يشكّل مرض السكري إحدى الحالات الطبية الأكثر كلفة منذ فترة طويلة. فقد بلغ الإنفاق على رعاية المصابين بالمرض عام 2013 في الولايات المتحدة وحدها 100 بليون دولار. ولكنه في الوقت ذاته، يُعتبر واحداً من الأمراض التي يمكن معالجتها من خلال تدخلات سلوكية بسيطة ومنخفضة التكلفة. انطلقنا في برنامج "جيسينجر" لتحسين صحة البالغين (Geisinger Health System) المصابين بالسكري عبر تزويدهم بالمأكولات المجانية والمغذية بالإضافة إلى مجموعة شاملة من الحمية والخدمات الطبية والاجتماعية والبيئية. وكان لهذا البرنامج، "صيدلية" مكونة من الغذاء الطازج، ما أدى إلى آثار سريرية تفوق تلك التي توفرها الأدوية التي تكلف مليارات الدولارات، وبتكلفة أقل بكثير. ويُعتبر إيجاد علاجات فعالة وأقل تكلفة لمرض السكري أمراً بالغ الأهمية بسبب تكاليفه الاجتماعية والمالية الهائلة وانتشاره المتزايد: إذ أنّ واحداً من بين كل 10 أشخاص هو مصاب بالسكري حالياً، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة بحلول عام 2050 إلى واحد من كل ثلاثة.
يمكن القول أنّ الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بمعنى أنهم لا يستطيعون الحصول على طعام مغذ بشكل موثوق، هم أكثر عرضة لأن يعانوا من مرض السكري ومن السمنة المفرطة والصحة السيئة. ينتشر انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع، وهو خطير بشكل خاص في العديد من المناطق التي يخدمها برنامج "جيسينجر". ففي حين أنّ 12.7% من سكان الولايات المتحدة و18% من الأطفال يعانون انعدام الأمن الغذائي، نجد أنه في العديد من البلدان التي نخدمها تكون هذه الأرقام أسوأ من ذلك: وهي 14% من مجموع سكانها و23% من الأطفال. ومن بين كل ثمانية من هؤلاء الناس الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي هناك واحد منهم لديه مرض السكري. وكثيراً ما يواجه أصحاب الدخل المتدني خيارات صعبة تقودهم إلى شراء طعام غير مكلف وسيء التغذية. كما يزيد الجوع من احتمال ممارسة الشخص لسلوكيات غير صحية. وعندما تجتمع عدة سلوكيات من هذا القبيل معاً، يزداد احتمال إصابة الشخص بمرض السكري وتفاقمه.
بناء وتشغيل "الصيدلية"
منذ تأسيس هذه المبادرة عام 2016، شكّلت مسعى تعليمياً هادفاً ومتكرراً. وبدأنا البرنامج في مقاطعة ذات معدلات عالية جداً من مرض السكري وانعدام الأمن الغذائي والفقر والبطالة. أولاً، استفسرنا من خلال قاعدة بياناتنا الصحية الإلكترونية عن المرضى البالغين من خلال الرموز البريدية المحددة الذين شُخص لديهم مرض السكري من النوع (2) وتصل مستويات الهيموغلوبين لديهم إلى (8) (مما يشير إلى أنّ مرضهم خارج السيطرة). لا تتجاوز مستويات الهيموغلوبين رقم (6) عند معظم الناس الذين ليس لديهم مرض السكري، في حين أنها لا تتجاوز لدى أولئك الذين يخضع مرض السكري لديهم للسيطرة الجيدة (7). لا تشكّل هذه الأرقام أهمية أكاديمية فقط: فبالنسبة لمرضى السكري، يشير انخفاض نقطة واحدة في هذا المقياس إلى انخفاض أكثر من 20% في احتمال الوفاة والمضاعفات الخطيرة لهذا المرض، مثل العمى والفشل الكلوي.
ثم قمنا بدراسة هؤلاء الأشخاص لنحدد من يعاني منهم من انعدام الأمن الغذائي باستخدام أداة بسيطة مرتبطة بقاعدة بياناتنا الصحية الإلكترونية، طالبين منهم الاستجابة للعبارتين التاليتين: 1) "كنا قلقين خلال الـ12 شهراً الماضية من نفاذ طعامنا قبل الحصول على مال لشراء طعام آخر"، و2) "لم يدم الطعام الذي اشتريناه في غضون الـ12 شهراً الماضية، ولم يكن لدينا المال الكافي لشراء المزيد". واعتبر أيّ شخص وافق على إحدى هاتين العبارتين أو كلاهما غير آمن من حيث تأمين الطعام.
وفي الوقت الراهن، تتمّ إحالة المرضى الذين يستوفون هذه المعايير ويعبّرون عن اهتمامهم ببرنامجنا إلى صفوف التحاق، حيث يلتقون بفريق الرعاية ويحصلون على "وصفة طبية" للحصول على طعام صحي ومناسب لمرض السكري. يتألف هذا الفريق المتعدد التخصصات من منسق البرنامج وممرضة وطبيب رعاية صحية أولية وطبيب تغذية مسجل وصيدلاني ومدرب صحي ومساعد صحي مجتمعي والأهم من ذلك يتضمن الفريق موظفي الدعم الإداري غير الطبي.
قمنا ببناء مخزن للطعام في أحد مراكزنا السريرية بحيث يمكن للمرضى الحصول على الطعام والرعاية في مكان واحد. ولأن عواقب الجوع تؤثر على الأسرة بأكملها، يزود مخزن الطعام المرضى وأسرهم بالطعام، والقوائم، والوصفات اللازمة لإعداد وجبتين صحيتين طازجتين لخمسة أيام في الأسبوع. غير أنّ توفير الوجبات المغذية ليس كافياً، إذ يتطلّب تحقيق صحة مستدامة وتطوير أساليب الحياة تثقيف المرضى حول عادات الأكل الصحية، وتحديد الأهداف، وممارسة الرياضة، واليقظة، وإدارة مرض السكري.
وهكذا، بالإضافة إلى تلقي الرعاية الطبية القياسية لمرض السكري، يشارك المرضى الذين يشرف عليهم برنامجنا أيضاً في 15 ساعة من الصفوف الجماعية حول الإدارة الذاتية لمرض السكري، حيث يتلقون مساعدة مباشرة في إدارة الأدوية من صيدلاني، ومتابعة مع أخصائي تغذية مسجل، وتدريب صحي، وإدارة حالة مستمرة. ويتم تقديم هذه الرعاية من خلال نموذج منزل طبي، حيث يتلقى المشاركون رعاية تعاونية موثوقة متعددة التخصصات ومركزة على المريض.
يتم إدارة التمويل من خلال التعاون بين برنامج "جيسينجر" الصحي وشركتنا للتأمين الصحي "جيسينجر هيلث بلان". ونقوم حالياً بتمويل البرنامج من خلال المنح (40%)، والمساهمات العينية المتبادلة مع برنامج "جيسينجر" الصحي (30%)، والهبات الخاصة (30%). يوفّر "جيسينجر" مكاناً بدون دفع إيجار لمخزن الطعام والمناطق السريرية، على الرغم من أننا نتوقع أنه، مع توسعنا، من المرجح أن يدفع البرنامج إيجاراً فيما بعد. تشكل تكاليف الموظفين الجزء الأكبر من المصاريف، إذ لا يمثل الغذاء سوى جزء صغير من مجموع المدفوعات. وبلغت تكاليف البرنامج (قبل المكاسب السريرية والسلوكية) مبدئياً ما بين 3,000 و5,000 دولار أميركي سنوياً لكل مريض في جميع مراحل المبادرة، وانخفضت هذه التكلفة إلى نحو 2,200 دولار أمريكي، نتيجة تقدمنا في العمل وتعلمنا المزيد.
