لماذا اعتمد بيتر دراكر على الآراء أكثر من الحقائق عند اتخاذ القرارات؟

3 دقيقة
الحقائق
shutterstock.com/valiantsin suprunovich

الحقيقة ركيزة أساسية في خدمات الاستشارات الإدارية. يتطلب "القرار المبني على الحقائق" (وهي عبارة إذا بحثت عنها في محرك البحث جوجل فستجد من النتائج ما يصل إلى 1.8 مليون نتيجة) من فِرق المحللين تجميع البيانات وتحليلها، وغالباً ما توفر الشركات الاستشارية هذه الفرق تحديداً. تمحو الحقائق الصبغة السياسية عن القرارات، وتضفي عليها الموضوعية بدلاً منها، كما أنها تيسّر حسم الاختيارات الصعبة. فهل من المنطق والعقل أن نعارض البحث عن البيانات وتجميعها؟

لا جدال في أن بيتر دراكر أحد أبرز رموز علم الإدارة في القرن الماضي، ولا يمكن التشكيك في رجاحة عقله، ومع هذا فقد كانت إحدى أهم أفكاره محل تجاهل في غمرة البحث عن الحقائق. يقول الأب الروحي لعلم الإدارة في كتابه الصادر عام 1973 "الإدارة: المهام والمسؤوليات والممارسات":

"تنصحنا أغلب الكتب التي تتناول صنع القرار بأن نبدأ بتحديد الحقائق. لكن المسؤول التنفيذي الذي يصنع قراراً فعالاً يعرف أن الحقائق ليست هي الهدف الأول. إنها الآراء. فالفهم الذي يؤسس لصنع القرارات الصحيحة ينبع من التفاعل والتضارب بين الآراء المتباينة والتمعن فيما بين أيدينا من خيارات وبدائل. فمن المحال أن تجمع الحقائق أولاً؛ إذ لا وجود للحقائق من دون معيار لأهميتها".

وأطروحات دراكر التي تدعم هذا التأكيد الواثق عديدة:

  1. يؤدي عدم توضيحنا للآراء ببساطة إلى حقائق تأكيدية، "لم يفشل أحد قطّ في العثور على الحقائق التي يبحث عنها".
  2. يعطينا الرأي فرضية لم تُختبر بعد. وما إن نوضح الفرضية حتى نتمكن من تجربتها، وهذا أفضل من الجدال بشأنها. "يُصر الشخص الفعَّال على أن من يعبّرون عن آرائهم مسؤولون عن تحديد نتائجها الواقعية التي يمكن لنا توقعها والبحث عنها".
  3. القرارات أحكام، وليست اختياراً بين الصواب والخطأ. وهي غالباً ما تتمثل في "الاختيار بين مسارين للعمل، دون أن يمكننا التأكد من صحة أحدهما مقارنة بالآخر". من هنا كانت ضرورة الإحاطة بالبدائل.
  4. تقتضي القرارات الكبرى معايير جديدة. "حين يحلل المرء طريقة صُنع قرار سليم وناجح بحق، يتبين له مقدار ما بُذل من عمل وجهد وتفكير عميق لاستخلاص المعيار المناسب. ويفترض صانع القرار الكفؤ أن المعيار التقليدي ليس هو المعيار الصحيح، لأن المعيار التقليدي مرتبط بقرار صنعناه في الماضي. وبالتالي، تنم الحاجة إلى صنع قرار جديد عن انعدام فعالية ذلك المعيار التقليدي".
  5. والمفارقة هنا هي أن الآراء المتنوعة تحرر المسؤولين التنفيذيين من أسر المفاهيم المسبّقة وتعزز قدرتهم على الإبداع. والخلاف يمنع التقيد بفكر الشركة وتناول مسألة معينة وفق ما يفضله من يتبنون ذلك الفكر. وينقل لنا دراكر ما قاله رئيس شركة جنرال موتورز الأسبق، ألفريد سلون، بعد أن أيده المسؤولون التنفيذيون كافة في أحد القرارات: "أوصي بتأجيل المزيد من المناقشة حول هذه المسألة حتى اجتماعنا المقبل، لنأخذ وقتنا الكافي في الوصول إلى خلاف حولها وربما فهم جوانب هذا القرار كاملة".

تأمّل التناقض بين رؤية دراكر ومجريات العمل المعتادة في الشركات. قد يدرك صانع القرار آراء أصحاب المصلحة بوجه عام، ولكن حرصه على التصرف وتجنب الجدل يمنعانه من السعي إلى الإحاطة الكاملة بوجهات النظر المطروحة على طاولة صنع القرار. ولهذا، يبادر بصنع القرار ومن ثم يحشد الحقائق الداعمة له. تبنّت إحدى الشركات الاستشارية الرائدة على مدار عقود نهجاً يتمثل في التوصل إلى فرضية أولية، ومن ثم تطويرها بالنقاش والمشاركة، بدلاً من تجربة العديد من الفرضيات المتضاربة بحثاً عن الفرضية الأفضل تمثيلاً للحقيقة.

أما إن طبقت شركة نهج دراكر فسوف تتناول المسألة على نحو مختلف تماماً؛ سوف تعرض الآراء بوضوح كبير، ربما بتنفيذ استبيانات لا تفصح عن بيانات المشاركين فيها أو بالاستعانة بطرف محايد يجري مقابلات منظمة مع أهم الموظفين. وسوف تحث الشركة مسؤوليها التنفيذيين على تحديد مقياس القرار السليم، لتدفعهم إلى التفكير في معايير النجاح مستقبلاً وليس الاعتماد على المقاييس أو المعايير التقليدية المجربة من قبل في قرارات سابقة. وستُصر الشركة على ارتباط الآراء بتجارب قائمة على حقائق عند اعتمادها الرأي أو رفضه. من ثم، تضع إطاراً للقرار بوصفه خياراً فعلياً بين بدائل مدروسة وأخرى مستبعدة. وهكذا، تركز عملية صنع القرار على طرح الأسئلة المناسبة، وليس الحصول على الإجابة المناسبة.

من الواضح أنه نهج تزداد قيمته وفعاليته في بعض المواقف وليس في جميعها؛ فإذا كان القرار قراراً تشغيلياً يشبه إلى حد بعيد أحكاماً اتخذتها الشركة على نحو ناجح مراتٍ من قبل، ثم حدث تغيير بسيط في بيئة أعمالها الخارجية، فعندئذ لا سبب يدعو لتغيير خطوات مجرّبة ناجحة. أما إذا كانت الشركة في خضم متغيرات متسارعة في قطاع أعمالها، أو لم تنجح في فهم استراتيجيات المنافسين، أو تتعامل مع أنماط جديدة من العملاء، فعندئذ يكتسب رأي دراكر قيمة متعاظمة. يوجهنا طرح الأسئلة الصحيحة إلى مسار سليم واضح، حتى لو بدت الإجابات الصحيحة معقدة للغاية.

وفي عصر يمر فيه اقتصادنا بنقلات جوهرية، وتترصده قوى مزعزعة من كل جانب، تكتسب رؤية دراكر التي قدمها لنا قبل نحو أربعين عاماً أهمية أكثر من أي وقت مضى. يمكنك بكل تأكيد أن تحدد الحقائق وتتوصل إلى إجماع حولها، ولكن ابدأ بجمع الآراء وابحث عن الاختلاف حولها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي