منذ يناير/ كانون الثاني 2018، أحدثت الولايات المتحدة واحدة من أكبر التقلبات في تاريخ السياسة الاقتصادية الخارجية منذ الحروب التجارية التي اندلعت في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث تخلت عن التعددية التي صيغت بعد الحرب العالمية الثانية، وتبنت استراتيجية جديدة جعلتها تنفرد بصناعة القرار. وتداعيات ذلك على النمو الاقتصادي الأميركي والعالمي مهولة، وتبعاته على قدرة الشركات الأميركية على الوصول إلى الأسواق الأجنبية جارفة.
لقد كانت حالة انعدام اليقين السمة المميزة لهذا التحول. وقد قامت الولايات المتحدة بما يلي:
- رفعت التعريفة المفروضة على سلع مستوردة تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات من جانب واحد، وبنسب بلغت 30% على كثير منها.
- هددت أيضاً بزيادة التعريفات على المزيد من السلع التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات المستوردة من أماكن متنوعة كالاتحاد الأوروبي وغواتيمالا واليابان والمكسيك وتركيا وفيتنام، وأحياناً لأسباب لا تمت للعلاقات التجارية بأي صلة.
- انسحبت من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (TPP) التي تضم 12 دولة والتي سبق أن قادتها.
- هددت بالانسحاب من اتفاقيات تجارية حتى مع حلفائها المقربين.
- أفرغت هيئة التحكيم التي تساعد على تنفيذ التزامات الدول الأعضاء في إطار منظمة التجارة العالمية من محتواها، ما ينذر قريباً بإهدار جهود أكثر من 70 عاماً من تكامل سوق السلع العالمية.
- اختتمت مجموعة من المفاوضات المثيرة للجدل والساعية إلى إبرام اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) التجارية الشهر الجاري، لكنها أضافت إلى أحكامها التأسيسية شرط انقضاء يمتد ست عشرة عاماً تنتهي فيه الاتفاقية ما لم تُجدد، فضلاً عن اشتراط إجراء مراجعات للاتفاقية كل ست سنوات.
ما الآثار الاقتصادية الكلية لهذه التحولات في السياسة التجارية؟ من بعض الجوانب، يمكن أن يكون من الصعب أن نلمس مدى تلك الآثار. على أي حال، ما زال متوسط التعريفة الأميركية الفعال 2.7% بناء على بيانات التعداد الحديثة (باستخدام بيانات ترجع إلى عام مضى حتى أغسطس/ آب لحساب نسبة الضرائب المحصلة إلى إجمالي الواردات لعام 2019). وبينما تتمخض التعريفات عن تكاليف ضخمة للمشترين، ستعادلها بدرجة ما إيرادات التعريفة المتزايدة للخزائن الحكومية وأرباح الصناعات المحمية. وتبلغ الخسارة الإجمالية التي يتكبدها الناتج المحلي الإجمالي الأميركي من التعريفات عام 2018 والنصف الأول لعام 2019، والمقدرة باستخدام نماذج قوى العمل القياسية، دون وضع تعقيدات كانعدام اليقين في الحسبان، أعشار قليلة من 1%، وهي القيمة التي قد تبدو ضئيلة، ولكن من الممكن أن تمثل متوسط تكلفة قيمته مئات الدولارات سنوياً للأسرة الأميركية الواحدة.
ولكن، على الرغم من أن متوسط التعريفة الفعالة يبدو منخفضاً، فهو يمثل ضِعف مستواه تقريباً الذي كان عليه عام 2017. وحقيقة الأمر أن متوسط التعريفة الأميركية بلغ مستوى لم تشهده الدولة منذ 25 عاماً ويخفي بين طياته تنوعاً هائلاً عبر مختلف السلع. إن متوسط التعريفة الأميركية المفروضة على الواردات الصينية التي تمثل مصدر خُمس الواردات الأميركية تقريباً، يتجاوز الآن 20%، بما في ذلك التعريفات المفروضة على العديد من المدخلات في عملية الإنتاج. وما زال السؤال المتعلق بمقدار التعريفات الذي يُمرر إلى الأسعار النهائية التي يدفعها المستهلك المشتري بالتجزئة معلقاً، غير أن الدراسات تظهر أن التكلفة الكلية للتعريفات تقريباً إلى الآن انعكست على الأسعار المتزايدة التي يدفعها المستوردون لقاء السلع بينما تعبر الحدود.
وتشير إحدى الدراسات إلى أن التعريفات المفروضة في عام 2018 وحده أدت إلى زيادة في المبالغ التي تدفعها الشركات في الولايات المتحدة لقاء المواد الخام (وهو ما يعرف باسم مؤشر أسعار المنتجين) بنسبة 1%. وهو ما يعادل تقريباً 6 أشهر من التضخم في السنة العادية. ويُعزى جزء من الارتفاع إلى أنه عندما تتمتع الشركات الأميركية بالحماية بالتعريفات من منافساتها الأجنبية، فهي ترفع الأسعار عندما تبيع منتجاتها إلى شركات أميركية أخرى. وبالتالي، فإن متوسط معدل التعريفة المنخفض يخفي العديد من الانحرافات الكبيرة المتفشية ويصعب قياسها والتي تؤثر على الاستعانة بمصادر خارجية للسلع وتكلفتها، ما يؤثر على الأسر التي تشتري السلع النهائية المستوردة والشركات التي تستورد المعدات والمواد وغيرها من المدخلات.
ولعل أهم جانب على الإطلاق بالنسبة للشركات هو حقيقة أن هذا المسار الأحادي الجانب الجديد للسياسة التجارية الأميركية من الآن فصاعداً محفوف بالغموض الشديد. يُظهر الرسم البياني أدناه مقياساً لمستوى انعدام اليقين في سياسة التجارة جمعه فريق من "كلية كيلوغ للإدارة التابعة لجامعة نورث وسترن" (Northwestern University Kellogg School of Business)، و"كلية بوث للأعمال التابعة لجامعة شيكاغو" (University of Chicago Booth School of Business). لقد بلغت حالة انعدام اليقين التي تكتنف سياسة التجارة أوجها في أغسطس/آب الماضي، حيث بلغت نقطة أعلى مرتين تقريباً من أي نقطة أخرى لها خلال السنوات الأربع والثلاثين الماضية التي تتاح بيانات لها.
وتظهر الدراسات الأخيرة أن انعدام اليقين المتعلق بالسياسية التجارية هذا ربما كان له آثار على الاقتصاد تضارع على الأقل التكاليف المترتبة على التعريفات نفسها. وتقدر الأبحاث المستقلة التي أجراها مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي أن التعريفات المفروضة عام 2018 والنصف الأول لعام 2019 ستؤدي إلى تضاؤل الناتج المحلي الإجمالي الأميركي الحقيقي بنسبة 1% عام 2020 مقارنة بما يفترض أن يكون عليه دون التعريفات الجديدة والغموض الذي يكتنف السياسة التجارية. ويعادل ذلك خسارة تقدر بحوالي 1,700 دولار لكل أسرة أميركية في المتوسط. ويعزى ذلك إلى الإنتاج الصناعي المتراجع، وخفض الشركات استثماراتها في مواجهة الخطر المتفاقم الناجم عن حالة انعدام اليقين المتصاعدة.
ويحتج بعض المراقبين بأن الضعف الأخير الذي أصاب الرنمينبي الصيني مقابل الدولار الأميركي يعوض تكاليف التعريفات، غير أن هذه فرضية مضللة. فالقوة التي اكتسبها الدولار الأميركي في مواجهة الرنمينبي الصيني أو غيره من العملات ربما يخفف من التكاليف المباشرة للتعريفات، ويعرض في الوقت ذاته الشركات إلى تحديات جسيمة. ولا يعوض تعزيز قيمة الدولار مؤخراً في مواجهة الرنمينبي الصيني الخسارة الناجمة عن تشويه قرارات الشراء والتوريد (لو زادت التعريفات أسعار سلع محددة نريدها، فمن الممكن أن يجبرنا ذلك على شراء سلع أخرى أقل تفضيلاً لدينا لا تستهدفها التعريفات). ويمثل تعزيز قيمة الدولار تحدياً إضافياً للشركات الأميركية التي تصدر منتجاتها، حيث ترتفع تكاليفها المحلية نسبة إلى منافسيها في الأسواق الأجنبية. وكذلك لا تبدد التعديلات الطارئة على العملة حالة انعدام اليقين التي تكتنف المسار المستقبلي للسياسة التجارية الذي يجثم بدوره على رغبة الشركات في الاستثمار.
إن حالة انعدام اليقين المتفاقمة في السياسة التجارية المترتبة على الإجراءات الحمائية أحادية الجانب ليست ظاهرة أميركية حصراً. وفقاً لمرصد التجارة العالمية، زادت تدخلات الدول الساعية إلى عرقلة الواردات على نحو منتظم نوعاً ما في شتى أنحاء العالم على مدار السنوات العشرة الأخيرة، وفاقت وتيرتها بكثير إجراءات تحرير التجارة. وتشير البيانات إلى أن هذه الجهود الحمائية تسارعت منذ عام 2017. وكشفت نفس الدراسة آنفة الذكر لمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي أيضاً عن أن تفاقم عدم اليقين الذي يكتنف السياسة التجارية منذ النصف الأول لعام 2018 أدى إلى انخفاض بنسبة 0.8% في الناتج المحلي الإجمالي العالمي - أي حوالي 700 مليار دولار - بعد عام واحد، مقارنة بما كان يمكن أن تكون عليه هذه النسبة في غياب حالة انعدام اليقين المتزايدة، مرة أخرى عبر انخفاض في الإنتاج الصناعي والاستثمارات ذات الصلة. وقد توقع صندوق النقد الدولي أيضاً تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.8% عام 2020 مما كان عليه، نظراً للتعريفات وحالة انعدام اليقين الناجمة عن الحرب التجارية الأميركية - الصينية التي زعزعت الثقة في الأعمال وأضعفت الإنتاجية.
وبغض النظر عما إذا كان التحول نحو الاستراتيجية الأحادية في السياسة التجارية الأميركية قصير الأجل أم لا، فمن الأرجح أن تكون آثاره الاقتصادية الكلية طويلة الأمد. أولاً، تفاقمت حالة انعدام اليقين في السياسة التجارية بطريقة قد لا يكون إبطالها سهلاً أو سريعاً. ولقد كان لذلك بالفعل أثر كبير على النمو نظراً للأثر المحبط على نشاط الشركات، ومن الأرجح أن يستمر.
ثانياً، من الأرجح أن يقوض نزوع الولايات المتحدة إلى الحمائية أحادية الجانب قدرة الشركات الأميركية على الوصول إلى الأسواق الأجنبية لفترة طويلة مستقبلاً. ومع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقيات التجارية وإعادة تفاوضها بشأنها وتضييق نطاقها، انكبت دول أخرى على صياغة تلك الاتفاقيات من دوننا. وبينما ظلت تعريفات الدول الأخرى الموجهة نحو الولايات المتحدة على حالها إلى حد كبير أو حتى زادت انتقاماً من إجراءات الولايات المتحدة، راحت التعريفات بين العديد من شركائنا التجاريين تتراجع.
فقد قررت الإحدى عشرة دولة الأخرى الأعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ المضي قدماً في الاتفاقية، ووضعتها سبع دول (وهي أستراليا وكندا واليابان والمكسيك ونيوزيلندا وسنغافورة وفيتنام) موضع التنفيذ بالفعل. ومنذ عام 2016، أبرم الاتحاد الأوروبي أو نفذ اتفاقيات مع ستة اقتصادات ضخمة في منطقة آسيا المطلة على المحيط الهادئ (أستراليا وكندا وإندونيسيا واليابان ونيوزيلندا وفيتنام)، خمسة منها ضمن الدول الأعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ. وتسابق الصين الزمن لاستكمال اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) مع خمس عشرة دولة في المنطقة، بما فيها سبعة دول أعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ. وسيتم التوقيع على هذا الاتفاق في فبراير/ شباط المقبل، حيث سيبشر بتشكيل أكبر منطقة تجارة حرة في العالم أجمع. لقد وضع كل هذا الوصول التفضيلي للمنافسين الأجانب الشركات الأميركية في موقف لا تحسد عليه إذ تصدر منتجاتها إلى هذه الأسواق، حيث يمكن أن تقيد العوائق التجارية الأعلى حصتها في السوق أو تقلصها.
وعلى أحسن التقديرات، حققت الاستراتيجية الأميركية الجديدة للمفاوضات التجارية المنفردة نجاحاً متفاوتاً. إن "الصفقة الثنائية الهزيلة" التي وقعتها الولايات المتحدة مع اليابان في أكتوبر/ تشرين الأول لا ترقى لميزة وصول الصادرات المضمونة بموجب اتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادئ لبعض السلع، كصادرات منتجات الألبان والسيارات الأميركية، وتستبعد سلعاً أخرى كالطائرات. وتتزامن هذه الأحداث مع حصول الصين و13 دولة أخرى قريباً على إمكانية الوصول التفضيلي إلى السوق اليابانية بموجب اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. وربما تنتهك الصفقة الهزيلة أيضاً قواعد منظمة التجارة العالمية التي تحكم اتفاقيات التجارة التفضيلية. وبينما قد يجبر تهديد فرض تعريفات على السيارات اليابان على المشاركة في هذه المفاوضات الثنائية، لم تجدِ هذه الاستراتيجية نفعاً مع الاتحاد الأوروبي، حيث انهارت فعلياً المحادثات الرامية إلى دفع عجلة الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي مع الولايات المتحدة العام الجاري.
وبينما نتطلع إلى المستقبل، نجد أن احتمالات حدوث المزيد من الاضطرابات التجارية قائمة جداً، وعليه فحالة انعدام اليقين ستستمر في التهام الاستثمارات والنمو الاقتصادي. إن اتفاقية التجارة الأميركية مع الصين الشهر الجاري يبدو أنها تنبئ بإبطال بعض التعريفات والقيود الجديدة، غير أن نتيجة هذه الاتفاقية ما زالت غامضاً، بما إنها أيضاً "صفقة هزيلة"، وربما تنطوي كذلك على عمليات شراء مجدولة لسلع محددة، ما يجعلها عرضة للطعون في منظمة التجارة العالمية. فضلاً عن ذلك، فقد أدت الحرب التجارية إلى تمزيق الروابط المحورية لاستدامة التقدم في المحادثات الجارية بين حكومتي الولايات المتحدة والصين حول قضايا اقتصادية وأمنية.
ومن المستبعد أن يؤدي أي اتفاق إلى تبديد حالة انعدام اليقين الناجمة عن الفكاك من الالتزامات الأميركية السابقة في إطار منظمة التجارة العالمية أثناء الخلاف. علاوة على ذلك، يمثل قرار صادر من منظمة التجارة العالمية بخصوص النصف الثاني من النزاع الممتد لعقود بين شركتي "بوينغ" و"إيرباص" مصدر خطر آخر يهدد العلاقات الاقتصادية الأميركية مع أوروبا، إذا استغلته الولايات المتحدة بوصفه فرصةً لفرض تعريفات جديدة على الواردات القادمة من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، ربما كانت المزيد من التعريفات المفروضة على المزيد من البلدان الاتجاه العام الذي نتحرك صوبه: وهناك تقرير شامل مشترك بين الوكالات أصدرته وزارة الدفاع خريف عام 2018 يضع في الظاهر أسساً لفرض تعريفات على كميات كبيرة من السلع الوسيطة التي أفلتت إلى الآن من الحرب التجارية. ويعتبر التهديد الأحدث الذي أصدرته الولايات المتحدة بإلغاء الإعفاءات من تعريفات الصلب والألومنيوم المقدمة إلى الأرجنتين والبرازيل مثالاً آخر.
وإجمالاً، إذا وضعنا في الحسبان هذا التحول إلى النزعة الأحادية في السياسة الاقتصادية الخارجية الأميركية، فسنجد أن المزايا ما زالت غير أكيدة، والتبعات مذهلة بالفعل من حيث نطاقها. وما زال المسار والعواقب الكاملة مجهولة، غير أن لها القدرة على الاستمرار لعقود قادمة.