أطلقنا تقييماً عبر الإنترنت بغية إتاحة الفرصة لقراء "هارفارد بزنس ريفيو" لاستكشاف الملامح الثقافية لمؤسساتهم، وذلك استناداً إلى إطار العمل المتكامل للثقافة الذي قدمناه في "دليل القادة إلى الثقافة المؤسسية" (The Leader’s Guide to Corporate Culture)، والذي كتبه زميلانا المساعدان جيرميا لي وجيسي برايس. حيث تلقينا أكثر من 12,800 رد من شتى أرجاء المعمورة في الفترة بين ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017 ومايو/ أيار من عام 2019 (يمكنك استكشاف ملامح الثقافة المؤسسية السائدة في شركتك من هنا).
وقد منحنا هذا التقييم فرصة لسبر أغوار الثقافات المؤسسية لدى قراء "هارفارد بزنس ريفيو"، المتمثلة في السلوكيات والأعراف المشتركة والسائدة والدائمة والكامنة التي تتغلغل في المؤسسة (وليس الأنماط الثقافية الخاصة بالموظفين كل على حدة). ودرسنا، في كل مؤسسة من مؤسسات المشاركين في التقييم، الترتيب النسبي لثمانية أنماط متباينة من أنماط الثقافة التي تندرج وفق بُعدين هما: كيفية استجابة الأشخاص للتغيير (المرونة في مقابل الثبات)، وكيفية تفاعل الأشخاص فيما بينهم (الاستقلالية في مقابل الاعتماد المتبادل).
وقد برزت أنماط قليلة في عينة الردود بأكملها: إذ إن الاهتمام وتحقيق النتائج كانتا السمتان الثقافيتان الأبرز في جميع مؤسسات المشاركين، وهو ما يعكس توجهاً صوب التعاون والإنجاز في أماكن العمل. وفي الوقت ذاته، صُنفت الفعالية والاستمتاع في أدنى المراتب إجمالاً، وهو ما يشير إلى أن الحزم والعفوية كانتا في مرتبة أدنى من حيث الأولوية.
الاختلافات بين مختلف المناطق
يمكن أن توجد الثقافات على عدة مستويات مختلفة. ففي داخل المؤسسات، يمكن أن توجد أوجه التباين في الثقافة وفق المجالات الوظيفية أو حتى فِرق العمل. وبصورة أعم، يمكن أيضاً أن توجد الأنماط في المعايير السلوكية على المستوى الوطني وعلى مستوى المناطق. وقد أوضحت البحوث السابقة كيفية اختلاف الثقافة من بلد إلى آخر بأساليب منهجية.
وقدّم قراء "هارفارد بزنس ريفيو" منظوراً عالمياً مهماً يمكن من خلاله دراسة الثقافات المؤسسية في مختلف المناطق. إذ تلقينا ردوداً على الدراسة الاستقصائية من شتى أنحاء العالم، كان من ضمنها 43% من الردود التي وردت إلينا من قرائنا خارج أميركا الشمالية. وكانت بعض الأنماط، في هذه العينة العالمية، متماثلة بشكل ملحوظ بين مختلف المناطق. وفي المتوسط، صُنفت الاهتمام في مرتبة عليا في جميع المناطق، في حين أن الفعالية صنفت ضمن السمات الثقافية الأقل بروزاً. لكن عندما درسنا ما إذا كانت بعض الأنماط الثقافية المحددة تحظى بتمثيل قوي بدرجة أكبر في بعض المناطق، ظهرت بعض الاختلافات المهمة.
كيفية تجاوب الأشخاص مع التغيير. أولاً، درسنا السمات الثقافية التي تفسر كيفية تجاوب الأشخاص مع التغيير (على وجه التحديد، ميول المؤسسات نحو الثبات في مقابل المرونة). وتبيّن لنا أن المؤسسات في أفريقيا أظهرت قدراً كبيراً من المرونة. إذ إن الكثير من المؤسسات في هذه القارة كانت تتسم بالتعلم وتحديد الهدف، وهو ما يشير إلى الانفتاح تجاه التغيير من خلال الابتكار وسرعة الأداء وتثمين التنوع. وعلى النقيض من ذلك، اتسمت الكثير من الشركات في شرقي أوروبا والشرق الأوسط بدرجة عالية من الثبات، حيث كان التركيز على السلامة سائداً في هذه المناطق، وهو ما يكشف إعطاء الأولوية للاستعداد واستمرارية الأعمال. ووجدنا، في منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، الكثير من الشركات التي تصنف فيها الفعالية في مرتبة عالية.
كيفية تفاعل الأشخاص فيما بينهم. ثانياً، حللنا كيفية تفاعل الأشخاص فيما بينهم. وبعبارات أخرى، درسنا ما إذا كان الأشخاص يميلون إلى الاستقلالية أو الاعتماد المتبادل. وأظهرت الشركات في غربي أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية ميلاً نحو الاتصاف بدرجة عالية من الاستقلالية، لكن هذا الميل يتجلى بطرق مختلفة. إذ أظهرت الشركات في غربي أوروبا وأميركا الشمالية تركيزاً شديداً انصبّ خصوصاً على تحقيق النتائج والتركيز على الأهداف والإنجاز. وبالمقارنة مع المناطق الأخرى، صُنف الاستمتاع في مرتبة عالية في أميركا الجنوبية، وهو ما يعكس نزوعاً نحو المرح والإثارة وبيئة العمل المبهجة. ومن ناحية أخرى، كان من الأرجح أن تتسم الشركات في آسيا وأستراليا ونيوزيلندا بالاعتماد المتبادل والتعاون، حيث وجدنا، في هذه المناطق، أماكن عمل تجسد الاهتمام ومفهوم السلامة والتخطيط. ووجدنا في آسيا بصفة خاصة، الكثير من الشركات التي تركز على النظام من خلال ثقافة قائمة على التعاون والاحترام والالتزام بالقواعد.
ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى الموظفين؟
يمكن أن تشكل البيئة الخارجية ثقافات المؤسسات التي يعملون لديها، لكننا جميعاً نتمتع بأساليبنا الشخصية في العمل. ويمكن أن يكون من المفيد تقييم الكيفية التي تجسد بها أساليبنا في العمل - أو تختلف بها - عن أنماط الثقافة في المناطق المختلفة، لاسيما عندما نضع في الحسبان الكيفية التي يرى بها الآخرون سلوكياتنا وتصرفاتنا. على سبيل المثال، قد تجد المبادرة بتحديث إجراءات التشغيل الموحدة لتنفيذ مجموعة برمجيات جديدة الإشادة في منطقة يعتبر فيها التعلم وسرعة الأداء موضع تقدير، لكنها يمكن أن تكون مدعاة للإحباط في منطقة تركز فيها الشركات على النظام والاستمرارية.
وفضلاً عن ذلك، في ضوء تزايد انتشار العمل عن بُعد والعمل المستقل والأعمال التعاقدية، يصبح من الشائع إلى حد كبير العمل مع الآخرين خارج إطار الحدود الإقليمية. ومن الأهمية بمكان، عند التواصل والتعاون مع فريق عمل متنوع، إدراك أن أعضاء الفريق الآخرين يمكن أن يكونوا منتمين إلى مناطق تختلف فيها المعايير والأنماط السلوكية عن معاييرنا وأنماطنا السلوكية.
ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى المدراء؟
من الأهمية بمكان، عند تولي إدارة الآخرين، إدراك التأثير المحتمل للبيئة الخارجية على السلوك في مكان العمل. على سبيل المثال، ينبغي للمدراء، عند إعداد فِرق العمل ووضع الهياكل التراتبية، أن يأخذوا في الحسبان ما إذا كانت ثقافات المناطق المختلفة يمكن أن تدفع الموظفين نحو التعاون مع الآخرين أو العمل بصورة مستقلة، وإلى أي مدى يتوقع الموظفون التسلسل الهرمي والهيكل التنظيمي. ويشكل عدم، يعد أخذ هذه العوامل في الحسبان أحد الأسباب وراء فشل الكثير للغاية من مساعي التوسع العالمي.
ولاسيما عند إدارة فِرق عالمية، يمكن أن تؤدي قيم الموظفين ومعتقداتهم الكامنة إلى نشوء حالات من سوء الفهم والتوتر. على سبيل المثال، عند طلب المشاركة في الاجتماعات والمكالمات الهاتفية الجماعية، ينبغي للمدراء أن يضعوا في الاعتبار ما إذا كانت الاختلافات المحتملة في الثقافة يمكن أن تدفع المشاركين إلى الاحتفاظ بتعليقاتهم إلى أن يُطلب منهم تحديداً إبداء آرائهم، أو ما إذا كان يمكن أن يقدموا آراءهم بمحض إرادتهم. وتدخل الاعتبارات الثقافية أيضاً في الاعتبار عند تحفيز الموظفين وتصميم خطط للحوافز وتدريب الموظفين الجدد وتنفيذ عمليات اتخاذ القرار.
على الرغم من أن البيئة في مختلف المناطق يمكن أن يُسترشد بها في السلوكيات والمعايير في مكان العمل، إلا أن هذه التأثيرات لا تعدو أن تكون عاملاً واحداً من بين الكثير من العوامل التي يمكن أن تشكل الثقافة المؤسسية. بل إنه في بعض الحالات، يمكن أن تتعارض تأثيرات المناطق المختلفة مع الثقافة السائدة في المؤسسة. وغالباً ما تبرز هذه التوترات في الواجهة عندما تدخل الشركات أسواقاً جديدة، وهو ما يترك المدراء في مواجهة التحدي المتمثل في إدارة ثقافة مؤسستهم في إطار سياق إقليمي جديد. وفي هذه الحالات، من الضروري إجراء تحليل متأن لسمات الثقافة التي تعتبر أساسية لدعم استراتيجية الشركة بغية تحديد أي سمة من سمات الثقافة ينبغي المحافظة عليها وأي سمة منها ينبغي تطويرها.
يمكن أن تكون الثقافة عاملاً قوياً للحفاظ على قدرة المؤسسة على الاستمرار وتجديدها وصياغتها. وفي حين يمكن للفِرق تقديم وفورات في التكلفة ومساعدة الشركة في الحصول على الكفاءات من شتى أنحاء العالم، إلا أن الاختلافات الثقافية والتوقعات المتباينة حول المعايير في مكان العمل يمكن أن تكون مصدراً للتنافر. إذ توفر معرفة الأنماط المختلفة للمناطق معلومات قيّمة تراعي السياقات المختلفة، لكن من المهم أيضاً التذكير بوجود مجموعة واسعة من الثقافات المؤسسية في جميع المناطق. وينبغي للمدراء أن يحرصوا على عدم اللجوء إلى افتراضات عامة أو تنميط الآخرين استناداً فقط إلى المنطقة التي ينتمون إليها. وبغض النظر عن الأهداف والطموحات المحددة للمدراء، فإن بذل جهود فاعلة لفهم الثقافات الموجودة في المؤسسة والاعتراف بها يعتبر مسعى بالغ الأهمية لتحقيق الإدارة الفاعلة في البيئة العالمية في العصر الحالي.