ملخص: عادة ما تتشكل العلاقات المهنية بين الأشخاص المتشابهين، مثلها مثل جميع أنواع العلاقات الشخصية. لكن الاعتقاد الراسخ أن العلاقات تتشكل بصورة طبيعية يمكن أن يعوق المرء عن التواصل وبناء علاقات متنوعة. تشير دراسة في هذا الصدد إلى أن تبنّي عقلية النمو، المتمثلة في الاعتقاد بإمكانية تنمية العلاقات على نحو متعمد، يمكن أن يمهد الطريق لإنشاء شبكة علاقات تتجاوز الحدود المألوفة. هذه الشبكات ضرورية جداً لتعزيز الابتكار والقدرة على الإبداع، ووفقاً للباحثين، يكمن سر إنشاء هذه الشبكات في تغيير منظور المرء لكيفية بناء العلاقات.
عندما نسأل المسؤولين التنفيذيين عن مدى تزايد تنوع الأفكار في مؤسساتهم على مدى السنين العديدة الماضية، غالباً ما نحصل على الجواب نفسه؛ بطريقة أو بأخرى، يلاحظ الجميع تقريباً زيادة في المواقف ووجهات النظر والقيم المتباينة في مكان العمل، وهذا أمر مشجع لأن الأبحاث المستفيضة التي أجريت على مدى عقود تثبت أن هذا النمط من التنوع يحفز الابتكار والإبداع والإنتاجية في المؤسسات.
مع ذلك، عندما نسأل هؤلاء الأشخاص أنفسهم عما إذا كانت شبكات علاقاتهم المهنية الخاصة داخل مؤسساتهم قد أصبحت أكثر تنوعاً، تكون الإجابات أقل حماساً، وغالباً ما تكون مزيجاً من "لا" و"لا أعرف". وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فأحد أنماط السلوك البشري الأكثر شيوعاً هو نزعة التواصل والترابط مع المشابهين، التي تعبّر عنها مقولة "الطيور على أشكالها تقع". وحتى مع ازدياد تنوع بيئات عملنا، ننجذب نحو من يفكرون مثلنا، فنقبع في حلقة مغلقة من الأفكار المتجانسة تحد من تعرضنا للأفكار والفرص الجديدة.
ولكن لا بد أن يعرف أي منا شخصاً يتحدى هذه النزعة الطبيعية ويبني شبكات علاقات تتجاوز التكتلات والصوامع المنعزلة، ويزدهر في البيئات المعقدة اجتماعياً أو مهنياً. يسمى هذا النوع من الأشخاص أحياناً "عناصر الربط"، وهم يحطمون الصوامع المنعزلة داخل المؤسسات من خلال البحث المستمر خارج منطقة راحتهم عن الأفكار ووجهات النظر الجديدة المختلفة، فيصبحون أشبه بجسور وصل بين المجموعات المختلفة إذ يدركون أن التنوع يوفر ثراءً لا يتيحه الانعزال عن الآخرين.
ما الذي يمكننا تعلمه من هؤلاء الأشخاص حول بناء شبكة علاقات متنوعة؟ يشير بحثنا إلى أن ما يميز هؤلاء الأشخاص عن البقية ليس بعض السمات أو القدرات الفطرية، بل إيمانهم بأن بناء العلاقات مع أشخاص يفكرون بطريقة مختلفة ليس مهمة معقدة، وهم يتمتعون تحديداً بعقلية النمو التي تساعدهم على تجاوز الاختلافات الشخصية في القيم والآراء.
