن بقي السؤال المهم: كيف يمكن تنفيذ عملية الدفع وتحويلها إلى شركة بطاقة الائتمان؟

بدلاً من التعويل على الموارد المتاحة، بدأ ماكيلفي بالبحث خارجياً عمّا يمكنه الاستفادة منه، ولاحظ أن هاتف آيفون يمكن أن يؤدي دور الصحيفة والتلفاز والكاميرا والخريطة وألبوم الصور، بل وجهاز الاستريو؛ فتبادر إلى ذهنه السؤال التالي: لماذا لا تستفيد شركة سكوير (Square) من التكنولوجيا المدمجة في هذا الجهاز لمعالجة بطاقات الائتمان؟

هذا بالضبط ما فعلته سكوير؛ إذ يُوصَل جهاز "سكوير ريدر" مباشرة بمنفذ السماعات في هاتف آيفون أو أي هاتف ذكي آخر. ولأن منفذ السماعات معيارٌ شامل ومفتوح الاستخدام، لم تحتَج سكوير إلى الدخول في شراكة مع آبل أو سامسونج أو دفع أموال لهما مقابل استخدام أجهزتهما. وهكذا تحوّل عنصر كان يمكن أن يُكلّف الشركة كثيراً إلى تكلفة شبه منعدمة.

اسأل نفسك: مَن خارج مؤسستك يمتلك الموارد التي تفتقر إليها؟ وأي مؤسسة أو جهة تملك الخبرات الفنية أو القدرات التي تحتاج إليها؟ وكيف يمكنك الاستفادة من خبراتهم وقدراتهم ووفورات الحجم بأساليب إبداعية لتقليل التكاليف إلى أدنى حدٍّ ممكن وسدّ فجوات القدرات لديك بأقل كلفة ممكنة؟

ابحث في المجالات والقطاعات الأخرى للعثور على أفكار وحلول مبتكرة.

ينبع حُسن استثمار الموارد أحياناً من البحث المدروس خارج مجال عملك في قطاعات أو ميادين مختلفة أو مواقف مشابهة بهدف تحديد الممارسات الإبداعية التي يمكن تطبيقها لاغتنام الفرصة المتاحة.

حين أسّس بيري تشين ويانسي ستريكلر وتشارلز أدلر منصة كيك ستارتر (Kickstarter)، عادوا إلى صفحات التاريخ ليعرفوا كيف كان الفنانون يمولون أعمالهم قديماً. وتبيّن لهم أن الأمر لم يكن يقتصر ببساطة على تلقي التمويل من عائلة ميديشي أو غيرها من الجهات لإنجاز أعمالهم الفنية؛ ففي أمثلة تاريخية عديدة، أسهم جمهور واسع في تمويل أعمال إبداعية، منها ترجمة ألكساندر بوب لملحمة الإلياذة من اليونانية إلى الإنجليزية؛ إذ شارك 750 شخصاً في تمويل هذا العمل، ونالوا مقابل ذلك شرف ذكر أسمائهم في الطبعة الأولى من الكتاب. شكّل هذا النموذج مصدر إلهام لمنصة كيك ستارتر التي قدّمت بدائل للحوافز التقليدية من خلال مكافآت رمزية تحمل طابعاً معنوياً، مثل الإشادة بالداعمين على موقع الفنان.

وبالمثل، استعارت جوان غانز كوني أساليب قطاع الإعلان لتنفيذ مشروع "شارع سمسم" (Sesame Street)، فاستفادت من الأغاني والألوان والإيقاع السريع والجناس لجذب انتباه الأطفال وترسيخ الأفكار في أذهانهم، كما استلهم قطاع ألعاب الفيديو مجال الرياضات العالمية لفهم كيفية تأسيس دوريات للرياضات الإلكترونية وتنظيم بطولات عالمية، بما في ذلك خلق أجواء الحماس ونشر الوعي وتحقيق العائدات من خلال بيع حقوق البث.

اسأل نفسك: ما هي القطاعات أو المجالات أو المواقف المشابهة أو اللحظات التاريخية التي تقدّم رؤى ثاقبة حول كيفية حل المشكلة التي تواجهها؟ فكّر خارج النطاق المألوف ووسِّع دائرة البحث عند الإجابة عن هذا السؤال؛ فقد تقودك هذه الرؤية الشاملة إلى أفكار مبتكرة تساعدك على تجاوز العقبات بسرعة وبأقل التكاليف.

استفد من رأس المال الاجتماعي لاغتنام الفرصة المتاحة.

يشكّل "رأس المال الاجتماعي"، ويقصد به الأعراف والتفاهمات والروابط والالتزامات المتبادلة بين أفراد مجتمع أو جماعة معيّنة، فرصة إضافية لحُسن استثمار الموارد.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، أراد محمد يونس العثور على وسيلة لتقديم خدمات الائتمان والخدمات المصرفية للفقراء في المناطق الريفية ببنغلاديش. وللتغلب على مشكلة عدم امتلاك عملائه أي ضمانات تتيح لهم الحصول على قروض، استفاد من روابطهم الاجتماعية الوثيقة لضمان سداد القروض واستخدام الأموال المقترضة في وسائل إنتاجية للمساعدة في كسر حلقة الفقر.

أسّس يونس أول مؤسسة للتمويل المتناهي الصغر، بنك غرامين (Grameen Bank)، واشترط أن يتعاون 5 من سكان القرية على الأقل لتشكيل وحدة دعم متبادل قبل أن يمنح البنك قرضاً صغيراً لأحد أفراد المجموعة تختاره هي. ولم يكن يُسمح لأي عضو آخر بالحصول على قرض إلا بعد أن يسدّد المُستفيد الأول دفعاته بانتظام على مدى عدة أشهر. أدت هذه الممارسة إلى نشوء ضغط جماعي غير مباشر يمنع أي عضو من التخلف عن السداد، ويحفّز كل مجموعة تلقائياً على اختيار عضو يتحلى بروح الانتماء والشعور بالواجب الأخلاقي تجاه زملائه في المجموعة ويحرص على عدم خذلانهم، كما دفعتهم علاقة الاعتماد المتبادل إلى تقديم الدعم لأي عضو متعثر، ما عزّز موثوقية كل مقترض على حدة.

وبالكشف عن رأس المال الاجتماعي الكامن وغير المستثمَر والاستفادة منه، لم يقتصر دور بنك غرامين على إتاحة رأس المال للفقراء المدقعين للمرة الأولى، بل حقق أيضاً معدلات سداد تتجاوز 90% باستمرار. علاوة على ذلك، خفّض البنك بدرجة كبيرة التكاليف المرتبطة بالموافقة على القروض وتقديمها وتحصيلها وصياغة عقودها.

اسأل نفسك: هل يمكنك الاستفادة من رأسمال اجتماعي، إلى جانب الوسائل الاقتصادية القائمة على السوق؟ ما هي الأعراف الاجتماعية أو الروابط القائمة على الثقة أو الالتزامات المتبادلة أو توافق المصالح العليا التي يمكنك استثمارها لاغتنام فرصة تجارية؟

تُشكّل الموارد عقبة رئيسية تواجه الكثير من المؤسسات، سواء كانت شركات صغيرة تعتمد على التمويل الذاتي أم شركات كبيرة تشهد منافسات شرسة للحصول على الموارد. وفي ظل البيئة الحالية التي تتسم بندرة الموارد، فإن إتقان طرق حُسن استثمارها يمثل أمراً في غاية الأهمية. وبعيداً عن الذكاء الاصطناعي، يذكّرنا نجاح ديب سيك بأهمية حُسن استثمار الموارد باعتباره عنصراً أساسياً في الاستراتيجية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي