يكمن التحدي الماثل أمام تبني روح الابتكار في ضرورة إحداث تغيير جذري في حوكمة الشركات، إنّ مجالس الإدارة- بمجرد سماعها للأصوات التحذيرية الجادة التي تحث الإدارة للعمل على الحدّ من المخاطر- أخذت تدعو على نحو متزايد إلى تحقيق ابتكارات استثنائية فذة في إطار (سياق) التسابق الحاد (التدافع) من أجل الحصول على ميزة تنافسية في السوق. ونلاحظ سيطرة هذا التحول في مختلف القطاعات، وخصوصاً في شركات مثل "فورد" و"كوكاكولا" و"نستله" و"يونيليفر" التي تصارع جميعها لمواجهة تباطؤ المبيعات في أعمالها الأساسية.
يتطلب تبني روح الابتكار ومخاطره الكامنة تعاون كلٍّ من مجالس الإدارة والإدارة العليا لتطوير طرق جديدة للعمل. وكما صرح لنا مارك غانز الرئيس التنفيذي لشركة "كامبيا هيلث سولوشنز" (Cambia Health Solutions) التي تحتل مكانة ريادية في الابتكار ضمن مجال الرعاية الصحية، فإن اجتماعات مجلس الإدارة لم تعد تتضمن عروض الباوربوينت المعدة من قبل الإدارة والتي تعقبها بعض الأسئلة الروتينية التي يطرحها أعضاء مجلس الإدارة. وأوضح قائلاً: "لقد تغير هذا النموذج النمطي، إذ نحضر الآن اجتماعات مجلس الإدارة ونطرح أمامهم أفكاراً قيد التشكل، ونتوجه إليهم قائلين: ساعدونا في هذا الأمر". وأردف أن الأمر استغرق بعض الوقت حتى أدرك المجلس أن الإدارة لا تحتاج حلولاً بل تحتاج نوعاً من المشاركة، ولكن "بمجرد اعتيادهم على ذلك، تحسنت علاقة الشراكة بين مجلس الإدارة وإدارة الشركة بصورة ملحوظة، كما زادت قيمة إسهامات أعضاء المجلس في عمل الشركة".
إلا أن الرغبة في التوصل إلى طرق جديدة ومختلفة للعمل لا تترافق دوماً بالقدرة على تنفيذ هذه الأفكار، فاعتماد أدوار ومعايير تتضمن قواعد جديدة أمر غير مريح وغير معتاد عند معظم الناس. وللمساعدة في سد هذه الفجوة بين الجانب المعرفي والجانب العملي تحدثنا مع عدد من أعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين من عدة قطاعات مختلفة بشأن قدرة مجالس إدارتهم على دعم الابتكار وإدارة المخاطر. وجاءت النتائج مثيرة للقلق ومنبهة للأذهان على الرغم من أن الأمور بدت وكأنها توشك أن تتبدل. وأثبتت دراستنا وجود ضعف واضح في أداء بعض أعضاء مجالس الإدارة، علاوة على تمادي بعضهم واعتبارهم أن الابتكار غير ذي صلة بالقطاعات التي يعملون فيها، بداعي وصولها إلى مستويات بالغة التطور. وحازت قلة منهم قصب السبق والريادة مثل مارك غانز، أما الأغلبية فقد بدأت للتو خوض التحديات التي تحكم عملية تنظيم الابتكار، في حين كان بعضهم أكثر إقداماً ونجاحاً مقارنة بغيرهم.
وخلال دراستنا، حددنا العقبات المشتركة التي يواجهها معظم مجالس الإدارة، واكتسبنا رؤى ثاقبة حول كيفية إعادة تشكيل أدوار مجالس الإدارة لتعزيز ودعم الابتكار بما يؤدي إلى تحقيق نمو حقيقي ملموس.
