بناء المرونة المؤسسية والتأقلم وتحقيق الازدهار في الأوقات المحفوفة بعدم اليقين، بحاجة إلى تصميم أساليب روتينية محددة سلفاً، وقواعد بسيطة، والقدرة على الارتجال.
تمتلك المؤسسات الناجحة جميعها قواعد روتينية راسخة لإنجاز المهام. وقد تكون المهمة ضخمة، مثل الاستحواذ على شركة منافسة، أو قد تكون متواضعة جداً وتتعلق بملء استمارة فحسب. بيد أنك إذا دققت في الأمر، ستجد أن هناك عملية موثوقة ترشدك إلى كيفية إنجاز هذه المهمة من الألف إلى الياء. وغالباً ما تكون هذه الأساليب الروتينية من المسلمات خلال الفترات التي تتسم بالاستقرار. لكنها عادة ما تنهار عندما تشعر الشركة بمستويات عالية من عدم اليقين، أو عندما تحتاج إلى التحرك بسرعة خلال أزمة من الأزمات. وتهرع المؤسسات بسرعة إلى إجراء تعديلات مرتجلة، وقد يحالفها النجاح بدرجات متفاوتة. ولكن قبل أن تداهمكم الأزمة التالية، من الحكمة بمكان أن تخصصوا بعض الوقت للتفكير بطريقة منهجية بالعمليات التفصيلية الدقيقة التي تستعملونها – وأن تجربوا البدائل.
حدد الباحثون ثلاث مقاربات عريضة لإنجاز الأعمال والمهام، ويمكن للاستنتاجات التي توصلوا إليها أن تساعد المدراء في التجاوب بفاعلية أكبر مع البيئات التي تشهد تغيرات شديدة. المقاربة الأولى هي التي وصفناها للتو، أي العمليات المؤسسية الروتينية التي تتسم بالكفاءة عندما يكون بالإمكان التنبؤ بالعمل. أما المقاربة الثانية فهي القواعد البسيطة، أي القواعد الاستكشافية التي تساعدكم في تسريع العمليات، واتخاذ القرارات، ووضع سلّم أولويات لاستعمال الموارد في السياقات التي تكون إمكانية التنبؤ فيها أقل (مثال: "نحن لا نستثمر إلا في المشاريع التي يبلغ العائد على الاستثمار فيها 10% أو أكثر"). المقاربة الثالثة هي الارتجال – أي الجهود العفوية والخلاقة للتعامل مع فرصة أو مشكلة (كما يحصل، على سبيل المثال، عندما يتوصل فريق إلى طريقة لإنجاز عملية الإنتاج يدوياً بسبب تعطل خط الإنتاج المؤتمت في المصنع فجأة).
المفاجئ في الأمر هو أن أحداً لم يسبق له أن درس كيف يمكن استخدام هذه المقاربات المختلفة في إطار مجموعة أدوات واحدة. ومع ذلك، فإن أي مؤسسة، أو أي فريق، سيُبليان بلاءً أفضل إذا ما كانا قادرين على التنقل فيما بينها بسهولة. فعلى سبيل المثال، بوسع الموظفين الارتجال في مواجهة وضع غير متوقع يتصف بالجنون، والتعلم من الارتجال، ووضع قاعدة بسيطة في نهاية المطاف بناء على ما اكتشفوه. أو بمقدورهم تنقيح عملية مؤسسية روتينية بعد تجريب مقاربات جديدة لإنجاز مهمة محددة. ويسهم إتقان الأنماط الثلاثة جميعها في تحسين الأداء وتعزيز المرونة في أي ظرف من الظروف. وإذا ما واجهت مؤسسة ما حالة من عدم اليقين الشديد، فإن ذلك الإتقان يصبح عنصراً أساسياً. في الحقيقة، نحن نؤمن أن قدرة الفرق على إعادة صياغة الطريقة التي تُنجز بها مهام محددة – مهما كانت درجة الاضطراب – هي القدرة الأساسية التي تميز أي مؤسسة تتصف بالمرونة في مواجهة الشدائد.
سنحت لنا الفرصة مؤخراً للتفكير بعمق أكبر بهذه الفرضية في أثناء كتابة مقال في مجلة "علم المؤسسات" (Organization Science) حول تسلق قمة جبل إيفرست، وهي عملية كان أحدنا (ألا وهو خوان) محظوظاً بما يكفي ليشارك فيها. استكشفنا في المقال كيف استُعملت المقاربات الثلاث في البعثة الاستكشافية، وكيف تفاعلت فيما بينها، وأيها كان أنجح في أي ظرف من الظروف. والمؤكد في الأمر هو أن البعثة الاستكشافية قد تعرضت لقدر أكبر من الضغوط والظروف التي لا يمكن التنبؤ بها بالمقارنة مع ما يضطر معظم قراء هارفارد بزنس ريفيو إلى التعامل معه عادة. لكن الأمور التي تعلمناها يمكن أن تساعد المؤسسات في التأقلم بشكل أفضل مع أي تحديات تواجهها. وإذا كان عام 2020 قد علّمنا شيئاً فهو أن الجميع بحاجة إلى التحضير لمستويات أعلى من التقلبات، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض.
