غالباً ما يقول لي كبار القادة: "ثقافتنا المؤسسية ممتازة، فالموظفون لطفاء وتربطهم علاقات إنسانية ويراعي بعضهم بعضاً حقاً. لكننا لا نجيد تقديم ملاحظات صريحة". يدرك هؤلاء القادة أن اللطف يعزز الانسجام، لكنهم يخشون أيضاً من أن يتحول هذا الانسجام إلى تجنب للمواجهة؛ إذا غابت الصراحة فلن يتطور الأداء بالسرعة المطلوبة وستتراكم الاحباطات ويركد مستوى الأداء.
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: ما الذي يمكننا فعله كي يصبح الموظفون أكثر شجاعة ومهارة في تقديم الملاحظات؟
هذا سؤال منطقي، لكن إليكم الحقيقة المفاجئة: محاولة جعل الجميع يقدمون الملاحظات بجرأة أكبر هي غالباً أصعب نقطة بداية. لماذا؟ لأن العائق الحقيقي ليس نقص الشجاعة أو المهارة، بل الشك في مدى تقبل الآخرين لهذه الملاحظات. حتى الموظفون الماهرون وأصحاب النوايا الحسنة يترددون عندما لا يبدو لهم تقبل الطرف الآخر لآرائهم أكيداً، إضافة إلى ضغوط الوقت وتفاوت المواقع الوظيفية. هذا ليس جبناً أو نقصاً في الكفاءة، بل استجابة عقلانية لتوقع رد فعل سلبي، فبدلاً من الضغط على الموظفين ليقدموا الملاحظات بجرأة أكبر، لماذا لا نسهل عليهم الاستجابة لطلبات زملائهم الواضح والمشجع لملاحظاتهم؟ هذا هو جوهر ما أسميه ثقافة "المبادرة بطلب الملاحظات"، أي بيئة عمل تشجع الموظفين على طلب آراء زملائهم باستمرار.
مزايا ثقافة المبادرة بطلب الملاحظات
ثمة عدة فوائد لتشجيع الموظفين على طلب الملاحظات، إذ يتحول طلب الملاحظات إلى حوار تشاركي، وكما توضح شيلا هين ودوغلاس ستون في كتاب "شكراً على ملاحظاتك" (Thanks for the Feedback)، تتحقق أفضل النتائج عندما يكون متلقي الملاحظات هو الطرف الفاعل، بل إن الدراسات تؤكد أن المتلقي يمتلك زمام التحكم أكثر مما نتصور، فهو من يحدد ما يسمعه وكيف يفهمه وما إذا كان سيعمل بناءً عليه. كما يظهر بحث حول سلوك طلب الملاحظات أن من يطلبون آراء الآخرين يتلقون رؤى أكثر قابلية للتطبيق، كما تتحسن علاقاتهم المهنية. وقد وجد تحليل ميتا (التجميعي) أن السعي إلى الحصول على الملاحظات يرتبط بقوة بالأداء المتميز، خاصة عندما يصوغ الأفراد أسئلتهم بطريقة مدروسة.
الخلاصة إذاً هي أن طلب الملاحظات لا يزيد كميتها فقط، بل يرتقي بجودتها أيضاً.
عندما يبادر شخص بطلب الملاحظات، يزول الشك من عقل مقدمها، فهو يثق بأن كلماته ستستقبل على أنها هدية ثمينة، لا نقداً غير مرغوب، كما أنه يتمكن من صياغة ملاحظاته بإتقان، ولنتأمل الفرق بين هذين الموقفين: في الأول، يختتم القائد اجتماعاً بعبارة: "كان اجتماعاً طيباً. لا تترددوا في مشاركة أي أفكار لاحقاً"، فيتبع ذلك صمت مطبق، أما في الثاني، يسأل القائد: "ما الذي يمكنني تغييره لجعل اجتماعنا القادم أكثر فعالية بنسبة 10%؟" فتدفق الأفكار فوراً: "أرسل المواد مسبقاً"، "اختصر جدول الأعمال"، "وزع وقت النقاش بصورة متوازنة"، فالطلب المحدد يفتح المجال لرؤى كانت لتظل طي الكتمان.
ينطبق المبدأ نفسه في مجال التدريب والتوجيه. تخيل مديراً يقول لمرؤوسه المباشر: "يمكنك أن تتبع استراتيجية أفضل في إدارة العملاء". هذه نصيحة غامضة، تترك الموظف في حيرة من أمره. لكن إذا عكسنا السيناريو فإن الموظف سيسأل مديره: "كيف كان يمكنني التعامل مع مشكلة العميل بطريقة أخرى؟"، فهنا يحصل المدير على فرصة واضحة لتقديم نصائح موجهة وعملية.
وربما تكون الفائدة الأكبر على الصعيد الثقافي، فعندما يطلب أفراد المؤسسة ملاحظات بعضهم من بعض بانتظام، فسينشأ معيار قوي يتمحور حول تقدير التعلم المستمر أكثر من السعي نحو الكمال. وهذه نقلة نوعية في الثقافة تولد آثاراً متعاقبة، فالقادة يقدمون نموذجاً يحتذى به عن التواضع، وتتضاءل الوصمة المرتبطة بارتكاب الأخطاء، كما يشعر الجميع بالأمان لإظهار ضعفهم الإنساني. هذه الممارسات لا تستخرج الرؤى فحسب، بل تنقل القيم أيضاً، فهي تشدد على أهمية السؤال والتعلم والنمو.
كيف تبني ثقافة المبادرة بطلب الملاحظات؟
يتطلب خلق ثقافة يطلب فيها الأفراد الآراء بفعالية بناء المهارات وتقديم نموذج يحتذى به ومكافأة هذا السلوك وتضمينه في صميم العمل اليومي، وفيما يلي 4 استراتيجيات عملية لتحقيق ذلك:
1. علم الأفراد كيف يطلبون الملاحظات
طلب الملاحظات بفعالية ليس مهارة فطرية، فدون توجيه مناسب يميل الأفراد إلى طرح أسئلة غامضة أو ذات أجوبة محدودة أو استعراضية مثل "هل لديك أي ملاحظات؟"، أو "هل كان ذلك مقبولاً؟"، والتي نادراً ما تؤدي إلى استجابات مفيدة.
ساعد فريقك على بناء هذه المهارة من خلال أمثلة ملموسة وممارسة منهجية. على سبيل المثال:
- اطرح أسئلة محددة: "ما هو الجانب الذي يمكنني تحسينه في طريقة تعاملي مع اعتراض العميل؟".
- حدد ما تريد تعلمه: "أنا أحاول الإيجاز قدر الإمكان في عروضي التقديمية، هل يمكنك الإشارة إلى الأجزاء التي شعرت بأنها مطولة؟".
- اطلب تقييماً دقيقاً: "ما الجوانب الفعالة في نهجي؟ وما الجوانب التي تسببت بصعوبات؟".
- اطرح أسئلة المتابعة: "هل يمكنك التفصيل؟" أو "كيف قد يبدو ذلك عملياً؟".
تماماً كما هو الحال مع مهارتي التدريب وتقديم العروض التقديمية، فإن طلب الملاحظات مهارة تستحق أن تتحول إلى ممارسة مؤسسية راسخة تدمج في عملية إعداد الموظفين الجدد وتدريب المدراء وتطوير الفرق. في بيئة العمل المليئة بالمشاغل، من النادر أن يقدم الزملاء الملاحظات من تلقاء أنفسهم بل يجب طلبها منهم بطريقة مدروسة وواضحة.
2. قدم نموذجاً قيادياً يحتذى به في طلب الملاحظات.
يحدد القادة ثقافة المؤسسة، فعندما يطلب كبار المسؤولين الملاحظات باستمرار وبصورة استباقية، فإنهم ينشرون ممارسة طرح الأسئلة الاستقصائية، والأهم من طرح الأسئلة هو ما يليها: طريقة ردهم على الملاحظات، وكيفية مشاركتهم للدروس المستفادة، والإجراءات التي يتخذونها بناءً عليها.
3. قدر سلوك طلب الملاحظات وكافئه.
إذا أردت تشجيع الأفراد على طلب الملاحظات، فأثن عليهم عندما يفعلون ذلك، وسلط الضوء على الأسئلة الذكية التي يطرحونها في اجتماعات استخلاص المعلومات، واجعل طلب الآراء معياراً في ترقياتهم، ولا تتعامل مع طلب المساعدة على أنه ضعف، بل علامة على التميز. في عصر أصبحت فيه المعرفة متاحة، يولد التميز من الأسئلة الأفضل، لا من الإجابات الأفضل فقط.
4. ادمج سلوك طلب الملاحظات في روتين العمل اليومي.
لا تنتظر موسم التقييم السنوي، بل أدخل ثقافة المبادرة بطلب الملاحظات في نسيج العمل اليومي. نطبق في مؤسسة ترانسيند التي شاركت في تأسيسها، نظام "2 × 2": يطلب كل موظف مرتين سنوياً من زملائه مشاركة مهارتين يجيدهما وأخريين يمكنه تحسينهما، مع أمثلة محددة على كل مهارة. هذه الممارسة الدورية تجعل تبادل الملاحظات عادة راسخة، وتكشف عن تفاصيل دقيقة تعزز الأداء وتقوي العلاقات. المؤسسات الرائدة التي تركز على التعلم لا تكتفي بالإشارة إلى أهمية الملاحظات، بل تصمم مساحات مخصصة لطلبها.
في ثقافة المبادرة بطلب الملاحظات، لا ينتظر الأفراد غيرهم ليستجمعوا شجاعتهم ويقدموا الملاحظات، بل يحضونهم على الصراحة من خلال أسئلتهم الاستباقية، ما يجعل تبادل الملاحظات عادة يومية لا حدثاً نادراً وقيمة إضافية لا مصدر توتر. والثقافات المؤسسية التي تتقن هذا التحول تكتسب قوة تنافسية استثنائية، لأن المؤسسات الأسرع في التعلم هي ليست التي تقدم أكبر قدر من الملاحظات، بل التي تبادر بطلبها.