أسباب العقبات التي تواجهها مجالس الإدارة خلال سعيها للابتكار
ازداد إيمان مجالس الإدارة بأن الوفاء بالتزامها حول ضمان سلامة شركاتها على المدى الطويل يفرض عليها دعم الإدارة في تطوير استراتيجية مقنعة للابتكار. وهذا يعني تعلم احتضان المخاطر بالتوازي مع الاستمرار في إدارتها والتخفيف من حدة آثارها قدر الإمكان. وفي هذا النموذج للمخاطر المعكوسة تكتشف مجالس الإدارة أن تجنب المخاطر هو الأمر الأكثر خطورة على الإطلاق. تقول باولا برايس عضو مجلس إدارة كلٍّ من شركة "أكسنتشر" (Accenture) و"دولار جنرال" (Dollar General) و"ويسترن ديجيتال كوربوريشن" (Western Digital Corporation) إنه ينبغي على المجالس السعي لتطوير "قدرة المؤسسة على التحول" إلى مجالات بكر من خلال منتجات أو خدمات أو نماذج عمل جديدة أو عبر طرق مستحدثة لتنظيم الأعمال أو إنجازها، فالجمود أو الانتظار لمعرفة اتجاه الأمور لا يُعد من الخيارات الجادة في بيئة الأعمال الحالية التي يغلب عليها الاضطراب. وقد اعترف أحد أعضاء مجلس إدارة إحدى شركات صناعة السيارات بعدم تشجيعهم الإدارة والاستمرار لسنوات في ثنيها عن تحقيق قفزة في عالم السيارات الكهربائية، وهو يخشى الآن أن تخفق الشركة في اللحاق بالركب.
يتمتع الرؤساء التنفيذيون والإدارة العليا بسلطة أكبر تتجاوز سلطات أعضاء مجلس الإدارة فيما يخص شؤون الشركة وقراراتها المصيرية، وهو الوضع السليم. ولكن يُستبعد اتخاذ الإدارة لرهانات كبيرة كتلك التي يتطلبها الابتكار دون الحصول على الدعم الكامل من مجلس الإدارة. وبسؤال أعضاء مجلس الإدارة عن الإحباطات التي يواجهونها للوفاء بالتزاماتهم المتزايدة لتنظيم الابتكار والتحكم به، توصلنا إلى 4 مخاوف رئيسية:
تقادم الابتكارات وجداول أعمال برامج إدارة المخاطر.
يصرح معظم أعضاء مجالس الإدارة بأنهم يوجهون النصيب الأكبر من اهتمامهم بالابتكار إلى تحسين قدرة المؤسسة على تنفيذ استراتيجيتها الحالية للحفاظ على جوهر الأعمال، وذلك بتطوير توسعات في خطوط الإنتاج، وتقليل هياكل التكلفة للحفاظ على سلامة هوامش التشغيل، وتحسين العلاقات الودية مع الزبائن، والتركيز على تلبية التوقعات المتزايدة للزبائن، والاستجابة للوائح التنظيمية الجديدة وتهديدات الأمن السيبراني.
وفي الوقت ذاته يدرك أعضاء مجلس الإدارة أن القيام بالأمور ذاتها بصورة أفضل وأسرع وبتكلفة أقل غير كافٍ. فإجراء تحسينات لتقليل التكاليف في سلسلة التوريد، على سبيل المثال، لا يُعد إجراءً كافياً. واليوم نرى سعي الشركات لنشر سلاسل التوريد الرقمية التي تسمح لها بتقديم عروض قيمة مختلفة للزبائن، إلى جانب إنشاء نماذج أعمال جديدة، وهو ما عبر عنه عضو مجلس إدارة إحدى الشركات قائلاً: "هناك قدر هائل من الزعزعة، فالشركة التي تتصدر القمة اليوم لن تظل هكذا خلال 10 سنوات. فلا بد [لنا] من أن نميز أنفسنا". ولاحظ آخر أن "تحيز مجلس الإدارة للنتائج قصيرة الأجل" يخنق روح الابتكار، فبدلاً من التوجه لمتابعة المبادرات الاستثنائية المبتكرة ركزت الشركة على المبادرات التطويرية. وأقر الكثير من أعضاء مجالس الإدارة بأنه لم يكن من السهل على الرؤساء التنفيذيين اتخاذ الخطوات الجريئة المطلوبة للحفاظ على قدرة شركاتهم على المنافسة، وخصوصاً بالنظر إلى المتطلبات المتزايدة للمستثمرين الناشطين، وأن مجالس الإدارة لم تبذل الجهد الكافي لتشجيع الإدارة على متابعة المبادرات التي تنطوي على مخاطر أكبر والتي يمكنها إحداث تحول جذري في مجال عمل الشركات.
ضيق الوقت.
يُعد توفير وقت للابتكار وطرحه للنقاش المستمر على طاولة الاجتماعات بمثابة رفاهية يهتم بها القليل من مجالس الإدارة، وخصوصاً داخل القطاعات التي تشهد تغييرات تنظيمية، مثل الخدمات المالية والطاقة والرعاية الصحية. وقد عبّر أعضاء مجالس الإدارة عن شعورهم "بالانغماس" والحرص على الالتزام بأساسيات الامتثال والرصد المالي. وحتى الشركات التي تؤدي أداءً جيداً، تجد صعوبة في تخصيص الوقت اللازم لأنشطة الابتكار. ويعترف بريان غولدنر الرئيس التنفيذي لشركة "هازبرو" (Hasbro) بهذا التحدي، قائلاً: "من السهل التركيز فقط على العمل الأساسي عندما يكون الأمر رائعاً، ولكن عليك أن توفر وقتاً للتركيز على النمو والأنشطة المزعزعة". أدرك أعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا إليهم حاجتهم إلى الاستثمار في إجراء محادثات استراتيجية والنقاش حول الابتكار، كما صرح رئيس تنفيذي آخر قائلاً: "إن اعتقادك بأن الجلوس في قاعة الاجتماعات والحديث عن الاستراتيجية لمرة واحدة على مدار السنة أمر كافٍ يعني أنك خارج اللعبة، وأنك مغيب تماماً"، ولكن الضغوط التي تتزاحم للاستيلاء على اهتمامهم جعلت من الصعب عليهم إيجاد الوقت المناسب للنظر في أمر الابتكار.
نقص الخبرة.
يعبر العديد من أعضاء مجالس الإدارة، وخصوصاً الرؤساء التنفيذيين، عن شعورهم بالإحباط لأن مجالس إدارة شركاتهم تفتقر إلى مستوى الخبرة المطلوب في قطاع الأعمال أو الخبرة اللازمة في مجال الابتكار لإجراء تقييمات مدروسة للمخاطر المصاحبة للمقترحات المقدمة. وخلال حديثنا مع أحد الرؤساء التنفيذيين أخبرنا بأنه تجنب إجراء نقاشات حول الابتكار مع مجلس الإدارة لأنه يعتقد أن أعضاء مجلس الإدارة "بعيدون تماماً عن السوق" ولا يستطيعون تقدير القيمة الفعلية المتوقعة لأيّ من مشاريع الابتكار.
التواصل غير المثمر بين مجلس الإدارة والإدارة.
جرت العادة على حفاظ الشركات على خط فاصل واضح بين مجلس الإدارة والإدارة العليا. وفي ظل هذا النموذج للحوكمة تطور دور الإدارة ليتحول إلى استراتيجية "العرض والقبول"، بحيث أصبح دور مجلس الإدارة هو التصديق على رؤية فريق الإدارة العليا. يرى العديد من أعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا معهم أن هذه الممارسات عفا عليها الزمن. ولكن ثبت لنا أن استكشاف أدوار جديدة لمجلس الإدارة والإدارة في وضع استراتيجية الابتكار يظل التحدي الأصعب على الإطلاق.
"تحتاج في بعض الأحيان إلى إثارة التوتر لتحفيز الآراء والأفكار والابتكار".
أشار العديد من أعضاء مجالس الإدارة إلى إحجامهم عن طرح الأسئلة الأكثر إلحاحاً خشية أن يُنظر إليهم على أنهم "إدارة تفصيلية" أو "إدارة ترتاب في كل شيء" أو على أنهم يوجهون الانتقاد للرئيس التنفيذي أمام أفراد فريقه. في حين أخبرنا العديد من الرؤساء التنفيذيين بأن السلوك المتحفظ الذي تظهره مجالس الإدارة في التعامل معهم يحول دون الفهم والدعم المطلوبين للمضي قدماً والابتكار. وعندما تخوض مجالس الإدارة في تفاصيل مقترحات الإدارة للابتكار، قد يُنظر في بعض الأحيان إلى الأسئلة الصارمة التي يطرحونها على أنها سلوكيات عدائية. وقد واجه العديد من الرؤساء التنفيذيين مثل هذه العلاقات، وتحكّمت في تقييم أدائهم بدلاً من جودة الأفكار قيد المناقشة، وشكا كثيرون من أن ردود مجلس الإدارة قد تكون "قاسية" أو "غير منصفة". وقد استطعنا خلال بعض المقابلات التي أجريناها ملاحظة الآثار النفسية لهذه التعاملات التي يغلب عليها الاحتدام وقد ظهرت على وجوه أعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين.
(إعادة) هيكلة مجلس الإدارة لتشجيع الابتكار
كانت نتيجة البحث واضحة: يتطلب الابتكار نقاشاً حماسياً وجدالاً، بل قد يصل الأمر إلى النزاع الذي ينشب في الغالب بين الأفراد الذين يحملون رؤى ووجهات نظر متنوعة. ولإيجاد طرق أفضل لإدارة الابتكار يتزايد لجوء مجالس الإدارة إلى إعادة النظر في بنية مجلس الإدارة وطريقة تفاعل أعضائه. ومع ذلك، يُحجم أعضاء مجالس الإدارة في الغالب عن التحدث- حتى إلينا نحن- حول كيفية عمل مجالس إدارتهم، ما يجعل من الصعب على مجالس الإدارة مشاركة أفضل الممارسات. ويُمثل ذلك عائقاً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالابتكار، وهو مجال يشعر أعضاء مجالس الإدارة تجاهه- في كثير من الأحيان- بالحاجة إلى بذل الكثير من الجهد. وقد كشفت أبحاثنا عن 4 مجالات أساسية للتحسين:
طرح الأسئلة الشائكة
تحتاج مجالس الإدارة اليوم إلى تحدّ صارم للإدارة إذا أرادت التأكد من أن شركاتها تفكر في الابتكار بجرأة كافية. وفيما يلي بعض الأسئلة التي نوصي المجالس بطرحها:
هل نخصص وقتاً كافياً للابتكار خلال اجتماعات مجلس الإدارة؟
ما مدى تقبلنا للمخاطر المحتملة؟ هل يتسق ذلك مع استعداد الإدارة لتقبل المخاطر؟ ما الرسالة التي توجهها إدارتنا وثقافتنا إلى بقية المؤسسة بشأن المخاطر والابتكار؟
هل اتفقنا على مقاييس محددة لتقييم جهود الابتكار؟
ما رد الفعل الذي نتخذه عند إخفاق إحدى مبادرات الابتكار؟ هل نشجع الإدارة أم نحبطها فيما يتعلق بخوض التجارب؟
هل يمتاز مجلس إدارتنا بتنوع المواهب والرؤى والأساليب التي تؤهله لاتخاذ خيارات صعبة بخصوص الابتكار؟ هل ننصت لرأي الجميع؟
ما الذي نفعله للتأكد من أننا مدركون لأحدث التقنيات والتطورات في قطاعنا والقطاعات ذات الصلة؟ هل حان الوقت لتشكيل بعض اللجان الاستشارية لدعم مجلس الإدارة؟
هل تُمثل اجتماعات مجلس الإدارة التي نعقدها لمناقشة الابتكار حواراً فعلياً، أم أنها أشبه بالعروض التقديمية؟
هل يصف كبار القادة علاقتهم معنا بأنها علاقة شراكة؟ هل تصفنا الإدارة بأننا داعمون لجهودها الرامية إلى تعزيز الابتكار؟
هل نرسل رسالة واضحة إلى الإدارة حول حاجتنا إلى إظهار الجرأة، ليس فقط لحماية الأعمال الأساسية ولكن أيضاً لوضع تصور مبتكر للأعمال والتحرك نحو مستقبل جديد؟
التنوع والتوعية الجماعية.
عند ضم أو استبدال أحد أعضاء مجلس الإدارة يجب على المجلس اتباع نهج منضبط، والسعي إلى ضم أعضاء يتمتعون بخبرات تأتي مكملة لخبرة مجلس الإدارة الحالي، والأهم من ذلك خبرة الإدارة. على سبيل المثال: صرح عضو مجلس إدارة إحدى الشركات التقليدية التي تركز على العمليات التشغيلية بأنه يسعى إلى ضم أعضاء للمجلس من المتمرسين في قيادة شركات استثنائية موجهة نحو خدمة الزبائن. وأشار توم ويلسون الرئيس التنفيذي لشركة "ذا أوول ستيت كوربوريشين" (Allstate) إلى أن أعضاء مجلس إدارة الشركات العاملة في قطاع التصنيع الذين يعملون مع مُصنعي المعدات الأصلية، وبعض الشركات الناشئة الناشطة في المجالات المرتبطة بصناعة السيارات هم من يستطيعون تقديم رؤى فريدة حول سلوك المستهلك.
وبالإضافة إلى ذلك رغب معظم أعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا إليهم في وجود المزيد من الأشخاص ذوي الخبرة التكنولوجية ممن يُطلق عليهم اسم "المدراء الرقميين"، لاعتقادهم بأن أعضاء مجالس إدارة المؤسسات الذين يشتهرون بريادتهم في مجال التكنولوجيا أكثر دراية من غيرهم بالتحديات المصاحبة للأعمال المبتكرة، وأكثر استعداداً لتقديم مشورة سديدة حول كيفية التعامل معها. كما أنهم أرادوا أعضاء مجالس إدارة يمتلكون القدرة على تقييم ما إذا كانت شركاتهم تستثمر بشكلٍ كافٍ في التكنولوجيا والمواهب ذات الصلة أم لا.
ولتعزيز التفكير خارج الصندوق تعلن قلة من مجالس الإدارة صراحة عن ضمها لشخصيات تتمتع بالتنوع الفكري أو التنوع في حل المشكلات، وهي صفات يصعب تقييمها. وأعرب معظم أعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا إليهم عن مخاوفهم بشأن تمثيل بنية مجلس الإدارة لزبائنهم وأصحاب المصلحة (بالنظر إلى عدة عوامل، مثل النوع والجنسية والعرق والانتماء الإثني). وتبذل قلة من المجالس جهوداً جادة لجلب مرشحين أصغر سناً من المعتاد، بما في ذلك أفراد جيل الألفية، مع المراهنة على الإمكانات بغض النظر عن الخبرة، وهذا تحول كبير عن النهج التقليدي.
ولكي يتحقق التعاون بين الأفراد المتنوعين يحتاجون إلى تشارك الخبرات والمعارف لتكون بمثابة أساس لتفاعلاتهم واتخاذهم القرارات. وتلجأ الشركات ذات التفكير المستقبلي إلى تطوير المعرفة الجماعية والذكاء السياقي لمجلس الإدارة، ويتم ذلك بصورة خاصة من خلال وضع مجموعة مشتركة من الافتراضات حول مسار الأعمال والأسواق بحيث يكون أعضاء المجلس مؤهلين لاتخاذ قرارات صائبة فيما يتعلق بالمخاطر وكذلك العوائد بالتعاون مع الإدارة. ويلجأ ما يقرب من نصف أعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا معهم إلى إحضار خبراء من قطاعات مختلفة أو ذات صلة لعقد "دورات تعليمية"، كما يعقد بعضهم جلسات مع المستثمرين المؤسسين وأصحاب رؤوس الأموال المغامرة (أو أصحاب رؤوس الأموال الجريئة) لمعرفة رؤيتهم للقطاع. ويجري البعض الآخر زيارات إلى مراكز التكنولوجيا، مثل "وادي السيليكون" ومُسرّعات الأعمال في الأسواق الناشئة والشركات والمختبرات الأكاديمية التي تعمل على أحدث التقنيات في مجال معين. وقد أخبرنا بعضهم بأنهم يعقدون اجتماعات مصغرة مع الزبائن الرئيسيين، بينما صرح آخرون بأنهم يحضرون برفقة مجالس إدارة شركاتهم المؤتمرات الخاصة بالقطاع الذي يعملون فيه. وأفاد أعضاء مجالس الإدارة بأن جميع هذه الأنشطة تثير مناقشات مهمة حول تقبلهم للابتكار من خلال إطلاعهم على "الممارسات المستقبلية"، دون الاكتفاء بالاطلاع على أفضل الممارسات.
التجريد الإبداعي.
وهو القدرة على تطوير سوق للأفكار دون أن يقتصر ذلك على ومضة واحدة من الرؤى الثاقبة أو مصدر واحد من الأفكار المتبصرة، بل عبر سلسلة من الأفكار الناتجة عن النقاش والجدال المكثف. وتدرك مجالس الإدارة اليوم أن التجريد الإبداعي هو القدرة الأساسية اللازمة للانخراط في حل المشكلات بطريقة مبتكرة، وهو ما أشار إليه أحد أعضاء مجلس الإدارة قائلاً: "إن التفكير النقدي أمر حتمي، وهذا ينطوي على إثارة بعض [النقاشات] حول تغيير الأوضاع الراهنة". وصرح آخر قائلاً: "تحتاج في بعض الأحيان إلى إثارة التوتر لتحفيز الآراء والأفكار والابتكار".
وفي الواقع، لم يعد يُنظر إلى عضو مجلس الإدارة "الصامت غالباً" على أنه نافع لأداء المهمة، وأصبح عضو مجلس الإدارة "المعبر عن رأيه دون تحفظ"، والذي كان يُنظر إليه من قبل على أنه "مشاكس" مقبولاً الآن، بل ومُرحباً به في قاعة الاجتماعات. يقول أحد أعضاء مجلس الإدارة إنه يتعين على مجالس إدارة الشركات تعلم "التسامح مع بعض الفوضى" في الاجتماعات، إذا أرادوا مشاركة الإدارة في التفكير الإبداعي. وينصح أحد الرؤساء التنفيذيين بضرورة بناء ثقافة تُسمع فيها الآراء المتباينة، وتشجع البحث الجاد عن أعضاء مجلس الإدارة "المستعدين للاستماع إلى مختلف الآراء في قاعة اجتماعات مجلس الإدارة".
لم يفاجئنا سماع أن العديد من مجالس الإدارة يُحجم عن إجراء المحادثات الصريحة اللازمة للابتكار نظراً لصعوبة إدارة حركة التجريد الإبداعي، فقد اعتاد الكثير من أعضاء مجلس الإدارة تجنب النزاع والتحلي "بالتهذيب المبالغ فيه". ويُعد تيسير سبل التجريد الإبداعي أمراً بالغ الحساسية يحتاج إلى المهارة والدقة والتوازن مثل رقصة باليه دقيقة، فمجالس الإدارة التي تبالغ في التأييد تفشل في تحدي المقترحات المقدمة بالقدر الكافي، كما أن المواجهات والصدامات الزائدة قد تكبت رغبة الآخرين في طرح الأفكار.
إعادة تعريف الشراكة.
ليس من السهل تحقيق التوازن بين السلطة القانونية لمجلس الإدارة والسلطة التنفيذية لإدارة الشركة، ولكن إجراء مناقشات الابتكار يستوجب تخلي كلا الطرفين عن محاولات فرض السيطرة. ويتعين على مجلس الإدارة بناء شراكة قوية مع الإدارة، وتنمية الشعور بالمسؤولية المشتركة عن استراتيجية الابتكار. يقول توم ويلسون الرئيس التنفيذي لشركة "ذا أوول ستيت كوربوريشين" إن مجلس إدارته يعقد اجتماعين منفصلين لمناقشة الاستراتيجية بخلاف معظم المجالس التي تجتمع لمناقشة الاستراتيجية مرة واحدة في العام، بحيث يتضمن أحدهما إجراء حوار حول قدرات الشركة ومكانتها في السوق، وهو يركز على التعلم، فيما يُخصَّص الآخر لصناعة القرار.
يقول أعضاء مجالس الإدارة إنهم ينزعجون من الرؤساء التنفيذيين الذين يسلكون "الطريق الآمن".
ويزداد شعور بعض الرؤساء التنفيذيين بالراحة عند اللجوء إلى مجلس الإدارة كشريك فكري. وقد وصف أحدهم اجتماعات مجلس إدارته الآن بأنها "جلسات رائعة لتصارع الأفكار"، مع وجود بيئة صحية للنزاع والنقاش. واعترفت إحدى عضوات مجلس الإدارة بأن عليها أن تتعلم "كيف تدس أنفها دون التدخل لاتخاذ قرار معين". قد تتسبب هذه الجلسات بطبيعة الحال في الاستنزاف العاطفي، حيث ذكر بعض الرؤساء التنفيذيين أنهم شعروا بأن مجالس إدارتهم تجاوزت الحدود في بعض الأحيان أو "أصبحت عدوانية للغاية". ويخبرنا الرئيس التنفيذي لإحدى شركات البيع بالتجزئة المدرجة على قوائم "فورتشن 100"، قائلاً: "لقد تعلمت من مراقبة الرؤساء التنفيذيين الآخرين ومجالس الإدارة الأخرى أنه إذا ما تجاوز مجلس الإدارة الحدود، فالأمر ينذر بالهلاك". ويمكن لمجالس الإدارة تجنب هذه المشاكل من خلال توضيح التوقعات منذ البداية.
وتشير الأبحاث التي أجريناها إلى استعداد فرق الإدارة للكشف عن نقاط ضعفها دون حرج، وقبول أسئلة التي يوجهها مجلس الإدارة بصدر رحب، حتى وإن كانت تشكك في الأفكار التي راهن المجلس عليها، وكذلك مناقشة الجهود التي لم يُكتب لها النجاح. وقال الرؤساء التنفيذيون الأكثر جرأة ممن تحدثنا معهم إنهم يسعون الآن للحصول على مزيد من المشاركات من مجالس إدارتهم، بدلاً من الاكتفاء بالحد الأدنى للمشاركة، فيما ذكر أحدهم أنه يشجع الحوار مع مجلس الإدارة من خلال مطالبة الإدارة بالمشاركة ليس فقط بالتوصيات، ولكن أيضاً من خلال طرح البدائل الأخرى التي عُرضت ولم تنل قبولهم. وأوضح أنه دون هذه الشفافية سيشعر أعضاء مجلس الإدارة بالإحباط، ويحسون بـ "تخلي" الإدارة عنهم.
