كيف تبني منصة ناجحة في عصر الاقتصاد التشاركي؟

11 دقيقة
كيف تبني منصة ناجحة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تطور مفهوم السوق مع التطور التقني، فتحول من مكان محدد إلى منصة إلكترونية تعمل دون قيود مكانية أو زمانية. هناك نوعان من المنصات التي تعمل في مجال التجارة الحقيقية: منصة أحادية الجانب (single-sided platform) يشرف عليها بالدرجة الأولى البائع، مثل أمازون، ونتفليكس، ومنصات خطوط الطيران، وغيرها، فما هي إجابة سؤال كيف تبني منصة ناجحة بطريقة صحيحة؟

وهناك النوع الثاني، وهو المنصة متعددة الجوانب (multi-sided platforms)، حيث تقوم المنصة بدور الوسيط بين البائعين والمشترين، مثل إير بي إن بي (Airbnb)، وإي باي (eBay)، وفري لانسر (Freelancer) ومثيلاتها.

تستهوي فكرة بناء المنصة أي رائد أعمال بسبب كونها قابلة للتوسع بشكل كبير، ولا يوجد فيها مخزون أو محتوى غالباً، فهي مكان يجتمع فيه طرفا السوق (البائع والمشتري)، وصاحب المنصة يأخذ عمولته من التعاملات بين طرفي السوق. ومع ظهور نماذج ناجحة للاقتصاد التشاركي، فإنّ جاذبية المنصات متعددة الجوانب زادت بشكل كبير واستقطبت استثمارات ضخمة. ووفقاً لتقرير بوسطن كونسلتينغ جروب (BCG)، فإنّ استثمارات رأس المال المغامر (أو استثمارات رأس المال الجريء) في مجال الاقتصاد التشاركي فقط (أحد أشكال المنصات متعددة الجوانب) منذ العام 2010 تقدّر بـ23 مليار دولار.

اقرأ أيضاً: زعزعة المنصة أهم بكثير من زعزعة المنتج

يركز عدد كبير من رواد الأعمال على التحديات التقنية والتنفيذية بالدرجة الأولى في المنصات، ويتم إغفال الجانب التصميمي والجدوى الاقتصادية الفعلية للمشروع. إنّ التحدي الأكبر في هذا النوع من المنصات هو تحد اقتصادي تصميمي وليس تقنياً، حيث تتقدم التقنية بسرعة أكبر من قدرتنا على الاستيعاب. وكمثال على ذلك، انظر إلى المتاجر الإلكترونية، يمكنك الآن تنزيل رمز متجر إلكتروني كامل من الإنترنت بشكل مجاني (open source) وتبدأ مشروعك خلال عدة ساعات من دون أي خبرة. وإذا أردت جودة أعلى، فيمكنك الاشتراك مع مزودي خدمات المتاجر الإلكترونية، مثل شوبيفاي (Shopify) أو بيغ كومرس (bigcommerce) أو منصة زد الإلكترونية، ويكون لديك متجر إلكتروني عالي الجودة مقابل رسم شهري. في المقابل، لو أردت بناء متجر الكتروني بنفس الجودة فربما يكلّفك مئات الآلاف وربما الملايين. وما حصل في المتاجر الإلكترونية حصل مثله في الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك، أو تطبيقات التوصيل والطلبات مثل أوبر، حيث يمكنك الحصول على رمز مفتوح المصدر بتكلفة قليلة نسبياً.

أنواع الفرص؟

لبناء منصة اقتصاد تشاركي أو سوق إلكتروني (منصة وساطة) ناجحة، أنت تحتاج لأن تقدم هذه المنصة حلّاً لمشكلة فشل السوق الحالي في حلّها، وبالتالي تحتاج حلّاً إبداعياً يزيل معوقات التعامل (market frictions) ويعالج المشكلة ويتيح لطرفي السوق العمل بشكل أكثر كفاءة. فلا يكفي وجود أطراف المعاملة لتقرر بناء منصة تضم هذين الطرفين لإقناعهما بتنفيذ تعاملاتهم من خلال منصتك. فإذا كان الوضع الحالي معقولاً أو إذا كانت منصتك لا تقدم قيمة عالية تبرر تكلفة استخدامها من قبل طرفي السوق، فلن تنجح. ولطالما سمعنا عن منصات بدأت ثم انتهت بسرعة إما لعدم وجود مشكلة كافية من الأساس أو لعدم قدرة المنصة على توفير حل مناسب.

