ملخص: عند اشتداد الأزمات، تحتاج شركتك إلى مرتكز راسخ يوجه عملية صنع القرار. وعندما تصبح الشركة مجتمعاً أخلاقياً مدعوماً بالغاية، فإنها توفر هذا الاستقرار لأصحاب المصلحة وتبث شعوراً مطمئناً بالأمل والتضامن والإحساس بالسيطرة وامتلاك هدف. وهناك 3 استراتيجيات تساعد في تحقيق ذلك. الاستراتيجية الأولى، أن تطرح سردية قوية مؤثرة حول ما تؤمن به الشركة وما تحاول تحقيقه. الاستراتيجية الثانية، أن تكون الغاية مبدأً تنظيمياً يحدد هيكلية الشركة واستراتيجيتها وثقافتها. الاستراتيجية الثالثة، أن تقدم بنفسك نموذجاً للقيادة الشجاعة التي تطمح إلى تحقيق غاية بعينها.
يدرك قادة الشركات في عصرنا أن تجاهل قضايا الرأي العام والأزمات غير ممكن، ولن يكون تبنّي مواقف غير أخلاقية، حتى وإن كانت موضوعية، مقبولاً لدى عملاء وموظفين يبدون اهتماماً شديداً بقضايا معينة أو يشعرون بأن الشركة تضيق الخناق عليهم. ومع ذلك، تواجه الشركات صعوبة كبيرة في التجاوب مع أي إشكالية أو أزمة تندلع، فيكون السؤال: متى تتخذ الشركة موقفاً واضحاً، وما طبيعة هذا الموقف وفي أي نوع من القضايا؟
هنا يكون لروح المبادرة دور جوهري. بدلاً من أن يكتفي القادة بالاستجابة إلى الأحداث، يتعين عليهم توضيح قيم شركاتهم وبناء شخصياتها قبل ظهور تلك التحديات، وتأسيس ما يسميه علماء الاجتماع "مجتمعات أو منظومات أخلاقية".
يقول عالم الاجتماع إميل دوركهايم إن العديد من المنظومات والمجتمعات، مثل الجماعات الدينية والدول القومية، متماسكة بفضل "نظام موحد من المعتقدات والممارسات ذات الصلة بالمقدسات" فضلاً عن وجود "هدف أخلاقي مشترك". وتصبح الشركة مجتمعاً أخلاقياً حينما يتبنى أصحاب المصلحة فيها أهدافاً ومعتقدات وسلوكيات ذات منظور أخلاقي مشترك، ويخلص عدد كبير من الأبحاث إلى الأساس المنطقي الاقتصادي لذلك: فالشركات القائمة على رسالة أو مهمة اقتصادية ذات صدى أخلاقي تتفوق على التي تفتقر إليها لأنها تبني علاقات قائمة على الثقة والولاء مع الشركاء والعملاء وتشجع الموظفين على الابتكار وتقديم أفضل ما لديهم من أداء.
كما أن تبنّي الشركة لرسالة واضحة مرتبطة بهويتها بوصفها مجتمعاً أخلاقياً يساعد قادتها في تحديد القضايا التي يجب أن يتخذوا موقفاً واضحاً بشأنها، والتي يجب أن يلتزموا الصمت فيها، فهذه الرسالة تعتبر البوصلة التي توجههم إلى التعامل الصحيح مع العالم من حولهم. ولكي يطمئنوا إلى سلامة هذه البوصلة، يجب على القادة التصريح عن هدف استراتيجي كبير طويل الأمد للشركة، مع التأكيد الواضح على طموح بمضمون أخلاقي ينطوي على شعور عميق بالواجب ويستميل قاعدة عريضة من أصحاب المصلحة. صحيح أن هذا الطموح قد يستبعد أصحاب القيم الأخلاقية المتضاربة معه، ولكنه سيمد البقية بالإلهام إذ يولد شعوراً بالولاء والتناغم يعكس التزاماً بنموذج أسمى يتجاوز المصلحة الشخصية الاقتصادية.
ومن واقع عملي مع عشرات القادة، توصلت إلى ثلاث استراتيجيات رئيسة لتأسيس منظومة أو مجتمع أخلاقي حول رسالة الشركة من أجل تعزيز الأداء العالي.
السردية القوية المؤثرة
تروي الجماعات الدينية حول العالم قصصاً مأثورة ذات صدىً عاطفي لتوصل من خلالها رسائل أخلاقية. وعل المنوال نفسه، يتميز القائد الذي يؤسس مجتمعاً أخلاقياً في شركته بالبراعة والقدرة على الإقناع في سرد القصص، فيمد أصحاب المصلحة بالإلهام لوضع أهداف نبيلة ويحفزهم على تجاوز العقبات الصعبة القصيرة الأمد من أجل تحقيقها، وغالباً ما يدخل نفسه وقيمه الأخلاقية ضمن تلك القصص. وهو ما طبقته الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة بيبسي إندرا نوي خلال العقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة، عندما أعلنت عن استراتيجية ذات أساس أخلاقي أسمتها "الأداء ذو الغاية"؛ فحكت قصة حياتها ونشأتها في ظروف متواضعة في الهند وكيف أثّرت في منظورها عن التزامات الشركة. ويصف أحد المسؤولين التنفيذيين في الشركة خطابها بأنه كان مؤثراً ومقنعاً للغاية، حتى إن "الأداء ذو الغاية" أصبح شعاراً للموظفين، فتوحدوا حول هدف واحد يتمثل في مساعدة عملاء بيبسي على اتباع نمط حياة صحي أكثر مع تحقيق عوائد كبيرة للشركة في الوقت نفسه.
وحتى يكون للقصة الكبيرة عظيم الأثر في تأسيس منظومة أخلاقية، يجب أن تفصح بوضوح عن المبادئ والقيم الأخلاقية التي تدعمها الشركة في قالب يرتبط بحياة أصحاب المصلحة بوجه أعم. لعل ذلك يفسر عجز نوي، وهي من أوائل المناصرين لمفهوم الغاية في عالم الشركات، عن بلوغ هدفها المنشود، وربما كان شعار "الأداء ذو الغاية" قاصراً إلى حد كبير في تعريفه للغاية؛ حيث يعرّفه أحد التقارير السنوية للشركة بأنه "تحقيق نمو مستدام بالاستثمار في مستقبل صحي أكثر للبشر وكوكبنا". على الرغم من فائدة هذا التعريف في مجالات مثل الاستدامة وجودة المنتجات وسلامتها، فهو لا يستحضر بالضرورة أساساً أخلاقياً أوسع نطاقاً لمواقف تحدد بها بيبسي دورها في المجتمع. لذلك، لم يكن من المستغرب أن تجد الشركة صعوبة أحياناً في التجاوب مع احتجاجات حركة "حياة السود مهمة" التي اندلعت في الولايات المتحدة في أواخر العقد الثاني من الألفية الثالثة.
لتكن الغاية مبدأً تنظيمياً
أصبحت الغاية في نظر القادة الذين تناولتهم بالدراسة مبدأً متكاملاً ينظم الاستراتيجية والعمليات والأنظمة والمعايير الثقافية والسلوكيات ومقاييس الأداء على جميع المستويات وينهض بها. تجسد شركات كثيرة الشعار أو بيان الغاية أو رسالتها في مجموعة واقعية من المبادئ العملية. فعلى سبيل المثال، عندما حدّثت مجموعة ماهيندرا الصناعية الهندية غايتها خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة لتتألف من كلمة واحدة هي "نهوض" (Rise)، حتى يشمل مسار الشركة تنمية أعمالها وكذلك تحسين حياة المجتمعات المحلية، حرص رئيس مجلس الإدارة أناند ماهيندرا على أن تمتثل له الإدارات المعنية بالموظفين، مثل الموارد البشرية والتوظيف والتدريب. وقال موضحاً: "مهمتي أن أضمن استيعاب الموظفين للمقصود من 'نهوض' وانسجامهم مع فلسفتها"،
وأصبحت غاية "نهوض" منذئذ البوصلة التي ساعدت الشركة على التعامل مع الأزمات وقضايا الرأي العام المثيرة للجدل، يقول: "مثلاً، في أعمالنا بقطاع السيارات، حيث يمثل سحب المنتجات من السوق مشكلة صعبة، تساعدنا غاية 'نهوض' على منح الأولوية لسلامة المستهلكين ورفاههم، فهي توجه تجاوبنا وتضمن أن نسارع إلى اتخاذ إجراءات فورية ونسحب المنتج إن لزم الأمر ونتواصل بشفافية". وعلى نحو مماثل، استلهم العاملون في شركة المعدات الزراعية التابعة لماهيندرا في عام 2020 من غاية "نهوض" المبادرة إلى مساعدة المزارعين الهنود بتزويدهم بالمعدات اللازمة لتعويض الأزمة الحادة في الأيدي العاملة، وبفضل سرعة تجاوبهم نجح المزارعون في حصد محاصيلهم.
احرص على تجسيد الغاية بشجاعة
يدرك القادة أنهم مَن يضبط أسلوب العمل في شركاتهم، وفي الشركات التي تحفزها غاية محددة يسعى معظمهم إلى توضيح رسالة الشركة وقيمها مراراً وعلى الوجه الأكمل. ولكن أفعال القادة أهم من أقوالهم في المجتمعات الأخلاقية، خاصة في أوقات الأزمات، وفي الغالب، يحتاج الأفراد الذين يتخذون خيارات بعينها لخدمة الغاية إلى الشجاعة للوقوف بقوة في وجه من قد يختلفون معهم بشدة. لكن الاستعداد لتحمل المخاطر وبذل التضحيات الشخصية من أجل الغاية الأسمى يمنحهم قيمة أخلاقية في عيون أتباعهم ويبث فيهم مشاعر الولاء والثقة وحتى الإعجاب والدهشة أحياناً، كما يشجع أصحاب المصالح على تنحية منفعتهم الشخصية والعمل في سبيل الغاية الأسمى بدورهم.
يقول كبير الأطباء التنفيذيين ورئيس مركز أوكسنر الطبي في نيوأورلينز بولاية لويزيانا، د. روبرت هارت، إن رسالة الشركة المتمثلة في "الخدمة والشفاء والقيادة والتثقيف والابتكار" تُرجمت خلال فترة جائحة كورونا إلى مساعدة قدمتها للسكان في مجتمعها لتجاوز تبعات الجائحة بأمان قدر الإمكان. سلطت تلك الأزمة المصيرية الضوء على رسالة الشركة في جميع أقسامها، حيث استلهم الموظفون منها الرغبة في العمل ورديات إضافية من أجل استيعاب أعداد المرضى المتزايدة وتخفيف عناء العمل عن الزملاء، وساعدتهم على ذلك مبادرة هارت وبقية الإداريين إلى المخاطرة بأرواحهم في ذروة تفشي الجائحة، حيث عالجوا المرضى بالتعاون مع مزودي الرعاية في الخطوط الأمامية. فكان تفانيهم خير بيان لأهمية الخدمة الطبية والعلاجية العامة بالنسبة لهؤلاء القادة أنفسهم وللشركة، بعد أن قدموا نموذجاً يحتذي به الآخرون.
عند اشتداد الأزمات، تحتاج شركتك إلى مرتكز راسخ موثوق يثبتها، وكذلك الحال بالنسبة لأصحاب المصلحة الذين يتبعونك، وهنا يأتي دور المجتمع الأخلاقي المدعوم بالغاية، ليوفر هذا الاستقرار ويبث شعوراً مطمئناً بالأمل والتضامن والإحساس بالسيطرة وامتلاك هدف. ويساعدك المجتمع الأخلاقي في تحديد التوقيت الأمثل والطرق الملائمة لاتخاذ موقف محدد، وبالأهمية نفسها متى يكون التزام الصمت أفضل.