مجموعة أدوات المرونة على قمة جبل إيفرست
تُعتبر منطقة "وجه كانغ شونغ" الجانب الأكثر نأياً من قمة جبل إيفرست، وهي الجانب الذي خضع إلى أقل قدر من الاستكشاف. فهي مسار صعب إلى القمة لم تتمكن من اجتيازه حتى عام 2020 إلا ثلاث فرق. كان في البعثة الاستكشافية لخوان فريق مؤلف من ستة متسلقين، كان أفراده قد تدربوا معاً لمدة عامين تقريباً، وأمضوا 41 يوماً فوق الجبل. (كان فريقاً أصغر حجماً، ويضم عدداً أقل من المرشدين المحليين "الشيربا"، وأمضى فترة أقصر من المعتاد، مقارنة مع الحالة النموذجية). وصل ثلاثة متسلقين إلى القمة – أي أكثر بشخص واحد مما كان الفريق قد توقع – دون حوادث خطرة، وباستعمال الحد الأدنى من الأوكسجين. وتوفر التحديات التي نشأت على طول الطريق استنتاجات تبين كيف يتنقل فريق ماهر بين أنماط عمل مختلفة مع تغير السياق.
عندما استقر المتسلقون، والمرشدون المحليون، والحمالون في المخيم الأساسي على ارتفاع 5,400 متر، اعتمدوا أساليب روتينية معروفة كانت مناسبة للظروف المريحة نسبياً. وتزيد هذه العمليات المفصلة من كفاءة الفريق المتسلق، وتساعده في المحافظة على سلامته. فهي تحدد بالتفصيل الخطوات التي يجب على الفريق اتباعها لإنشاء المخيم، وتحضير حقائب الظهر والأدوات، وتنسيق النوبات والأدوار أثناء الصعود، وصيانة الحبال. قاد رودريغو جوردان، قائد البعثة الاستكشافية، جلسات التخطيط كل مساء، وكانت له الكلمة الفصل في معظم القرارات المهمة.
مع بدء المرحلة التالية من عملية التسلق، حصلت تغيرات في البيئة غالباً ما كانت تغيرات دراماتيكية، وانهارت بعض العمليات المؤسسية الروتينية. فأول تحد كبير على المسار هو عبارة عن جدار شديد الخطورة وغير مألوف من الصخور والجليد بارتفاع يزيد على 1,200 متر. (وهو السبب الذي يفسر قلة البعثات الاستكشافية التي تحاول تسلق جبل إيفرست في هذا الجانب). "فتح المتسلقون المسار" على مدار 12 يوماً من خلال اختيار ممر، وربط الحبال صعوداً نحو الأعلى تدريجياً مع العودة كل ليلة إلى المخيم الأساسي حتى تمكنوا من إنشاء المخيم الأول، بعد الجدار مباشرة. وبعد تثبيت الحبال في مكانها، أصبح الصعود في اليوم التالي أسرع وأكثر أماناً. المسار صعب من الناحية الفنية، وكان المتسلقون "يعدّون الدقائق قبل الانهيار الجليدي التالي" دائماً، بحسب كلمات أحد المشاركين. عادة ما يكون قائد البعثة هو من ينسق هذا النوع من الصعود، ولكن بعد مرور بضعة أيام، أدرك المتسلقون أن جوردان الموجود في المخيم الأساسي، لم يكن يمتلك معلومات كافية لاتخاذ القرارات في الوقت المناسب، وهذا كان يعرّضهم للخطر.
ناقش الفريق هذا الانهيار في العمل المؤسسي الروتيني في أثناء تناول العشاء على مدار عدة أيام متوالية، وتوصل أعضاؤه في نهاية المطاف إلى قاعدة بسيطة هي: المتسلق الأول على الحبل هو من يتخذ القرار. أسهمت هذه القاعدة البسيطة في تسريع عملية اتخاذ القرار من خلال منح الصلاحيات للمتسلق الذي كان يقود عملية الصعود في أي لحظة من اللحظات. فهي حولت المجموعة إلى مؤسسة منبسطة في أثناء عملية فتح المسارات. وظل جوردان يتخذ جميع القرارات المتبقية وينسق الأنشطة أثناء جلسات التخطيط المسائية.
كانت هناك عملية مؤسسية روتينية أخرى قد بدأت تتهاوى عند بداية التسلق، عندما أجبر الفريق على التخلي عن 135 كغ من الإمدادات بسبب عدم الاتفاق مع السلطات الصينية. وتفاقمت المشكلة بعد أن تعرض مرشدو الفريق المحليون لانهيار جليدي. ورغم أن إصاباتهم كانت خفيفة، إلا أنهم كانوا يشعرون بالخوف على سلامتهم لأسباب مفهومة، وتفاوضوا على حمل أغراض أخف وزناً. وبما أن الفريق باتت لديه إمدادات أقل، فقد وضع أعضاؤه قاعدتين بسيطتين. القاعدة الأولى هي الاكتفاء بحمل الإمدادات التي يحتاجها المتسلقون الذين سينتقلون إلى المرحلة التالية. (في العادة، يجلب المتسلقون إمدادات احتياطية إلى المخيمات الأعلى، علماً أن هذه البعثة كانت تضم ثلاثة من هذه المخيمات). أما القاعدة الثانية فكانت تنص على العودة دائماً للنوم في المخيم الأدنى. كان ذلك منطقياً لعدة أسباب، أهمها هو أن الحاجة إلى الأوكسجين في المخيمات الأدنى أقل.
استغرقت المرحلة التالية من الرحلة 17 يوماً، وتمثلت في تسلق كتلة جليدية طويلة. انقضت الأمور ببطء لأن المستلقين كانوا يسيرون على ثلج ناعم عميق ويصلون إلى ارتفاع أعلى (ما بين 6,400 متر و7,000 متر). كان قطع هذه المسافة أسهل تقنياً من تجاوز الجدار لكنها كانت مليئة بالأخاديد التي يصعب التنبؤ بها وكان خطر حصول انهيارات جليدية هناك أعلى. ورغم أن الخطة كانت تقتضي صعود متسلقين اثنين فقط إلى قمة الجبل، إلا أنه تبين خلال هذه المرحلة أن عضواً ثالثاً (هو خوان) كان في حالة جسدية أفضل من الحالة المتوقعة. خاض حواراً مقتضباً مع جوردان عبر اللاسلكي وقررا معاً أن ينضم إلى الآخرين في محاولة بلوغ القمة. كانت هذه الخطوة المرتجلة تنطوي على أخطار جمة. فخوان لم يكن يحمل كيساً للنوم، لذلك توجب على متسلْقي القمة الأصلييَن أن يشاركاه كيسيهما، وبسبب تراجع كمية الإمدادات، كان يتوجب عليهما أن يشاركاه الأوكسجين المخصص لهما، ما يعني أنهما كانا سيعانيان من بعض النقص نوعاً ما. لكن جوردان خلص إلى أن الفريق لديه فرصة أفضل بالوصول إلى القمة إذا كان مؤلفاً من ثلاثة متسلقين وليس من متسلْقين اثنين. كان هذا القرار، حاله حال معظم القرارات المرتجلة، يجب أن يتخذ بسرعة؛ ولم يكن هناك وقت للوصول إلى توافق في الآراء. (في المقابل، لا تتبنى المجموعات عادة الطريقة التجريبية إلا بعد نقاش طويل). كان ذلك يعني خطراً آخر، ألا وهو إشعار الأعضاء الآخرين في الفريق بالاستلاب.
في المرحلة الأخيرة المسماة "منطقة الموت" من عملية التسلق، التي استغرقت خمسة أيام، وجد المتسلقون أنفسهم في وضع لم يسبق لهم أن مروا به في حياتهم كلها، وكان يتطلب استجابات سريعة. لم يكن هناك الكثير من الأساليب الروتينية أو القواعد الاستكشافية البسيطة المُتدرب عليها التي يمكن العودة إليها. ولم يكن أي منهم قد سبق له أن وصل إلى هذا الارتفاع، ولم يعلموا كيف ستتجاوب أجسادهم. في مثل هذه الحالات، غالباً ما يلجأ المتسلقون إلى الارتجال. بدأ المتسلقون الثلاثة بالصعود الأخير حاملين الحبال لأن "خطوة هيلاري"، وهي عبارة عن جزء صخري منحدر قبل القمة، فرضت عليهم أن يتسلقوا وهم مربوطين معاً. لكن الحبال أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على أجسادهم المتعبة، وأبطأت حركة أحد المتسلقين. فما كان منهم إلا أن قرروا على الفور التخلي عن الحبال ببساطة والمضي قدماً منفصلين. عندما يتسم السياق بعدم اليقين وانعدام الرحمة، كما كان الحال هنا، ليس هناك من طريقة لتعرف ما إذا كنت تتخذ القرار الصائب. وعندما تخلى المتسلقون عن الحبال، زادوا من خطر السقوط المريع – لكنهم رفعوا في الوقت عينه من احتمال بلوغ القمة. لحسن الحظ، أثمرت هذه الحركة عن النتيجة المرجوة، وتمكن الثلاثة من الوصول إلى الذروة بأمان.
كيف استعانت المستشفيات بالأساليب الروتينية، والقواعد الاستكشافية البسيطة، والارتجال للتعامل مع "كوفيد-19"
في ربيع عام 2020، عندما توافد المرضى الذين يعانون من فيروس كورونا المستجد على المستشفيات بأعداد هائلة تفوق قدراتها الاستيعابية، أبدى المتخصصون في قطاع الرعاية الصحية شجاعة كبيرة في التعامل مع هذه الحالة وعالجوها بأسلوب خلاق. وقد غصت الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي بالقصص التي تظهر مهارتهم في التعامل مع الموارد.
لكننا عندما ننظر إلى ردود الأفعال تجاه الأوضاع المستجدة، نرى شيئاً آخر، ألا وهو أمثلة تبيّن كيف استعمل الناس الأساليب الروتينية، والقواعد الاستكشافية البسيطة، والارتجال للعمل بسرعة وفاعلية أكبر.
الأساليب الروتينية الجديدة. تعرضت الممارسات المتبعة عادة في المستشفيات إلى التعطل والزعزعة، لكنه كان بالإمكان إعادة صياغة بعضها بطريقة مختلفة. فغرف الطوارئ والإسعاف، مثلاً، لديها عمليات لإدارة وصول المرضى وتوفير العلاج لهم، لكن المرضى كانوا يتوافدون إليها بسرعة كبيرة مع تفشي الجائحة. وقد استبدلت المستشفيات عملية استقبال المرضى متعددة الخطوات المتبعة عادة داخل أروقتها بإجراء فحوصات لدرجات حرارة المرضى خارج مبنى غرفة الإسعاف، بحيث تُعطى الأولوية للأشخاص الذين لديهم درجات حرارة مرتفعة.
أما الأطباء والممرضون الذين لم يشاركوا في معالجة مرضى "كوفيد-19"، فقد تبنوا عمليات روتينية جديدة استجابة للحاجة إلى تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، حيث عقدوا اجتماعاتهم مع المرضى عبر الهاتف أو من خلال الكمبيوتر، عوضاً عن الالتقاء بهم شخصياً.
القواعد الاستكشافية البسيطة. بعد أن ازدادت حدة الأزمة، كانت الأساليب الروتينية بحاجة إلى أكثر من مجرد تعديلات طفيفة. فقد بدأ الأطباء والممرضون الاعتماد على القواعد الاستكشافية البسيطة لتسريع الأنشطة والعمليات. فعندما استحالت إمكانية معالجة جميع من يحتاجون إلى الرعاية، كانوا يتخذون قراراً سريعاً للفرز على النحو التالي: قبول المريض (إذا كان هناك سرير متاح)؛ أو إرساله إلى مستشفى آخر (إذا لم يكن هناك سرير متاح)؛ أو إرسال المريض إلى المنزل (إذا كانت الأعراض لدى الشخص لا تهدد حياته).
في مرحلة لاحقة، اضطر المعنيون بتقديم الرعاية الصحية إلى اتخاذ قرارات مؤلمة بخصوص من سيوضع على جهاز للتنفس الاصطناعي بسبب قلة عدد هذه الأجهزة. وقد وضعت المستشفيات قواعد بسيطة لاتخاذ هذه القرارات؛ وهي كانت تستند عموماً إلى تحديد المرضى الذين يتمتعون بأكبر فرصة للبقاء على قيد الحياة (مثل الناس الأصغر عمراً).
الارتجال. مع مرور الوقت، ازدادت فجوة الموارد اتساعاً. فلم يعد لدى العاملين في قطاع الرعاية الصحية ما يكفي من الكمامات من نوع (N95) وبدلات الحماية، كما لم يعد لديهم ما يكفي من الأسرّة في وحدات العناية المركزة. دفعت هذه المشاكل المعنيين إلى اتخاذ الكثير من القرارات الارتجالية. فقد بدأ بعض الممرضين والأطباء بإعادة استعمال الكمامات (وهم يدركون تزايد الخطر الذي يهددهم شخصياً). وأدخلت المستشفيات تعديلات على طوابق بأكملها لتوسع المناطق المخصصة لوحدات العناية المركزة أو لمعالجة مرضى فيروس كورونا الأكثر استقراراً، وفي غالب الأحيان لم يستغرق التعديل أكثر من بضعة أيام. فقد بنت مدينة نيويورك مستشفى مؤقتاً ضمن خيمة في حديقة "سينترال بارك"، وحولت مركز جافيتس للمؤتمرات إلى مستشفى ميداني ترقباً لحصول تزايد كبير في عدد المرضى.
شملت أصعب المواقف نقصاً في أجهزة التنفس الاصطناعي. واضطر الأطباء والممرضون المدربون على فعل كل ما هو ممكن طبياً لإنقاذ الأرواح إلى التأقلم مع واقع جديد لم يكن فيه هذا الأمر ممكناً ببساطة. فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى عمليات ارتجال خطرة مثل جعل شخصين يتقاسمان جهازاً للتنفس الاصطناعي.
بحلول فصل الصيف، كان العاملون في قطاع الرعاية الصحية قد كونوّا فهماً أفضل بخصوص كيفية معالجة حالات "كوفيد-19". ومع ذلك، ظلت الجائحة تفرض تحديات هائلة (مثل تطوير لقاح)، لكن تجريب البروتوكولات المختلفة في المراحل المبكرة أسهم في إدخال تحسينات كبيرة على العناية الفعلية المقدمة إلى المرضى.
ما الذي تعلمناه؟
عندما حللنا النتائج التي توصّلنا إليها بناء على الملاحظات الشاملة التي كان خوان قد دوّنها، وباستنادنا إلى مقاطع الفيديو، والمذكرات، والرسائل، والمقابلات مع المتسلقين الآخرين، استنتجنا الملاحظات التالية:
التجريب والارتجال ينتجان عن أنواع مختلفة من التحديات التي تحفزهما
رأينا سببين رئيسين لتبنّي أدوات جديدة. أحدهما كان السرعة، أي الزيادة الحادة في الوتيرة التي اضطر بها الفريق إلى اتخاذ القرارات. هذا ما حصل عند الجدار، عندما نقل الفريق حقوق اتخاذ القرارات من قائد البعثة الاستكشافية إلى القائد الميداني. هنا، وفي الحالات الأخرى التي كانت تسير فيها الأحداث بسرعة شديدة، بدا أن المنهج التجريبي هو الذي يعطي الاستجابة الفضلى. وقد ساعد المتسلقين على التأقلم مع الوتيرة الأسرع، لكنه لم يغير المبادئ الضمنية التي كانت تحكم عمل البعثة الاستكشافية. (كان ما يزال هناك صانع قرار مكلف بهذه المهمة خلال عمليات فتح المسارات، مثلاً، وقاعدة تحكم حجم الإمدادات المسموح حملها ضمن ظروف معينة).
أما المحفز الثاني فقد كان السياقات المعقدة غير المألوفة، مثلما حصل عندما وصل المتسلقون إلى "منطقة الموت" دون أن يعرفوا كيف ستكون استجابة أجسادهم. في تلك الحالات، كان الفريق أكثر ميلاً إلى الارتجال لأن بعض التحديات كانت تتطلب حلولاً غير تقليدية تناسب الحالة، وتختلف اختلافاً كبيراً عما كان الفريق يتخيل أن يحصل عليه. في بعض الأحيان، كانت الحلول تمثل استجابة لفرصة (بدا المتسلق الثالث قادراً بما يكفي على تسلق الجبل إلى القمة). وفي أوقات أخرى، كانت الحلول تأتي استجابة لمشكلة (كانت الحبال ثقيلة للغاية، لذلك اضطروا إلى التخلي عنها). (راجع الفقرة الجانبية بعنوان: "متى يجب تجريب كل مقاربة").
تعلم المؤسسات التي تتعامل مع أوضاع سريعة التطور – مثل قوات التدخل السريع وفرق الكوماندوز العسكرية – أن من المجدي التمرن والتحضير لمواجهة الأحداث غير المتوقعة.
الأدوات تعتمد على بعضها البعض وهي ديناميكية
الخطوط الفاصلة بين الأساليب الروتينية، والقواعد البسيطة، والارتجال ليست واضحة تماماً، ويمكن لمقاربة منها أن تتحول تدريجياً إلى مقاربة أخرى. على سبيل المثال، في الظروف الطبيعية، تُوكل إلى أعضاء محددين في فريق من المتسلقين مهمة تفقّد الحبال وصيانتها يومياً. لكن الظروف القاسية في منطقة "وجه كانغ شونغ" دعت إلى الارتجال، حيث توقف أحد المتسلقين أثناء صعوده، وبعد 12 ساعة من التسلق، لمدة ساعة تقريباً لإصلاح الحبال في قسم من الصخور الحادة عندما شعر بخشية كبيرة على السلامة. وكان المتسلقون الآخرون قادرين على رؤيته من المخيم الأساسي وشاهدوا أنه توقف لكنهم لم يعرفوا السبب. في تلك الليلة، ناقشوا الارتجال وخلصوا إلى أن السلامة الإضافية أبدى من الوقت المخصص لضمانها. وقد استبدلوا عمليات إصلاح الحبال الروتينية بقاعدة بسيطة ألا وهي: إذا رأيت حبلاً متضرراً، يجب عليك إصلاحه على الفور.
في حالات أخرى، قد تقود قاعدة استكشافية مطبقة حديثاً إلى ارتجال. فكما ذكرنا أعلاه، وضع الفريق قواعد استكشافية تتعلق بحجم الأشياء التي يمكنهم حملها ومكان النوم، استجابة لقيود وعراقيل فُرضت على الموارد. زادت هذه القواعد من الكفاءة ورفعت السرعة إلى الحد الأقصى، لكنها كانت محفوفة بمخاطر أيضاً. وقد اتضح ذلك في مرحلة متأخرة من عملية التسلق، عندما بدأت تظهر على عنصر من اثنين داعمين للمتسلقين، كان ينبغي له العودة إلى المخيم الثاني تلك الليلة، أعراض انخفاض درجة حرارة الجسم. كان الفريق مضطراً إلى الارتجال، إذ أمضى العنصران الداعمان للمتسلقين الليلة في المخيم الثالث، دون أكياس نوم ودون أوكسجين، لأن الفريق لم يكن قد أحضر أي إمدادات إضافية. (بحسب قاعدة كانت قد وضعت سابقاً، كانت هذه الإمدادات مخصصة للمتسلقين الذين سيستمرون في الصعود إلى القمة). نجحت عملية الارتجال هذه لحسن الحظ. فقد تمكن فريق القمة من الاستمرار في الصعود، في حين أن المتسلق الداعم الذي كان قد تعرّض لمشكلة هبط إلى المخيم الثاني بأمان في اليوم التالي.
استعمال مجموعة الأدوات
تُعتبرُ أزمة "كوفيد-19" والخراب الاقتصادي الذي تسببت به بمثابة مؤشرات على التحديات الاستثنائية التي سنواجهها جميعاً في السنوات المقبلة. (للاطلاع على تبنّي المتخصصين في قطاع الرعاية الصحية للمقاربات الثلاث خلال الجائحة، راجع الفقرة الجانبية بعنوان: "كيف استعانت المستشفيات بالأساليب الروتينية، والقواعد الاستكشافية البسيطة، والارتجال للتعامل مع "كوفيد-19"). كما أن التغير المناخي، والتدفقات الهائلة للمهاجرين، والتقدم التكنولوجي سوف تسهم جميعها في إعادة تشكيل المشهدين الاقتصادي والاجتماعي بطرق دراماتيكية لا يمكننا توقعها بالكامل. وهي سوف تزعزع مختلف القطاعات، والاقتصادات، والأمم.
لكن المؤسسات ليست عاجزة. فهي تستطيع تحضير أنفسها للتأقلم مع الأوضاع المستجدة التي تتسم بعدم اليقين، سواء كانت أزمات وجودية، كالجائحة مثلاً، أم أوضاعاً أكثر ألفة، مثل الهزة التي تصيب قطاعاً معيناً. وإذا ما نشط القادة في تدريب المؤسسات على تعديل مزيج الأساليب الروتينية، والقواعد الاستكشافية البسيطة، والارتجال السريع لمواكبة المتطلبات المتغيرة للسيناريوهات المختلفة الممكنة، فإنهم سيكونون قادرين على بناء المرونة المؤسسية في جميع أرجائها. تعلم المؤسسات التي تتعامل بانتظام مع أوضاع سريعة التطور – مثل قوات التدخل السريع وفرق الكوماندوز العسكرية – أن من المجدي التمرن والتحضير لمواجهة الأحداث غير المتوقعة عندما يكون لديها ترف الوقت والموارد، عوضاً عن أن تحاول تعلم كيفية التأقلم وسط عاصفة.
تجيد معظم المؤسسات التعامل مع الأساليب الروتينية. كما أن المدراء مدربون في واقع الأمر على التركيز على الكفاءة، لذلك فإنهم أكثر ميلاً بطبيعة الحال إلى تحويل الممارسات الفضلى إلى عمليات مؤسسية روتينية. لذلك، فإن الإدارة يجب أن تركز على مساعدة الموظفين على إضافة القواعد الاستكشافية والارتجال إلى مجموعة الأدوات التي يستعملونها. وما لاحظناه في بعثة إيفرست الاستكشافية يمكن أن يكون بمثابة نموذج مفيد. وفيما يلي بعض المقترحات للانطلاق:
حللوا أي من الأدوات تستعملون لإنجاز أجزاء مختلفة من العمل. ليست الغاية هنا رسم خارطة دقيقة للعملية، وإنما التفكير على مستوى رفيع في كيفية تعاملكم مع العمل. ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا التحليل مباشراً، لأن معظم العمل يقسّم إلى أجزاء قد تستدعي استعمال أدوات مختلفة. فإذا ما كنتم تجرون اختبارات أ/ب (A/B) لمزايا المنتجات الجديدة، على سبيل المثال، فمن شبه المؤكد أن لديكم عملية مؤسسية روتينية مطبقة – في حين أن القرارات المتعلقة بتحديد ما يجب اختباره قد تكون أكثر ميلاً إلى القرارات ذات النهاية المفتوحة والارتجالية. ابذلوا قصارى جهدكم لرسم صورة عن المقاربات المستخدمة في كل حالة من الحالات، وما إذا كانت مؤسستكم تفضل مقاربة معينة على غيرها.
اسألوا أنفسكم ما إذا كانت المقاربة تلك هي الخيار الأفضل لمعظم المهام الأخرى. ستكونون أقدر على إدارة أزمة ما إذا كنتم قد حللتم عملياتكم وناقشتموها – ونفذتم بعض عمليات إعادة الابتكار على الأقل – قبل أن تنهمكوا في إنجاز المهام.
شككوا في الافتراضات الكامنة وراء عملياتكم الروتينية. تستند كل عملية أو روتين إلى عدد كبير من الافتراضات. خصصوا بعض الوقت لتحديد ما هي هذه الافتراضات، على الأقل بالنسبة لعملياتكم الروتينية الأساسية، ومن ثم فكروا كيف ستعملون لو ثبت لكم أن هذه الافتراضات غير صحيحة. وسوف تكون هذه الأسئلة مفيدة:
ما أنواع القرارات التي تفترضون أن كبار المدراء هم من يجب أن يتعامل معها؟ كيف ترون أن هذه القرارات ستتخذ في سياق أزمة ما؟
هل تفترضون أن عملياتكم الحالية قد عُدلت وأصبحت مثالية مع مرور الوقت – وأنها حالياً مثالية؟ هل ستظل صامدة في أوقات الشدائد؟
أين تظهر المشاكل باتساق في سير العمل؟ هل هناك حجة مقنعة لتغيير شكل هذا الجزء، أو تخصيص المزيد من الموارد له؟ ماذا سيحصل إذا اضطررتم فجأة إلى إنجاز هذا الجزء من العمل في وقت أسرع؟
هل تفترضون أن الموارد المؤسسية مخصصة كما ينبغي؟ هل ستعيدون تخصيصها بطريقة مختلفة إذا ما اضطررتم إلى الاستجابة إلى حدث كبير مزعزع؟
تمرنوا على إنجاز مهام أكثر بموارد أقل. لا تخطر في بالنا أي أزمة فعلية لم تشمل ندرة من نوع ما في الموارد. ومن المؤكد أن تسلّق قمة إيفرست تضمّن حالة ندرة في الموارد. لذلك من المنطقي الاعتياد على العمل برشاقة. بوسع المدراء تحدي إحدى الوحدات من خلال الطلب إلى أفرادها تحقيق هدف غامض بقدر أقل بكثير من الموارد، مثلاً، أو بالإمكان تكليف فريق بممارسة العصف الذهني ليقرر كيف سيتجاوب مع أي نقص مفاجئ في مورد من الموارد.
عمقوا معرفتكم بدور العمل الذي تؤدونه ضمن السياق الأوسع. تميل المؤسسات إلى الطلب إلى موظفيها التخصص، والالتزام بأداء مهام أو أنشطة ضيقة. وهذا ضرب من ضروب الكفاءة، وهو يناسب العمليات المؤسسية الروتينية ذات السيناريوهات المرسومة سلفاً. أما في الأوقات التي تتسم بعدم اليقين، فإن امتلاك معرفة أعمق بالكيفية التي تعمل بها المجالات الأخرى (وهي معرفة يمكن أن تُكتسب عبر التدريب المشترك والمتقاطع) يجعل المجموعة تتمتع بمرونة أكبر. فأعضاء الفريق تصبح لديهم فكرة أفضل عن مدى اعتماد عملهم على عمل الآخرين والعكس صحيح. ونتيجة لذلك، وعندما تتغير عملية روتينية معينة، يقل احتمال تعرّض عمل المجموعة الأوسع إلى العرقلة.
استثمروا في بناء الخبرات. قد تبدو القواعد الاستكشافية البسيطة الجديدة والارتجال أموراً عفوية، لكنها في واقع الأمر تعطي أفضل نتيجة مرجوة عندما تستند إلى أساس من المعرفة والتدريب. فعلى سبيل المثال، كان متسلقو الجبال في دراستنا قد تدربوا بقدر أكبر من الجد مقارنة مع البعثات الاستكشافية الأخرى التي نمتلك بيانات بشأنها، وقد فعلوا ذلك بناء على قناعتهم أن ذلك سيجعلهم أكثر استعداداً للتأقلم عندما تضطرهم الظروف إلى ذلك.
حددوا أولوياتكم. إذا كانت هناك أزمة تحصل، فإن نواقيس الخطر تدق في كل مكان، ويصبح انتباه الإدارة والمدراء عملة نادرة جداً. في مثل هذه الأوضاع، يحتاج القادة إلى التركيز المفرط على المقاييس التي تعتبر أساسية وضرورية للمضي بالمؤسسة قدماً خلال فترة الاضطراب، لأن ذلك سيمكنهم من مساعدة الجميع على معالجة المشاكل الأكثر إلحاحاً والتركيز على الأنشطة التي تُعتبر جوهرية لتجنب الانهيار؛ أما كل ما تبقى فيمكنه الانتظار ببساطة. وغالباً ما يتطلب ذلك إجراء مقايضات صعبة. بيد أن المقاييس لن تكون هي ذاتها في كل حالة. لذلك سيكون من المفيد إعمال الخيال لتصور مجموعة متنوعة من السيناريوهات والتفكير فيما قد تتطلبه هذه السيناريوهات بالتحديد.
تعلّموا كيف تتخلون عن السيطرة. خلال أي أزمة، لا تكون الحلول واضحة، ونادراً ما تأتي من خلال استعمال مقاربة هرمية من أعلى الهرم إلى قاعدته. وثمة حاجة إلى جميع العقول في المؤسسة لحل المشاكل فوراً. فإذا لم يكن أصحاب العقول هؤلاء يشعرون أن لديهم الصلاحيات التي تمكنهم من التصرف على الفور، فإن المشكلة يمكن أن تتفاقم بسرعة. والأمر هنا يتجاوز النصيحة التقليدية بخصوص التمكين ومنح الصلاحيات التي تنص على أن الموظفين يجب أن يُمنحوا حرية محدودة لاتخاذ القرارات في مجالاتهم. والمؤسسات التي تنجو في الأوقات الخطرة هي المؤسسات التي كانت قد طورت قدرتها على تفويض السلطة وعملية اتخاذ القرار بسرعة إلى الأشخاص الذين يتمتعون بالخبرة الميدانية.
هل تعرفون ما هي المنفعة التي تجنونها من تحليل عملياتكم الروتينية والتمرن على طرق جديدة لحل المشاكل ترقباً لحصول أي أزمة؟ سوف تصبح مؤسستكم أقدر على تبني القواعد الاستكشافية البسيطة والارتجال، ما سيجعلها أكثر مرونة ويزيد من مواردها، لتصبح بالتالي أقدر على التأقلم عندما يصل عدم اليقين إلى مستويات تدعو للقلق.
نبذة عن البحث
تستند هذه المقالة إلى دراسة إثنوغرافية لتسلق قمة جبل إيفرست عبر واحد من أكثر المسارات صعوبة من الناحية الفنية وأقلها شهرة، ألا وهو منطقة "وجه كانغ شونغ". كنا قادرين على الحصول على تفاصيل البعثة الاستكشافية مباشرة لأن واحداً من المؤلفين كان من ضمن أفراد البعثة، ودوّن الكثير من الملاحظات طوال الرحلة. كما حصلنا على دفاتر المذكرات الشخصية اليومية لثلاثة آخرين من أفراد البعثة، ومقاطع فيديو مدتها 12 ساعة، و1,250 صورة فوتوغرافية، ونصوص مقابلات مع أفراد البعثة. إضافة إلى ما سبق، راجعنا 52 رسالة كتبها أفراد البعثة قبل عملية الصعود، وأثناءها، وبعدها، فضلاً عن مراجعة وثائق تخطيط الرحلة والدوافع الكامنة وراء اختيار أعضاء الفريق.