فالوصول إلى مكان تشعر فيه فرق الإدارة بأنها قادرة على طرح مجموعة من الأفكار بعضها أكثر تطوراً من غيره، يتطلب توافر عقلية الشراكة الحقيقية مع مجالس الإدارة، ويُعد ذلك تحولاً في العلاقة التقليدية بين الطرفين. يقول بوب سيلاندر، الرئيس التنفيذي السابق لـ "ماستركارد": "يظن البعض أن فكرة واحدة كبيرة ستُحدث تغييراً هائلاً، ومع ذلك تدرك مجالس الإدارة المتميزة أن الأمر يتطلب مواصلة النقاش حول الكثير من الأفكار الجيدة والسيئة لتحقيق نتائج مذهلة". ويرى أحد الرؤساء التنفيذيين أن ذلك يعني تدريب المسؤولين التنفيذيين على توقع وتقبل الأسئلة والانتقادات الصعبة بصدر رحب، مع الاعتراف بأنه ليس من السهل على أعضاء فريقه تعريض أنفسهم (ومقترحاتهم) لردود الفعل السلبية من الأفراد الأقل منهم تمرساً في الأمور محل النقاش في كثير من الأحيان. وفي هذا الصدد يقول مدير تنفيذي آخر: "علينا أن نكون صريحين ونقول علانية: ’نحن لا نطلب موافقتك، وما زلنا نحاول التوصل إلى حل لهذا الأمر‘". وقال آخر إن الثقة ضرورية لبناء عقلية تعاونية. "ولا بد أن ينتهي النقاش دون أن يشعر أي من الطرفين بالضيق. وبدلاً من ذلك، نشعر وكأننا توصلنا إلى قرار أفضل".
تشجيع روح المخاطرة والتعايش مع الفشل.
تدرك مجالس الإدارة ضرورة مواصلة شركاتها للسعي، ليس فقط لإنجاز تحسينات متزايدة، ولكن أيضاً لتحقيق ابتكارات هائلة. ولتعزيز كلا النوعين من الأنشطة يتعين عليها إنشاء ثقافة تتقبل المخاطر واحتمالات الفشل المصاحبة لحل المشكلات بطريقة مبتكرة. ومع ذلك، فإن مجالس الإدارة ليست مهتمة- ويجب ألا تكون مهتمة- بالابتكار لذاته. ولتجنب أنشطة الابتكار التي لا "تحدث فارقاً" ركز الرؤساء التنفيذيون وأعضاء مجالس الإدارة الذين تحدثنا معهم على الأخذ بزمام المخاطرة حيال الجهود التي يُرجَّح أن تخلق قيمة مضافة للمساهمين على المدى الطويل.
ويُعتبر تحديد ما إذا كان الابتكار واسع النطاق يستحق الاستثمار فرضية صعبة للغاية. يقول أحد أعضاء مجلس الإدارة: "إن تحليل التدفق النقدي المخصوم (بهدف تقدير الأموال التي سنحصل عليها من الاستثمار) لن يساعدنا على إجراء مناقشة حول فكرة إبداعية مبتكرة". هذا هو الحال خاصة في الشركات الكبيرة، حيث يكون من الصعب دائماً إحداث تأثير كبير في أعلى مستويات النمو، وفق ما صرح به أحد الرؤساء التنفيذيين.
يعترف معظم أعضاء مجالس الإدارة في دراستنا بأنهم يجدون صعوبة في معرفة كيفية تقييم النتائج المالية قصيرة الأجل مقارنة بمعايير أخرى، مثل تجارب الزبائن أو مقاييس حصة السوق التي قد تمثل مؤشرات أفضل لمعرفة ما إذا كان الابتكار سيؤتي ثماره ويُحسن الوضع التنافسي للشركة على المدى الطويل أم لا. وبدلاً من الاعتماد على مقاييس النتائج، بدأت بعض مجالس الإدارة تعتمد بشكل أكبر على مقاييس التدابير المتخذة عند تقييم مبادرات الابتكار. وقال أحد أعضاء مجلس الإدارة، على سبيل المثال، إنه يسأل فريقه باستمرار عما تتعلمه الشركة من تجربة عملائها. تتابع مجالس الإدارة في بعض الحالات أيضاً المؤشرات الحيوية، ممثلةً في النسبة المئوية من إجمالي الإيرادات التي تأتي من منتجات وخدمات جديدة لقياس إجمالي قدرة المؤسسة على الابتكار.