لكن ما نوع المشكلات التي يمكن حلها من خلال هذه المنصات؟ يوجد مشكلتان رئيسيتان تحتاج لوجود اقتصاد تشاركي أو منصة لحلها. الأولى: مشكلة وجود طاقة استيعابية فائضة غير مستغلة في السوق (excess capacityوالثانية: وجود سوق غير كفء (inefficient market)، كما يجب أن تكون جميع المنصات الأخرى قد عجزت عن حل هاتين المشكلتين.

بالنسبة إلى الطاقة الاستيعابية الفائضة غير المستغلة في السوق، فإنها إذا ما وجدت، ولم تتوفر وسيلة للاستفادة منها بسهولة، فهي بمثابة مال ملقى على الطريق لمن يستطيع إيجاد وسيلة لتشغيلها. فالطاقة الاستيعابية لها صوراً عدة كالوقت الإضافي، أو المساحة المكتبية الإضافية، أو الغرفة الإضافية في المنزل، أو بضاعة فائضة أو حتى مساحة تخزينية فائضة عن الحاجة، وغيرها. على سبيل المثال، يسكن كثيرون في منزل أكبر مما يحتاجونه فعلاً، ويدفعون مقابل هذه الزيادة التي قد لا يستفيد منها إلا لعدة أيام في السنة عندما يزوره أحد، كان هذا الأمر، فرصة لـ”إير بي إن بي” التي أوجدت آلية سهلة ومستدامة لتأجير هذه المساحة الزائدة، وبالتالي، فقد أقبل الناس عليها بصدر رحب، لأن الخيار الآخر هو تركها فارغة، فتكلفة الفرصة البديلة تقريباً كانت صفر. وهذا ما مكن هذه المنصة، من أخذ 15% تقريباً على شكل عمولة على الإيجارات التي تتم من خلال الموقع. ذات المثال ينطبق على تطبيق أوبر، فكثير من مالكي السيارات لديهم المساحة الفارغة في سياراتهم ولديهم أيضاً الوقت الفائض ولا يستطيعون استغلاله بعمل مجزٍ حسب الطلب، فاستطاعت أوبر أن توجد وسيلة لتأجير هذه المقاعد والساعات الفارغة يومياً، وقد أقبل عليها الناس أيضاً. فباتت أوبر تأخذ ما معدله 25% من المال وتبقي 75% للسائق.

اقرأ أيضاً: يمكن للمنصات المحلية أن تتغلب على المنصات العالمية الكبرى في بعض الحالات

أما عن وجود سوق غير كفء، فلنأخذ مثالاً عن خالد الذي لديه بضاعة لا يريدها ومستعد لبيعها بسعر السوق، وعلى الجانب الآخر ناصر الذي يريد هذه البضاعة ومستعد لشرائها بسعر السوق أيضاً. يفترض أن تتم هذه الصفقة ما دام كلا الطرفين لديهما الرغبة في التعامل. لكن على خالد أولاً تسعير بضاعته بسعر السوق الذي لا يعرفه، ثم البحث عن ناصر وعرض بضاعته له بطريقة جذابة وهذا مكلف بالنسبة له. في المقابل، ناصر لا يعرف أين يجد خالد وبضاعته، وليس متأكداً من سعر البضاعة أيضاً. إضافة إلى ذلك، ليس هنالك ثقة بين الطرفين، لأنهما لم يلتقيا من قبل، ولا يوجد آلية واضحة لإرسال البضاعة ودفع المبلغ وضمان جودة البضاعة في الوقت نفسه. يوجد الملايين مثل خالد وناصر في كل بلد. وإلى وقت قريب كانت هذه الفرصة معضلة لا يوجد لها حل، لأن تكاليف معوقات السوق أكبر من قيمة التبادل التي سيحصل عليها الطرفان. ثم ظهرت منصة إيباي وأوجدت حلاً لها، بحيث بات بمقدور خالد عرض بضاعته، والموقع يسوقها لعدد كاف من المشترين، والسعر يتحدد بناء على سعر السوق من خلال نظام المزايدة، كما يستطيع خالد وناصر التأكد من جدية الطرف الآخر من خلال تقييمات وتعليقات الأعضاء. كما يضمن الموقع آلية استلام وضمان البضاعة من خلال نظام المدفوعات عبر باي بال (PayPal). كل هذا مقابل عمولة يحصل عليها الموقع. أقبل الناس على إي باي إقبالاً شديداً وتجاوزت قيمته السوقية قيمة أمازون في بداياته. ثم انتشرت فكرة الموقع في أنحاء مختلفة من العالم.

ما فعله إيباي هو تنظيم سوق غير كفء، ومثل إيباي، يوجد الكثير من المنصات التي قامت على فكرة تنظيم أسواق كانت مهملة أو معطلة. بحيث نظمت منصات المستقلين عمل المستقلين الذي وجد قبل المنصة.

في السعودية، ظهر موقعا حراج وعقار لتسهيل عملية البيع للسيارات والعقارات في البداية، ثم أصبحت تجد كل شيء تقريباً في موقع حراج السعودي، أيضاً هنالك العملاق الصيني علي بابا، الذي نظم عملية البيع بين المصدر الصيني والسوق الدولي، ثم تجاوز ذلك إلى تنظيم أسواق إلكترونية عدة في الصين وإزالة تكاليف التعامل وتفوق حتى على إيباي في الصين.

اقرأ أيضاً: العناصر الثلاثة لاستراتيجية المنصات الناجحة

تعاني الكثير من الأسواق في العالم من قلة الكفاءة، لكن قبل أن تستثمر في مشروعك القادم، ينبغي عليك أن تقيّم مدى سوء الوضع الحالي وإلى أي مدى يمكنك تحسينه؟ وكم سيكلفك ذلك؟ قلة من الشركات استطاعت حل هذه المعضلة وصممت حلاً يجعل كل أطراف السوق في وضع أفضل. السوق مليء بشركات وجدت فرصة حقيقية وسوقاً غير كفء، لكنها فشلت في تقديم حل أفضل. ومن الأمثلة المعروفة على مشكلة فشلت شركات عدة في حلها: مجال توصيل منتجات البقالة. وأشهر مثال بهذا الخصوص شركة ويب فان (Webvan) في الولايات المتحدة التي وصلت قيمتها السوقية إلى 5 مليارات دولار تقريباً، ثم أشهرت إفلاسها في العام 2001 لارتفاع مصاريفها. وما زالت هذه المعضلة تستقطب رؤوس الأموال لحلها. ومن أواخر المستثمرين في هذا المجال، هو أمازون من خلال أمازون فريش (Amazon Fresh) لكنها مازالت محصورة على عدة مدن أميركية فقط، أما في السعودية، فتداخلت عدة شركات ناشئة في هذا المجال، مثل نعناع دايركت و بقالة أونلاين وتود دور ستيب وغيرها.

كيف تبني منصة ناجحة

إذاً، يعتمد نجاح منصتك على حجم المشكلة في الوضع الحالي، ومقدار القيمة التي ستوفرها لأطراف السوق، خاصة البائعين. فدخل المنصة هو نسبة من هذه القيمة التي ستوفرها.

مصدر دخل إضافي

يمكن تقسيم العملاء (البائعين) بحسب قدراتهم إلى نوعين: الأول: هو البائع المحترف الذي كان يؤجر شقته، قبل وجود إير بي إن بي وأمثالها، من خلال العلاقات الشخصية والإعلانات وغيرها، والنوع الآخر: الذي لا يقوم ذلك. هنا، تكون القيمة المضافة بالنسبة للنوع الثاني: هي إيجاد مصدر دخل غير متاح سابقاً. هذا النوع لديه مرونة للقبول بالعمولة التي تعرضها عليه المنصة -على الأقل في البداية- بشرط أن تغطي تكاليفه وتمنحه دخلاً مقبولاً. لكن بعد مدة سيتحول هذا البائع إلى النوع الأول وهو النوع المحترف وسيعيد تقييم علاقته بالمنصة، فإذا وجد أنه يمكنه تحقيق ربح أكثر خارج المنصة فإنه سيخرج. وهذه المشكلة تعاني منها كثير من المنصات وخصوصاً منصات المستقلين (freelancing)، حيث يخرج بعض المستقلين بعد فترة ويعمل بشكل شخصي. والحل هو فهم القيمة المضافة لهذا العميل بدقة ومن ثم التسعير بناء عليها، مع العمل المستمر لرفع مستوى القيمة المضافة وتعزيزها.

تقليل تكلفة البحث والفرز والاختيار

في حالة تأجير الشقق الشخصية “إير بي أن بي”، فإنّ المالك يبحث عن الزبون (المستأجر) من خلال الإعلان مثلاً في بعض المواقع. عند وجود الزبون، يبدأ المالك بمرحلة الفرز وتحديد هل الزبون مقبول أم لا؟ ولو أخطأ في تقديره، فإنه يتحمل المخاطرة. هذه العملية مكلفة ومتعبة لكن بالإمكان تعلمها بمرور الوقت، ما يجعل تكلفة الفرصة البديلة بالنسبة لهذا النوع من البائعين ليست صفراً. فهو لديه خياران: إما أن يعمل بنفسه أو يعمل من خلال وسيط. والقرار مبني على الربح المتوقع ودرجة المخاطرة ومستوى الخدمة من الخيارين. لذلك نتوقع أن يقبل هذا النوع من البائعين عمولة أعلى من التي يقبلها النوع الآخر (غير المحترف) بسبب وجود خيار آخر. وكلما ارتفعت تكلفة البحث والفرز والاختيار خارج المنصة كلما كان ذلك أدعى لنجاح المنصة في حال نجحت في تخفيض التكلفة وتسهيل التعامل.

فرصة كسب المال بطريقة مستدامة وعدد أكبر

المنصة تعد البائع بعدد أكبر من الزبائن، ما يجعل إجمالي الربح أكثر ونسبة إشغال الطاقة الفائضة أعلى. قد يكون متوسط العملية أقل مما لو عمل بنفسه، لكن الإجمالي سيكون أكثر لزيادة عدد العمليات. وهذا الوعد هو الذي قامت عليه صناعة مواقع حجوزات الفنادق، حيث يأخذ الفندق أقل من متوسط سعره في الغرفة من موقع الحجوزات مثل موقع المسافر، لكن، يحصل نسبة إشغال أعلى مما لو أجرها بنفسه بسبب قدرة المنصة (موقع الحجوزات) على التسويق. هذه القيمة تناسب الأسواق الكبيرة التي تعاني من مشكلة الطاقة الاستيعابية غير المستغلة أكثر من الأسواق الصغيرة.

المصداقية والثقة (الأمان) أساسيات معرفة كيف تبني منصة ناجحة

بعض المنصات تجبر طرفي التعامل على تقديم إثباتات وضمانات لجودة الخدمة وتلزمهم بتوقيع عقود للتعامل، ما يقلل المخاطرة، وتقوم بعملية فرز مبكرة. فلا يسجل في هذا الموقع إلا الموثوقون لأن تكلفة الخداع في الموقع عالية. على سبيل المثال “باي بال” و”إيباي”. يحتفظ “إيباي” بمبلغ البيع لـ21 يوماً كضمان في حال الشكوى. وعند أي شكوى يقوم “باي بال” بحجز المبلغ مباشرة ثم يجبر البائع على التواصل مع المشتري وحل المشكلة.

السمعة الإلكترونية

من أهم القيم المضافة لهذه المنصات، أنه يمكن لأطراف السوق والبائعين تحديداً بناء سمعة بالاعتماد على تعاملاتهم السابقة في المنصة. وهذا يزيد من عدد زبائنهم وقد يساعدهم في رفع قيمة خدماتهم. وكذلك يساهم في عملية الفرز التي تحدثنا عنها سابقاً. إذا استطاعت المنصة جمع عدد كبير من التقييمات الموثوقة، فإنّ هذا بمثابة سوق بذاته حتى لو لم يكن هنالك تبادل تجاري داخل المنصة. ومن الأمثلة على ذلك موقعي يلب (Yelp) وفورسكوير (Foursquare) لتقييمات المطاعم، حيث تقدر قيمة كل شركة منفردة بمليارات الدولارات، على الرغم من أنّ هذه المواقع لا تبيع أي منتج داخل المنصة. السمعة الإلكترونية أيضاً يصعب نقلها من موقع للآخر، ما يجعلها ميزة تنافسية هامة.

توفر المشترين (الزبائن)

أحياناً تكمن القيمة ببساطة في توفر المشترين في المنصة لقدرة المنصة المميزة على التسويق واستهداف الزبائن وهذه عملية صعبة ومكلفة، لكن إذا قامت بها المنصة بكفاءة فتكلفة استهداف الزبون الواحد داخل المنصة ستكون أقل من تكلفة استهدافه في أسواق أخرى، ما يجعلها جذابة للبائعين. إحدى المنصات المحلية بنت منتجاً تقنياً رائعاً واستقطبت بائعين كثر لكنها أهملت جانب المشترين فلم تستقطبهم ولم تعمل على جانب التسويق، ما أضعف من قيمة المنصة كثيراً، بل وجعل التسجيل وإدارة المنصة تكلفة إضافية على البائع!

الربط الذكي بين أطراف المنصة (Matchmaking)

إذا تمكنت المنصة من الربط الذكي بين أطرافها، فهذا يعني زيادة القيمة للطرفين، لأن كلاهما يريدان نفس الشيء. أحياناً المشكلة لا تكون في جودة المنتج إنما بجودة العلاقة. إنّ شركات التوظيف تعدّ مثالاً على تجارة قائمة على الربط الذكي. ربما يكون كل المرشحين لدى شركة التوظيف ذوي كفاءة ويملكون مؤهلات متميزة، لكن واحداً فقط هو أكثرهم مناسبة للعميل على الطرف الآخر. إنّ القيمة التي توفرها شركة التوظيف تكمن في ربط الطرفين معاً، فالربط الذكي يقلل من تكاليف البحث ويزيد القيمة المقدمة لأطراف العلاقة، وهو ميدان للتنافس بين المنصات باستخدام خوارزميات متقدمة وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

التسعير

التسعير هو نتيجة للتحليل العميق للقيمة المضافة للمنصة. ولذلك تتفاوت المنصات في أسعارها وعمولاتها. يفترض السعر المناسب أن يكون مغرياً بما يكفي ليرجع طرفا العلاقة للمنصة مرة أخرى لإتمام صفقات أخرى، وعالياً بما يكفي ليحقق أرباحاً كافية للمنصة. إذا كان أعلى من اللازم، فلن تستطيع المنصة المنافسة مع الوضع الراهن أو مع المنصات الأخرى، فالسعر نظرياً يجب يكون حده الأعلى متمثلاً بالقيمة التي وفرتها المنصة للعميل، وحده الأدنى متمثلاً بالفرصة البديلة لطرفي التعامل في ما لو لم يستخدما المنصة.

هناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في السعر. فمن طرف البائع، يوجد مدى ندرة وخصوصية الخدمة التي يوفرها، فكلما كانت لديه مزايا ينفرد بها عن المنافسين كلما قلت العمولة التي تستطيع المنصة اقتطاعها. إضافة إلى تكلفة الفرصة البديلة خارج المنصة وغيرها. ومن جانب المنصة، هناك القيم التي تستطيع المنصة توفيرها لأطراف التعامل، إضافة إلى تكلفة هذه القيم على المنصة.

والسؤال الأهم بعد تقدير القيمة المضافة للمنصة هو: من سيدفع مقابل هذه القيمة؟ هل سيدفع طرفا التعامل أم ستقوم المنصة بتقديم خدمة مجانية لطرف ما لتحفيزه وتأخذ المقابل من الطرف الآخر؟ لا يوجد إجابة واحدة، لأن كل النماذج موجودة في السوق، وكل منصة تختلف عن المنصات الأخرى. وكل طرف في المنصة مختلف أيضاً بحسب القيمة التي يحصل عليها. توفر العديد من المنصات الخدمة مجاناً لطرف ما، في ما تأخذ مقابل استفادة الطرف الآخر. وأشهر مثال على ذلك هي جوجل، حيث تقدم خدمة البحث مجاناً في ما تأخذ دخلها من المعلنين. وتعتبر مجمعات الأسواق (المولات) مثالاً آخر وهو أقدم من جوجل، لكنه يتبع نفس سياسة التسعير. صاحب المول يأخذ إيجاراً من الشركات لكنه يتيح للمتسوقين دخول السوق مجاناً. المعضلة هي في الوصول لمرحلة التوازن المستمر في المنصة بحيث يستطيع كل طرف الاستفادة منها وإلا ستنهار.