يسهل الوصول إلى بيانات المطالبات من جانب الدافعين لأن نظام "جيسينجر" لديه شركة تأمين صحي، ما يمنحنا نظرة عميقة إلى التكاليف المالية الحقيقية للرعاية والمرض. ومن المثير للذهول، أننا عندما ننظر عدة سنوات إلى الوراء في مرضى برنامجنا قبل بدء المبادرة (وهم مجموعة معقدة من المرضى التي تشمل بعض القيم المتطرفة)، نجد أنّ كلفة رعايتهم كانت تتراوح بين 8,000 دولار أمريكي و12,000 دولار أمريكي بالمتوسط للشخص الواحد في الشهر. ولاحظنا انخفاض هذه التكاليف بنسبة الثلثين بالمتوسط في جميع أنحاء البرنامج.
تمسّ هذه المبادرة تقريباً جميع قطاعات البيئات الإدارية وبيئات الدافعين والعديد من الموارد الخارجية. ووفقاً لتجربتنا، تحتاج البرامج من هذا النوع إلى موافقة على المستوى التنفيذي بالإضافة إلى قيام الإداريين والموظفين، وموظفي الصحة السكانية بتكريس وقتهم للمشاركة الفعالة. وكما ذكرنا، فإنّ الموظفين الإداريين ضروريين لتحقيق النجاح، إذ يفسحون المجال لأطباء البرنامج من أجل أداء واجباتهم في أعلى مستويات المهارة.
ما الذي تعلمناه؟
ارتفع عدد مرضانا على مدى الأشهر التسعة الأولى، من ستة مرضى إلى 50 مريضاً وعائلاتهم. والآن، بعد أكثر من عام على انطلاق برنامجنا، هناك أكثر من 80 مريضاً وأسرهم مسجلون بنشاط، كما أنّنا نقدّم الطعام إلى حوالي 250 شخصاً بمعدل 10 وجبات أسبوعياً.
وكانت النتائج السريرية مذهلة. عادة، عندما يُضاف علاج ثان أو حتى ثالث لمعالجة مرضى الداء السكري المزمن، تنخفض مستويات الهيموغلوبين بين 0.5 و1.2 نقطة. ومع المداومة لمدة 12 شهراً على الغذاء الصحي وتغيير نمط الحياة، رأينا انخفاض مستويات الهيموغلوبين بأكثر من نقطتين، من معدل 9.6 قبل البرنامج إلى 7.5. كان لمبادرتنا تأثير في السيطرة على مرض السكري (وإن كان ذلك في عدد صغير من السكان) فاق تأثير الأدوية المكلفة التي لها آثار جانبية كبيرة. كما شهدنا أيضاً تحسناً كبيراً في الكوليسترول، والسكريات في الدم، والدهون الثلاثية، ويمكن لهذا التحسن أن يقلل من احتمال الإصابة بأمراض القلب وغيرها من مضاعفات الأوعية الدموية. ومن بين فوائد البرنامج الأُخرى، يمكننا ذكر تحسننا في جانب التأكد من تناول المرضى للأدوية المناسبة وحصولهم على فحوصات القدم السكرية بانتظام (لوقايتهم من الاضطرار إلى إجراء بتر يوماً ما).
يمكن للمؤسسات الأُخرى التي تفكر في برامج مماثلة أن تتعلم من تجربتنا. وهنا تبرز ثلاث نقاط للعيان:
أولاً، لاحظنا في وقت مبكر أنه عندما تحوّل المرضى من النظم الغذائية منخفضة التغذية التي يتناولونها إلى تناول الأطعمة التي قدمناها، انخفض مستوى السكر في الدم انخفاضاً خطيراً عند البعض. ويعود ذلك إلى أنّ اعتياد أجسامهم على بعض الأدوية المخفضة للسكر في الدم، جعلهم يتأقلمون مع الأطعمة غير الصحية العالية السكر والغنية بالدهون. وعندما تم استبدال تلك الأطعمة بالأطعمة الصحية، قامت الأدوية بتخفيض مستويات السكر في الدم أكثر من اللازم. يجب على فرق الرعاية توقع هذه المخاطر.
ثانياً، تُعتبر مشاركة المرضى أمراً بالغ الأهمية للنجاح. على الرغم من أننا قدمنا دروساً في التثقيف بشأن مرض السكري منذ البداية، إلا أننا لم نكن نطالب المرضى بالحضور. ولكنّ المرضى الذين حضروا الدروس بشكل ثابت حققوا تحسناً أكبر بكثير في نسبة السكر في الدم والهيموغلوبين. لهذا السبب، نحن الآن نطالب المرضى بحضور الصفوف. وتوقعنا في البداية بأنّ الغذاء الصحي المجاني نفسه سيؤدي إلى مشاركة كبيرة واستجابة إيجابية. ومع ذلك، فإنّ العديد من هؤلاء المرضى لديهم تحديات عديدة تعوقهم عن الحضور مثل وسائل النقل، والإسكان، والرعاية الأسرية. إذ كيف يمكن للشخص الذي يعتني بطفل معاق أو بأحد الوالدين المسنين الحصول على الطعام وحضور الدروس؟ وللتغلب على هذه التحديات وظّفنا مساعداً صحياً مجتمعياً لمساعدة المرضى في هذه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل عوائق أمام الرعاية التي نقدمها.
وأخيراً، وبما أنّ تكاليف الموارد البشرية تمثل معظم نفقات المبادرة، فمن الأهمية بمكان أن يقوم مقدمو الرعاية والموظفون بواجبهم على أعلى مستوى تسمح به مهاراتهم. على سبيل المثال، قادتنا غريزتنا الأولية لجعل مختصي التغذية المسجلين يتحملون الكثير من عبء العمل السريري والقيادي. ولكننا وجدنا أنّه يمكن لموظفي الدعم والمدربين، وخبراء التغذية أن يقوموا بنجاح بالعديد من الوظائف التي لا تتطلب تدريباً متخصصاً في مجال مختصي التغذية. وساعدنا توزيع العمل بعناية والاعتماد على المزيد من المتطوعين في معالجة بعض الأخطاء الأولية في إدارة التكاليف.
الخطوات التالية
يمكن أن تستفيد الأنظمة المتكاملة مثل "جيسينجر" التي لديها شركة تأمين صحي خاصة بها بشكل مباشر في توفير مال الدافعين. ومع ذلك، ما تزال معظم أنظمة مقدمي الخدمات تعتمد اعتماداً كبيراً على الرعاية مقابل رسوم الخدمة، ولا تتقاسم كفاءات الجهات الداعمة. وفي الوقت الذي نوسع فيه برنامجنا بسرعة إلى مواقع إضافية وآلاف المشاركين، ينصب التركيز بشكل رئيسي على إظهار الأثر المالي للبرامج بحيث يدعمها الدافعون وكبار المشترين في الرعاية الصحية (مثل أرباب العمل).
كما أننا نتطلع أيضاً إلى إنشاء شراكة مع سلسلة من متاجر التجزئة الوطنية لمساعدتنا في توسيع نطاق المبادرة. ولزيادة النمو، سنحتاج إلى تحسين عملياتنا في تجميع البيانات بشكل كبير. وتحقيقاً لهذه الغاية، نختبر برنامجاً جديداً يتم تشغيبه من خلال الموبايل يندمج مع "هيلث كيت" الخاص "بأبل"، يتيح هذا التطبيق مشاركة المريض، والاتصالات، وتبادل البيانات في الوقت الحقيقي مع مقدّم الخدمة الجالس إلى لوحة القيادة السريرية على أجهزة "آي باد".
وفي نهاية المطاف، نأمل في توسيع نطاق هذا البرنامج ليصل إلى الأطفال السكريين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فضلاً عن مرضى السكري الذين لا يشكل انعدام الأمن الغذائي مشكلة لهم. وإذا أمكن توسيع البرامج الشبيهة ببرنامجنا على المستوى الوطني، يمكنها أن تحسن صحة الملايين من الأشخاص المصابين بمرض السكري، وتخفّض التكاليف بشكل كبير، بل وتساعد على الحد من انتشار مرض السكري أيضاً.
ونحن ممتنون لبنك بنسلفانيا المركزي للغذاء لشراكته ومساعدته.