ذكر الباحث الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد ريتشارد ثالر في كتابه "الترغيب" إحصائية لافتة، مفادها أن نسبة من وافق على التبرع بأعضائه بعد الوفاة في النمسا تقرب من 99%، في المقابل هي في حدود 12% فقط لدى الجارة ألمانيا، هذا على الرغم من كثرة العوامل التي تجمع سكان البلدين، من قدرة شرائية متقاربة، وثقافة مشتركة (الثقافة الجرمانية)، وعادات وتقاليد متشابهة كثيراً؛ ويكمن السبب وراء هذا الاختلاف الكبير في تغيير بسيط في استمارة الموافقة على التبرع، إذ صيغ سؤال التبرع في النمسا بحيث يُعدّ الفرد موافقاً تلقائياً إذا لم يرفض ذلك بصريح العبارة، أما في ألمانياً فيجب أن يُوافق على التبرع بصريح العبارة ويذكرها في الاستمارة وإلا لن يُعدّ متبرعاً.
هذا التغيير البسيط في صيغة السؤال هو جوهر "الترغيب" (Nudge)، إذ استطاع "مهندسو الخيار" (Choice Architectures)، كما يسمّيهم ريتشارد ثالر وزميله كاس سانستين، تحقيق نتائج باهرة للصالح العام باستخدام أداة سهلة منخفضة التكلفة، دون الإخلال برغبات المستخدمين.
علمياً، تُسمى صياغة السؤال بالأسلوب الذي استُخدم في النمسا "تأثير الخيار التلقائي"، وهو انحياز سلوكي درسه العديد من الباحثين، أشهرهم جونسون وفريقه عام 1993، ومعناه أن وجود خيار "تلقائي" متاح في أثناء عملية اتخاذ القرار يؤثر في تفضيلات المستخدم. من بين جميع الخيارات المتاحة أمامنا، فإن الخيار التلقائي هو الخيار الذي لا يتطلب منا بذل أي جهد أو تفكير لأنه قد اُختير بالفعل بالنسبة لنا. على سبيل المثال، عندما نُدخل برنامجاً جديداً إلى جهاز الكمبيوتر، فإننا غالباً نختار خيار التثبيت التلقائي (By Default)، ونحتاج فقط إلى متابعة التثبيت واختيار الوظائف التي تتبع ذلك. وبالتالي، فإن "الخيار التلقائي" هو الطريقة التي يُرجح فيها اختيار أسهل خيار متاح أمامنا. يعتقد العلماء أن دوافع الخيار التلقائي متعددة نذكر منها حقيقة أن الخيار التلقائي يتطلب أقل قدر ممكن من التفكير، في حين أن مقارنة الخيارات المختلفة والمفاضلة بينها تعني الكثير من الوقت والجهد العقلي، ولا سيما في حالة مواجهة قرار الاختيار بين مواضيع متشابهة، ويتيح لنا ذلك تقليل العدد الكبير من الخيارات التي نواجهها كل يوم وبالتالي التركيز على اتخاذ القرارات عندما يكون ذلك مهماً. مارك زوكربيرغ جعل خياره التلقائي في الملابس نوعاً واحداً من الأقمصة حتى يخفض عدد القرارات المتخذة. في عالم التسويق الإلكتروني، يمكن أن يُستخدم تأثير الخيار التلقائي عندما يحتاج العميل إلى اتخاذ قرار ما، سواء تعلق الأمر بالاشتراك في الرسائل الإخبارية، أو باختيار منتج ما أو باختيار طريقة التوصيل، فيُقدم الخيار التلقائي على أنه الخيار الأكثر سهولة وإتاحة، وهو ما يزيد في احتمالية اللجوء إليه.
تأثير الخيار التلقائي الذي استُخدم في النمسا هو أحد التطبيقات الواسعة لهندسة الخيار، وهو بدوره ينتمي إلى عائلة الاقتصاد السلوكي. في مجال الأعمال الربحية، تقوم هندسة الخيار على تهيئة عملية اتخاذ القرار تحت تأثير عدد من العناصر الملحوظة والمُغفَلة في إطار تسويقي، بمعنى أن طريقة عرض المنتجات أو بيعها تؤثر في إقبال المستهلكين على شرائها أو الإعراض عنها، إذ يوجد عاملان رئيسيان يحكُمان قرار الشراء هما: ميل المستهلك نحو الخيار الذي اعتاد عليه (الانحياز للوضع السائد) واختيار السلع بناءً على المزايا القصيرة الأجل (انحياز التركيز الآني)، وبالتالي يمكن تطبيق هندسة الاختيار باتباع الممارسات الآتية:
- عرض الخيارات المرغوبة على أنها الخيار التلقائي أو وضعها في نقاط قريبة على مرأى المستهلك.
- الحد من بقية الخيارات أو تعقيدها.
- تغيير طريقة تعبئة السلعة وتغليفها بحيث تبدو الأكثر سهولة للوصول والاستخدام.
يمكن اعتماد هندسة الاختيار في حثّ المستهلكين على الإعراض عن بعض المنتجات أيضاً؛ على سبيل المثال، تخفيض الطلب على السلع المضرة بالصحة مثل التبغ أو إضافة عواقب التدخين على علب السجائر أو زيادة الوعي بتسليط الضوء على الانتباه لكمية السكر أو الدهون في المواد الغذائية؛ لكن مجرد الاعتماد على ذكر العواقب والجوانب السلبية لن ينجح غالباً في تغيير قرارات المستهلكين، حتى لو كانت تهدد حياتهم فعلاً، ذلك أن العادات المتجذرة قوية جداً، وتتطلب فهماً عميقاً للطبيعة البشرية وحلولاً مبتكرة لتغييرها. من أفضل الأمثلة على هذه الحلول "المُعرقلة" القائمة على هندسة الخيار مثال من ثمانينيات القرن الماضي، حينما قرر مسؤولون في مبنى حكومي حث الموظفين على استخدام السلالم أكثر والحدّ من الاعتماد على المصعد الكهربائي، لتحسين صحتهم وترشيد استهلاك الكهرباء، فكان الحل "السهل" هو المنشورات والمُلصقات البصرية التي تُعدد فوائد صعود السلالم، مثل عدد السعرات الحرارية المحروقة، وأثر النشاط والحركة في صحة القلب، وكمية الطاقة المُوفرة وأثر ذلك في الحد من التلوث البيئي، لكنها لم تُجدِ نفعاً وكان الأثر ضئيلاً جداً، فلجؤوا إلى خيار مبتكر هو تأخير وقت فتح أبواب المصعد بنحو 60 ثانية فقط، فأدى ذلك إلى ارتفاع نسبة استخدام السلالم بنحو 80% خلال مدة شهر واحد، بل حتى بعد إعادة سرعة المصعد كما كانت قبل التجربة، فإن الموظفين استمروا في استخدام السلالم لأن فترة شهر كانت كافية لبناء عادة صحية جديدة.