تتبع معظم المنصات المتميزة استراتيجية واحدة، وهي الوصول إلى العدد الكافي من العملاء لتحقيق الكتلة الحرجة (critical mass) التي تمكّن المنصة من تغذية نفسها بنفسها وتمكّن أطراف المنصة من الوصول إلى ما يريدون بيسر وسهولة. لا توجد معادلة واضحة لتحديد الكتلة الحرجة لكل منصة، لكن يمكنك معرفة ذلك عندما تكون تكلفة إضافة عميل جديد منخفضة جداً مقارنة ببداية المنصة، وعندما تكون نسبة إكمال المهام في المنصة عالية نسبياً مقارنة بالسابق.

المنصات متعددة الأوجه

تقوم المنصات متعددة الأوجه (multisided platforms) على نموذج اقتصادي يسمى تأثير الشبكة (network effect)، ويعني باختصار أن تزداد قيمة المنصة للمستخدم بزيادة عدد المستخدمين.  فمثلاً: لو أنّ عدد مستخدمي تطبيق واتساب قليل، فقيمته بالنسبة للعميل تصبح قليلة، على خلاف المتاجر التقليدية، حيث لا يهم عدد المستخدمين ما دمت ستحصل على بضاعتك بسعر مناسب. فعندما  ظهرت منصات منافسة لواتساب، بقي أكثر الناس على واتساب، لأن الناس الذين تريد التواصل معهم ما زالوا في هذا التطبيق، والمثال ينطبق على فيسبوك، لنكيدإن، وي شات وغيرها. ويجدر الانتباه إلى أنّ العدد بحد ذاته ليس العامل الوحيد في تأثير الشبكة، وإنما الكثافة، بمعنى كم عدد الناس الذين يمثلون قيمة للمستخدم موجودون في المنصة؟ في “إير بي أن بي” مثلاً، يتحقق تأثير الشبكة بالنسبة لسائح في سان فرانسيسكو عندما يكون هناك عدد كاف من الشقق في نفس المدينة. والعكس صحيح بالنسبة لمالك الشقة، حيث تزداد قيمة المنصة عندما تكون هي وجهة سائحي سان فرانسيسكو، فلو كان لدينا منصتين إحداها لديها ألف شقة متناثرة في أرجاء الولايات المتحدة ومنصة أخرى لديها 100 شقة فقط في مدينة واحدة، فمن السهل التنبؤ بنجاح المنصة الثانية، لأنها تستقطب سائحي تلك المدينة تحديداً.

يتحقق تأثير الشبكة عندما يكون هناك عدد كاف من المستخدمين في منصة واحدة، ما يجعلها المنصة الرئيسية في مجالها، وهذا يمكّن المنصة من النمو السريع لأن (الجميع هناك). فلا تستطيع أي منصة أخرى المنافسة بسهولة وهذا يجعل تأثير الشبكة من أهم المزايا التنافسية في نموذج عمل المنصات. فالهدف هو أن تكون المنصة هي الأولى في مجالها،ما يمكنها من مضاعفة القيمة للمستخدمين باستخدام تأثير الشبكة. وهذا هو السبب الذي يجعل المستثمرين يضخون المليارات في المنصات لأنه سباق يفوز فيه الأول بحصة الأسد والبقية يحصلون على نسبة ضعيفة غالباً من السوق.

وفي نهاية الحديث عن كيف تبني منصة ناجحة بطريقة صحيحة، إنّ قيمة المنصة تكمن في القيمة التي تضيفها للمستخدمين مضروباً بعدد المستخدمين. تتأثر القيمة بعمق المشكلة التي تحاول حلها مقارنة بالوضع الحالي أي تكلفة الفرصة البديلة. وتتأثر أيضاً بجودة الحل الذي تقدمه. وبناء على ذلك تسعّر خدمات المنصة، كما أنّ تأثير الشبكة يزيد من قيمة المنصة ويحد من قدرة المنافسين على منافستك حتى ولو نسخوا منصتك تماماً، لأن العملاء سعداء بالقيمة التي يستطيعون تحصيلها في منصتك والتي لا تستطيع المنصة الأخرى تحقيقها.

اقرأ أيضاً: دراسة لأكثر من 250 منصة تكشف لماذا فشل معظمها

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .