ملخص: الاستدامة لم تعد خياراً جانبياً، بل أصبحت شرطاً أساسياً لنجاح المؤسسات. تقرير بنك التنمية الاجتماعية يوضح كيف يمكن دمج مبادئ الاستدامة في الاقتصاد والمجتمع بطرق عملية وفعّالة.
- الاستثمار في المشاريع الخضراء يعزز النمو الاقتصادي مع تقليل الأثر البيئي.
- دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يخلق وظائف مستدامة ويقوي الاقتصاد المحلي.
- تشجيع الابتكار الاجتماعي يساعد على إيجاد حلول عملية لقضايا المجتمع مثل التعليم والصحة.
- الاعتماد على الطاقة المتجددة يقلل من التكاليف طويلة الأمد ويحد من الانبعاثات.
- إدماج الاستدامة في خطط التمويل يجعل المؤسسات أكثر مرونة أمام الأزمات.
- بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص يعجّل من تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
- التركيز على تنمية رأس المال البشري يضمن استمرارية النتائج الإيجابية على المدى الطويل.
مع تنامي التحديات البيئية والاجتماعية وتعاظم الحاجة إلى نماذج اقتصادية أكثر مرونة واستدامة، باتت المؤسسات المالية تدرك أن تبني مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ضرورة استراتيجية. فهذه المبادئ تشكل إطاراً متكاملاً يعزز من قدرة المؤسسات على خلق قيمة طويلة الأمد، تسهم في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي، ورفاه المجتمع، وسلامة البيئة. فهي لم تعد مجرد إطار نظري، بل أصبحت محوراً رئيسياً للتحول الاقتصادي.
وهذا ما أدركه بنك التنمية الاجتماعية في وقت مبكر، إذ استطاع غرس ثقافة بيئية مستدامة، وتوفير الخدمات وبرامج التمويل التي تتفق مع أفضل الممارسات الدولية لدعم المشاريع الناشئة ذات الأثر الاجتماعي، وتحسين حوكمة الشركات لتحقيق التمكين الاجتماعي، ما يدعم التحول الاقتصادي الذي تنشده المملكة العربية السعودية، والوصول إلى مستهدفات رؤية 2030 التي ترتكز على 3 محاور استراتيجية، وهي مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح. لقد أسهم دمج مبادئ الاستدامة ضمن هذه الرؤية في صياغة بيئة تشريعية وتنفيذية خصبة تعزز الشفافية، وتحفز التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون، إذ لم تعد هذه المبادئ خياراً، بل أداة استراتيجية لإعادة توجيه رأس المال نحو قطاعات ذات كفاءة عالية وأثر مستدام.
حوكمة الاستدامة في المملكة: من الطموح إلى التخطيط والتنفيذ
توازن مبادئ الحوكمة بين الربحية والمسؤولية تجاه البيئة والمجتمع، من خلال تطبيق ممارسات تقلل من انبعاثات الكربون واستخدام الموارد غير المستدامة، واتباع سياسات تخفض استهلاك الموارد وتكاليف الطاقة. وعلى الرغم من ظهور هذا المفهوم لأول مرة عالمياً في تقرير تابع للأمم المتحدة في عام 2004، إلا أن المملكة العربية السعودية كانت سباقة في تحقيق أعلى مستوى من الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية منذ القرن الماضي، وتواصل مؤسساتها العمل على خلق أثر مستدام لتنمية المجتمع والاقتصاد والبيئة.
وفي هذا السياق، يمثل التمويل ركيزة أساسية في دفع العالم نحو مستقبل أكثر استدامة، إذ يحتاج تحقيق الصفر الكربوني إلى استثمارات إضافية تصل إلى 20 تريليون دولار على مدى العقدين المقبلين. حيث أشار تحليل صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن الصناديق التي تركز على الاستدامة تلعب دوراً مهماً في تمويل الانتقال إلى اقتصاد أكثر اخضراراً، والمساعدة في تجنب بعض الآثار الأكثر خطورة لتغير المناخ.
الاهتمام الوطني بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات
لم تعد مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) مجرد توجه أخلاقي في إدارة الأعمال، بل تحوّلت إلى معيار استراتيجي عالمي لتقييم أداء المؤسسات واستدامتها على المدى البعيد.
وتكشف دراسة من كلية هارفارد للأعمال أن الشركات التي تطبق مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية بفعالية تفوقت بنسبة 4.8% سنوياً من حيث العوائد على الشركات التي لا تطبقها. وانطلاقاً من هذا التوجه العالمي، تبدو التجربة السعودية مميزة ومتفردة، إذ لا تتبنى مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية كأداة امتثال، بل كرافعة استراتيجية لتحقيق رؤية 2030 وبناء اقتصاد مرن ومجتمع شامل.
نشرت نحو 87% من الشركات المدرجة في سوق تداول السعودية تقارير وضعت فيها مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية موضع التنفيذ بحلول نهاية عام 2024، مقارنة بـ 39% فقط في عام 2020، وفقاً لتقرير من إنسايتس. كما حرصت المملكة في السنوات الأخيرة على جعل الاستدامة أولوية وطنية، ليس فقط على المستوى البيئي، بل في عمق البنية الاجتماعية والاقتصادية، وقد تمثل هذا الالتزام في إنشاء صندوق التنمية الوطني عام 2017، لتمكين الصناديق والبنوك التنموية من تحقيق الاستدامة المالية، وتعزيز التنسيق فيما بينها. كما استعرضت المملكة عام 2018 التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة خلال المنتدى السياسي رفيع المستوى، في خطوة تؤكد شفافيتها والتزامها الطوعي بالتنمية المتوازنة.
وتجلى التزام المملكة بمبادئ الحوكمة البيئية في إطلاق مبادرات كبرى محلية وإقليمية لوضع خارطة طريق بهدف تحقيق الحياد الصفري لانبعاثات الكربون. إذ شهد عام 2021 انطلاق مبادرتين نوعيتين: السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، واللتين وضعتا المملكة في موقع بيئي عالمي.
فالأولى تهدف إلى تقليل الانبعاثات الكربونية بنحو 278 مليون طن سنوياً، أما الثانية فتركز على خفض الانبعاثات الإقليمية بنسبة 10% من الإجمالي العالمي، ما يعادل حوالي 670 مليون طن سنوياً. لم تستهدف هذه المبادرات معالجة آثار التغير المناخي فحسب، بل إنها تسهم أيضاً في إعادة تشكيل النموذج الاقتصادي من خلال تحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة، والتقنيات النظيفة، وحلول الاقتصاد الدائري.
ومن الناحية الاجتماعية، يعد تمكين رأس المال البشري ركيزة أساسية ضمن توجهات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. لذا، تسعى المملكة إلى تعزيز المشاركة المجتمعية والشمولية من خلال تفعيل دور القطاع الثالث، وتوفير فرص العمل، ورفع مشاركة المرأة في سوق العمل لتصل إلى 37% بحلول عام 2023.
بنك التنمية الاجتماعية: نموذج تطبيقي لمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية
في قلب هذه التحولات، يبرز بنك التنمية الاجتماعية كأحد أبرز المؤسسات التي تعتمد مبادئ "ESG" لتعزيز النمو الاجتماعي والاقتصادي في المملكة وتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة. تأسس البنك عام 1971 بهدف تقديم القروض الاجتماعية وتمكين الأفراد، وتوسع دوره اليوم ليشمل تطوير منظومة متكاملة للتمويل التنموي المستدام، تستند إلى ثلاثية: البيئة والمجتمع والحوكمة.
البيئة: من التوعية إلى الممارسة المؤسسية
في سبيل تحويل الاستدامة إلى سلوك مؤسسي وثقافة تنظيمية تُعزز النمو بشكل متوازن، اهتم البنك بتكثيف خدماته لتعزيز ثقافة الاستدامة البيئية والحفاظ على الموارد الطبيعية، إيماناً منه بأهمية ترسيخ الوعي البيئي لدى الموظفين، وتحفيزهم على تبني ممارسات صديقة للبيئة، بما يسهم في تقليل الأثر البيئي لهم، وتعزيز التزامهم بالمسؤولية الاجتماعية.
كما يرفع البنك الوعي بالقضايا البيئية وأفضل الممارسات والحلول المصممة خصوصاً لتلبية احتياجات البيئة المحيطة من خلال حملات وأنشطة متعددة القنوات، ويسهم في تطوير العمل المناخي من خلال تحسين التعليم وتعزيز الوعي بأهمية التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها والحد من آثارها والإنذار المبكر بها، بما يضمن اكتساب جميع المتعلمين من كل الأعمار والفئات للمعارف والمهارات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة. ويواصل البنك التزامه بالاستدامة البيئية من خلال تبني حلول مبتكرة تعزز التحول نحو الاقتصاد الأخضر، حيث أطلق مبادرات نوعية شملت توفير محطات شحن كهربائية لدعم انتشار المركبات الصديقة للبيئة، والإسهام في خفض الانبعاثات الكربونية، وبناء بيئة خضراء أكثر استدامة. وفي هذا السياق، وقع البنك اتفاقية تعاون مع شركة القيادة الخضراء العربية (BYD) لدعم ممارسي العمل الحر في قطاع النقل التشاركي عبر توفير حلول نقل مستدامة، وتقديم مركبات متوافقة مع التوجهات البيئية، بما يسهم في تطوير هذا القطاع الحيوي وتعزيز استدامته.
كما تجاوز حجم التمويل الموجه من البنك للمبادرات البيئية والتنموية 150 مليون ريال، غطت مشاريع في مجالات الزراعة، والطاقة المتجددة، وإدارة النفايات، والخدمات البيئية
الجانب الاجتماعي: تمكين حقيقي للفئات الأكثر احتياجاً
يرتكز دور بنك التنمية الاجتماعية في هذا المحور على سد الفجوات الاجتماعية وتوسيع فرص الوصول إلى التمويل للمستفيدين وذلك لتلبية الاحتياجات الأساسية للمستفيدين منها قرض الأسرة، وقرض الزواج، والمطلقات والأرامل عبر منتج "كنف"، فمنذ التأسيس وحتى عم 2024 م مول البنك ما يقارب 3 مليون مواطن ومواطنة باجمالي تمويلات 119 مليار ريال. وقد لامست حياة هذه التمويلات 9.7 مليون مواطن ومواطنة. وقد حظي تمويل الزواج النصيب الأكبر من التمويل بقيمة تجاوزت 57 مليار ريال توزعت على أكثر 1.3 مليون مواطن، وساهم البنك في إعانة أكثر من 1.2 مليون أسرة بتمويل تجاوز 55 مليار ريال من الشباب المقبلين على الزواج، إلى المطلقات والأرامل عبر منتج "كنف"، وذوي الدخل المحدود الذين استفادوا من قروض الاسرة وترميم المنازل.
ولتعزيز مبدأ الاستقلال المالي، أطلق البنك منتجي "زود الادخاري" و"زود الأجيال"، واللذين يستهدفان بناء ثقافة ادخارية واقعية للأسر والأطفال. وقد تم فتح ما يقارب 283 ألف حساب ضمن هذين البرنامجين، وبلغ مجموع المدخرات نحو 578 مليون ريال سعودي، ما يعكس تحول الادخار إلى سلوك اقتصادي طويل الأمد.
دعم المشاريع الصغيرة والريادية: الابتكار في صلب الحوكمة البيئية والاجتماعية
يدرك بنك التنمية الاجتماعية أن المشاريع الصغيرة والناشئة ليست فقط رافعة اقتصادية، بل وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الابتكار. ويسعى البنك إلى تقديم برامج ومبادرات تدعم الاستقلال المالي، وتعزز من إسهام المشاريع الصغيرة والناشئة في النمو الاقتصادي. وتشمل هذه الجهود:
- وقدم البنك منظومة متكاملة من المنتجات التمويلية، بإجمالي تمويل تجاوز 21 مليار ريال حتى نهاية عام 2024، أسهمت في دعم أكثر من 54 ألف منشأة وتوفير 140 ألف وظيفة. تشجيع المنشآت.
- يطلق البنك عدة منتجات للمنشآت، ما يسهم في تنمية المشاريع الصغيرة، وزيادة فرص العمل، وتعزيز انخراط المرأة في سوق العمل، حيث بلغت نسبة قروض المنشآت الصغيرة والناشئة المملوكة للنساء 40% من إجمالي التمويل حتى نهاية عام 2024
- وفي إطار دعم القطاعات الواعدة، ركّز البنك جهوده على تمكين المنشآت العاملة في قطاع التقنية وقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية، باعتبارهما من أبرز روافد الاقتصاد الرقمي الوطني، عبر محافظ تمويلية تتجاوز قيمتها 1.3 مليار ريال.
- كما أطلق البنك العام الماضي محفظة المسؤولية الاجتماعية تحت شعار "ندرك أثرها"، لتحفيز مشاركة القطاع الخاص في تطوير المنظومة الريادية، وتمويل المشاريع المجتمعية، حيث وقّع اتفاقيات بقيمة 360 مليون ريال مع شركاء من قطاعات التمويل، والطاقة، والأغذية، والخدمات اللوجستية، ويستهدف الوصول إلى محفظة مليارية تسهم بـ 1.7 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
- ويستمر التمكين غير المالي كعنصر جوهري في رحلة الدعم، عبر مبادرات البنك التمكينية وفي مقدمتها "جادة 30" كحاضنات تمكين فعالة. توفر بيئة محفزة علي الابتكار وتساهم في احتضان أكثر من 4 آلاف منشأة، ودعم أكثر من 150 ألف مستفيد من رواد الأعمال وأصحاب المشاريع، كما يبرز "مركز دلني للأعمال" كمنصة متخصصة لتقديم الخدمات التدريبية والاستشارية حيث تجاوز عدد المستفيدين من خدماته 150 الف مستفيد.
وتعاون البنك مع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لإطلاق الأعمال في المؤسسات الناشئة والصغيرة واستفاد من البرنامج آكثر من 1,500 مشارك منذ انطلاقه عام 2013.
الحوكمة المؤسسية: من الرؤية إلى التنفيذ الرقمي
بالتوازي مع البعدين البيئي والاجتماعي، بنى البنك منظومة حوكمة قوية تدعم الشفافية وتحسن الكفاءة التشغيلية. فقد تبنى سياسة متقدمة لإدارة الأصول وتقليل المخاطر المالية، وأنشأ مركز بيانات تحليلي يوفر المعلومات الدقيقة لصنع القرار المبني على الأدلة.
كما تم تسريع وتيرة الأتمتة لتسهيل عمليات التمويل وتحقيق تكامل بين مختلف أنظمة البنك، مع اعتماد نظام حوكمة يضمن نزاهة تقارير الأداء، ويعزز المساءلة الداخلية.
وقد انعكست هذه الحوكمة على نتائج ملموسة، فخلال فترة قصيرة، استطاع البنك مضاعفة حجم الدعم الموجه للمستفيدين، ووسع من دائرة الشمول المالي، وحقق نتائج فاقت التوقعات فيما يتعلق بالتأثير المجتمعي والاقتصادي.