المعتقدات التي يمكن أن تعوق بناء العلاقات
نميل عموماً إلى تبنّي معتقدات حول السمات البشرية المتأصلة أو المكتسبة؛ أي أننا نعتقد مثلاً أن الذكاء سمة فطرية، أو شيء يمكن اكتسابه نتيجة العمل الجاد. وقد أظهرت الأبحاث المستفيضة أن العقلية التي يتمتع بها الشخص، سواء كانت عقلية محدودة أو عقلية نمو، يمكن أن تؤثر إلى حد كبير في دافعيته وأدائه في مجال معين. على سبيل المثال، أظهرت الأبحاث التي أجرتها عالمة النفس كارول دويك على مدى عقود أن الأطفال الذين يتمتعون بعقلية محدودة حول الذكاء، يرون أن ذكاءهم فطري وبالتالي يكون حافزهم للمثابرة في المهام الأكاديمية الصعبة أضعف لأن بذل الجهد فيها لن يكون مجدياً، وهم يقدّرون المهام التي يمكنهم النجاح فيها بسهولة ويفضلونها على عملية التعلم الشاقة التي تنطوي على معالجة المهام الجديدة والصعبة.
بتطبيق هذا المفهوم على سياق مكان العمل، افترضنا أن الأشخاص يتبنون إما عقلية محدودة وإما عقلية النمو حول بناء العلاقات في مكان العمل. الفكرة هي أن الأشخاص الذين لديهم عقلية محدودة حول العلاقات في مكان العمل يؤمنون بالتوافق الطبيعي أو الانسجام؛ أي أن الأشخاص المتوافقين سيتواصلون أو ينسجمون فيما بينهم بصورة طبيعية ودون عناء. وعلى غرار العازبين اليائسين الذين يبحثون عن الحب من النظرة الأولى، يميل الأشخاص ذوو العقلية المحدودة إلى البحث عن العلاقات التي تتشكل بسهولة وبطريقة طبيعية على أساس الشعور الفوري بالتوافق والتفاهم المتبادل؛ أي لا يميلون إلى التفكير في إمكانية العمل على تطوير علاقات هادفة وقيّمة عندما لا يكون ثمة اتصال أو علاقة فورية واضحة. على النقيض من ذلك، تُبنى العلاقات بالنسبة للأشخاص ذوي عقلية النمو بالدرجة الأولى على الجهد والالتزام، فيأخذون الوقت الكافي ليفهم بعضهم بعضاً ويتعلموا تجاوز الاختلافات.
لفهم أثر هذه العقليات في تنوع شبكات العلاقات التي يشكلها الأشخاص، أجرينا دراسة حول تكوين العلاقات بين 111 موظفاً مسجلين في برنامج ماجستير إدارة الأعمال التنفيذية في الولايات المتحدة. قيّمنا في البداية عقلية المشاركين بواسطة مقياس طورناه خصوصاً لهذه الدراسة في بداية الفصل الدراسي، يتألف المقياس من 5 عبارات، مع ترميز الإجابات من 1 (لا أتفق إطلاقاً) إلى 6 (أتفق بشدة)؛ يدل ارتفاع درجة الجواب على ازدياد قوة العقلية المحدودة.
- العلاقات المهنية مثل قطع الأحجية: إما أن يتوافق الأشخاص وإما لا، بغض النظر عن مقدار الجهد الذي يبذلونه في العلاقة.
- أساس أي علاقة مثمرة هو الانسجام؛ أي مدى توافقك مع شخص ما بصورة طبيعية ودون عناء.
- لا يمكنك التحكم في درجة انسجامك أو تفاهمك مع زميلك أو تغييرها بسهولة.
- ليس من المرجح أن تنجح العلاقة بين زملاء العمل دون انسجام.
- إذا لم تتشكل العلاقة بصورة طبيعية ودون عناء، فمن المحتمل ألا تكون ناجحة.
بعد ذلك، أجرينا استقصاءً شبكياً لتحديد العلاقات المهنية التي كوّنها كل طالب مع أقرانه في نهاية الفصل الدراسي. وأخيراً، قيّمنا تنوع شبكة علاقات كل شخص من خلال حساب مدى التشابه أو الاختلاف في القيم الشخصية لكل علاقة (مثل الصدق والإبداع والمجازفة)، حيث أبلغ الطلاب عن قيمهم الشخصية في مهمة التأمل الذاتي التي أكملوها في الدورة التدريبية.
اخترنا دراسة شبكة العلاقات في بيئة القاعة الدراسية لأننا أردنا فهم سبب معاناة البعض في بناء علاقات متنوعة في بيئة مصممة عمداً لتكون متنوعة جداً، كما أنه من الصعب في الواقع دراسة شبكات العلاقات في معظم أماكن العمل لأن معظم الأشخاص في هذه الأماكن بنوا علاقات مستمرة فيها فعلاً، والأهم من ذلك أن الأشخاص الذين خضعوا للدراسة جميعهم كانوا مدراء عاملين وليسوا طلاباً متفرغين.
ما النتائج التي توصلنا إليها؟ مثلما توقعنا، كان الأشخاص ذوو العقليات المحدودة الأقوى أقل ميلاً إلى تطوير علاقات مع الأشخاص الذين يحملون قيماً مختلفة عن قيمهم. في العلاقات الأكثر تبايناً في العيّنة، كان أصحاب العقليات المحدودة أقل ميلاً بنسبة 50% تقريباً من أصحاب عقليات النمو لتكوين علاقات مع من يمتلكون قيماً مختلفة عن قيمهم. وفي المقابل، لم يكن ذوو العقليات المحدودة أكثر أو أقل ميلاً من نظرائهم ذوي عقليات النمو إلى تكوين علاقات مع من يحملون قيماً مشابهة جداً لقيمهم. هذه النتائج دليل صارخ على أثر المعتقدات والقيم الشخصية في سلوك بناء العلاقات، حتى عندما لا يستطيع الأشخاص ملاحظة قيم الآخرين مباشرة.
تشير الأبحاث السابقة إلى أن عقليات النمو مهمة جداً في المواقف الصعبة التي تتطلب جهداً ومثابرة. كان أصحاب عقلية النمو من طلابنا الذين ينظرون إلى بناء العلاقات على أنه مسألة جهد وليس انسجاماً طبيعياً أكثر ميلاً إلى بذل جهد لتجاوز الاختلافات الشخصية وتكوين شبكات علاقات متنوعة.
في دراسة متابعة شملت 174 طالباً في برنامج ماجستير إدارة الأعمال، صممنا تجربة ضمن القاعة الدراسية لمعرفة إذا ما كان من الممكن تعليم عقليات مختلفة وتعلمها على الفور. لتحقيق هذه الغاية، قدمنا للطلاب مقالاً قصيراً مصمماً لتعليم عقلية النمو أو العقلية المحدودة حول بناء العلاقات لقراءته والتمعن فيه. بعد ذلك، جمعنا كل طالب مع قرين له عشوائياً وطلبنا منهما مشاركة آرائهما الشخصية حول سياسة مكان العمل. وبعد المناقشة، طلبنا من الطلاب تقييم نجاحهم في التعاون مع شركائهم. كشفت النتائج عن أن الطلاب الذين حُفزوا لتبني عقلية محدودة أبلغوا عن مستوى رضا أقل عندما جُمعوا بشريك له آراء مختلفة حول القضية المطروحة للنقاش، وفي المقابل أبلغ الطلاب الذين حُفزوا لتبني عقلية النمو عن مستويات متماثلة من الرضا بغض النظر عن تشابه آراء شركائهم مع آرائهم.
تُظهر هذه الدراسة أن الأشخاص يمكنهم تبني عقلية النمو بسرعة؛ نحن لا نقترح أن مجرد تغيير عقلية المرء سيؤدي إلى إتقان بناء العلاقات أو تسوية الخلافات مع الخصوم حول النزاعات السياسية أو الإيديولوجية على الفور، لكن التحقق من عقلية المرء وتعديلها يمكن أن يكون خطوة سهلة المنال لكنها مجدية ومهمة لتحقيق قدر أكبر من الشمول.
نصائح لبناء شبكات علاقات متنوعة
استناداً إلى ما تعلمناه حول دور عقليات النمو في بناء العلاقات، نقدم للمهنيين الذين يرغبون في بناء شبكات متنوعة في أماكن عملهم عدة توصيات:
تجاوز مفهوم الانسجام في بناء العلاقات
غالباً ما يتوقع أصحاب العقلية المحدودة أن تنشأ العلاقات بصورة طبيعية وعفوية بناءً على ما يُدعى بالانسجام، ويميل هذا المنظور إلى تعزيز ميلنا البشري الفطري إلى تجنب الاختلافات الشخصية، ما يفاقم العزلة الاجتماعية والتصادمات في أماكن العمل المتنوعة. يقدم مفهوم عقلية النمو وجهة نظر بديلة قيّمة للعقلية المحدودة؛ لكي تكون "عنصر ربط" وتجني فوائد شبكة العلاقات المتنوعة، يجب أن تدرك أولاً أن بناء العلاقات يتطلب جهداً والتزاماً متعمدين، ويجب تجاوز حدود الانسجام الطبيعي.
اجعل ذلك عادة مستمرة
مثلما ذكرنا آنفاً، يتطلب بناء العلاقات جهداً متعمداً ومستمراً على مدى فترة من الزمن، وذلك أشبه بالذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية لتكتسب اللياقة البدنية، لكنك لن تكتسبها إذا لم تمارس التمارين الرياضية إلا عندما تشعر بالرغبة في ذلك؛ أي يجب أن تخصص وقتاً محدداً للتواصل والبحث عن فرص للعمل التعاوني وبذل الجهد باستمرار لفهم الاختلافات وتقبّلها، وهذه استراتيجيات قيّمة لبناء شبكات علاقات متنوعة. وستكتشف أن التفاعلات المجدولة المنتظمة، وليس اللقاءات العرضية في أماكن مثل المقصف أو الأحاديث الجانبية فقط، تمهد الطريق لتوطيد علاقات وتفاهم أعمق.
اطرح أسئلة
يكمن جوهر عقلية النمو في تبنّي عقلية التعلم للتغلب على المواقف الصعبة. على سبيل المثال، بدلاً من النظر إلى الاختلافات بين الأشخاص على أنها عقبات أمام بناء العلاقات، يمكننا اعتبارها فرصاً للنمو والتعلم.
وطرح الأسئلة مهارة أساسية لممارسة عقلية النمو، والغرض منها ليس الاستجواب بل الاستفسار والتعلم من الآخرين. على سبيل المثال، يصف كل من جيفري داير وهال غريغرسن وكلايتون كريستنسن في كتاب "جينات المبتكر" (The Innovator’s DNA) مهارة واحدة تميز القادة المبتكرين حقاً عن القادة العاديين، وهي مهارة "تشبيك الأفكار"، التي تشير إلى الممارسة المدروسة للتعامل مع مجموعة متنوعة من الأفراد بحثاً عن أفكار جديدة. فالقادة يستمرون في الابتكار والإلهام من خلال التواصل بانتظام مع أشخاص من خارج دوائرهم المعتادة ومناقشة ما يثير حماسهم واهتماماتهم. يؤدي طرح أسئلة صادقة حول وجهات النظر والقيم والخبرات المختلفة دوراً حاسماً في تعزيز العلاقات المتنوعة.
يُظهر بحثنا أن بناء شبكة علاقات متنوعة في مكان العمل يبدأ بتغيير وجهة نظر المرء حول كيفية بناء العلاقات. يمكننا جميعاً أن نتبنى عقلية النمو، وأن نجعل من عادتنا بذل الجهد لتقبل الاختلافات وطرح أسئلة صادقة ليفهم بعضنا بعضاً بصورة أفضل ونعزز العلاقات.
تزداد أهمية القدرة على التعامل مع الاختلافات الشخصية مع استمرار تطور أماكن العمل وتنوعها، في حين أن التشابه بين الأشخاص قد يوفر إحساساً بالراحة والألفة، فمن الضروري أن ندرك أهمية تقبل الاختلافات وتنمية عقلية النمو في العلاقات المهنية. وبالنسبة للمؤسسات، ثمة قيمة هائلة أيضاً في خلق بيئة عمل تشجع الأشخاص على تقدير الاختلافات الشخصية واحترامها، ما يمكّنها من تسخير الإمكانات الكاملة للتنوع وبالتالي تعزيز العمل التعاوني والابتكار والنجاح عموماً.