عن البحث
ركز بحثنا على حوكمة الابتكار في مجالس إدارة الشركات المساهمة في الولايات المتحدة، وأجرينا مقابلات مع 31 رئيساً تنفيذياً لشركات مدرجة بقوائم "فورتشن 500"، وعضو مجلس إدارة مستقل، وأجرينا استقصاء لشركات مُدرجة بقوائم "فورتشن 500" وحصلنا على 21 استجابة. كما أقمنا حفلات للعشاء استضافتها شركة "إيجون زيندر" (Egon Zehnder) في 4 مدن أميركية رئيسية، حيث التقى 85 عضو مجلس إدارة لمناقشة توجهات مجالس الإدارة والتحديات الأكثر إلحاحاً التي تواجه أعضاء مجالس الإدارة. وجاء الابتكار على رأس القائمة بالنسبة للغالبية العظمى منهم. وأجرينا أخيراً مقابلة مع ثلاثة من كبار الرؤساء التنفيذيين للشركات الخاصة وأعضاء مجالس إدارتها أو رؤسائها. ويمثل الرؤساء التنفيذيون وأعضاء مجلس الإدارة الذين تحدثنا معهم كافة قطاعات الأعمال الرئيسية، مع تمثيل إضافي للقطاعات الأكاديمية وغير الربحية والاستشارية. وعلى الرغم من تمركز جميع الشركات في الولايات المتحدة، إلا أن معظمها (مع وجود بعض الاستثناءات الملحوظة) لديه عمليات تشغيلية مهمة خارج الولايات المتحدة.
ونعلم- من خلال إجراء مجموعة كبيرة من الأبحاث- أن العديد من جهود الابتكار- بل معظمها- يُمنى بالفشل، لذلك يجب أن تتعلم مجالس الإدارة معرفة متى يجب التخلي عن المبادرات. وقد صرح عدد من أعضاء مجالس الإدارة برغبتهم في أن تكون شركاتهم على دراية بكيفية "تجاوز الفشل والتعلم سريعاً" كي يتمكنوا من المضي في المساعي الأخرى. وقال بعض المدراء إنهم يحرصون الآن على الإفصاح عن ضرورة توقع فشل بعض جهود الابتكار في اجتماعات مجلس الإدارة. ورغم عدم ذكر أيّ من أعضاء مجالس الإدارة الذين قابلناهم أي شيء عن نقاشاتهم حول الفرق بين الإخفاقات "الجديرة بالثناء" والإخفاقات "التي تستحق اللوم"- كما تسميها إيمي إدموندسن، الأستاذ في "كلية هارفارد للأعمال"- فإنهم يدركون أن الطريق إلى الابتكار لا يمكن التنبؤ به، وأنك لا بد أن تخوض الطريق كاملاً للوصول إلى الابتكار، وأنه لا بد أن تكون هناك خطوات يجانبها الصواب على طول الطريق. ويصرح أعضاء المجلس بأنهم ينزعجون من الرؤساء التنفيذيين الذين يسلكون "الطريق الآمن" على حد وصف أحدهم. وأشار عدد كبير من رؤساء لجنة البحث الذين تحدثنا معهم إلى أنهم يتشككون في المرشحين التنفيذيين الذين لم يخفقوا من قبل، ويبحثون عن خلفاء محتملين لهم في مناصبهم، كما ذكر مدير آخر عبارة "بذل جهود مكثفة شملت الأخطاء والتعلم منها".
خاتمة
إدارة الابتكار ليست بالأمر الهين، فالرحلة تتطلب وقتاً وعزيمة، إلى جانب الشجاعة لاتخاذ قرارات جريئة حيال المصالح طويلة الأجل للمؤسسة حتى عندما يتم العمل في أسواق ضيقة الأفق، ولا بد من توافر قوة العزيمة والإصرار على التصدي للنفور البشري الفطري من تحمل المخاطر، والمثابرة للانخراط في التجريد الإبداعي.
لم يكن تحقيق توازن القوى بين مجالس إدارة الشركات وإدارتها أمراً سهلاً على الإطلاق، ولكنّ دراستنا تشير إلى أن ازدياد أعداد مجالس الإدارة التي تتبنى معايير جديدة جاء مصحوباً بظهور علاقة جديدة بين مجالس إدارة الشركات وإدارتها، ما يجعل عمل أعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين معاً أمراً ممكناً في النهاية، من أجل دعم وتيسير سبل الابتكار.