البحث العلمي: لجأ ويليام فون هيبل (William von Hippel)، من جامعة "كوينزلاند" (University of Queensland) وفريق من الباحثين إلى الاستعانة بعشرات المجموعات الصغيرة من الأصدقاء بهدف إجراء دراسة علمية. وقد أخضعوا المشاركين في هذا الدارسة لاختبارات الذكاء والشخصية، ثم طلبوا من كل مشارك في الدراسة الإجابة في أسرع وقت ممكن عن 30 سؤالاً تندرج ضمن خانة الثقافة العامة، من قبيل "ما اسم هذا الحجر الكريم؟". كما طلبوا من المشاركين أيضاً تقييم الكاريزما والمهارات الاجتماعية الموجودة لدى أصدقائهم. وقد اكتشف هؤلاء الباحثون بأن الأفراد الذين أجابوا عن الأسئلة بسرعة أكبر كانوا في نظر الناس أشخاصاً يتمتعون بكاريزما أكبر – بغض النظر عن حاصل ذكائهم (IQ) أو حجم معرفتهم أو شخصيتهم.
التحدي: هل تُعتبر سرعة بديهتك مؤشراً يدل على مدى جاذبيتك في عيون الناس؟ وهل يمكن القول إن الكاريزما ليست أكثر من مجرد دماغ سريع؟
هارفارد بزنس ريفيو: أستاذ فون هيبل، دافع عن بحثك العلمي.
فون هيبل: كنا نتوقع التوصل إلى خلاصة مفادها بأن الأشخاص الذين يفكرون بسرعة يتمتعون بقدر أكبر من الجاذبية، وقد ثبتت صحة توقعنا هذا. أعتقد بأننا جميعاً نشعر بأن الأشخاص ذوي الكاريزما يميلون عادة إلى التصرف والتفكير بسرعة. وهم يقولون أشياء تجدها ملفتة وجذابة، لكنها تأتيك بطريقة غير متوقعة. وهم يقدمون إجابة ممتعة، أو ربطاً مدهشاً بين فكرتين، ولا يمكنك أن تعلم تماماً ما الذي سيحصل تالياً. هم ببساطة أشخاص مثيرون للاهتمام. وهم مرحون نوعاً ما. فأنت تقول شيئاً، ومن ثم اخترع أنا نكتة تربط ما قلته أنت بفكرة لم تكن قد خطرت ببالك. فإذا ما كنتُ قادراً على فعل ذلك بسرعة، فإن النتيجة ستكون مختلفة تماماً. لكن النتيجة التي فاجأتنا في بحثنا هي عدم وجود ارتباط على ما يبدو بين سرعة البديهة والمهارات الاجتماعية بالإجمال. لقد كان الارتباط مقتصراً على الكاريزما فقط.
هارفارد بزنس ريفيو: كم يجب أن تكون سريعاً حتى يمكن اعتبارُك شخصاً سريع البديهة؟
كان المفكرون السريعون في دراستنا قادرين على ذكر اسم حجر كريم خلال 400 ملي ثانية، أما البطيؤون منهم فقد كانوا يحتاجون إلى أكثر من 900 ملي ثانية.
يبدو الفرق ضئيلاً جداً هنا.
بمقدور أي شخص تقريباً الإجابة عن سؤال سهل أو إنجاز مهمة المطابقة بين نمطين متشابهين خلال أقل من ثانية واحدة. ورغم أن الفرق قد يكون صغيراً هنا، يمكن لسرعة بديهتك في إنجاز مهمة بسيطة للغاية أن تكون مؤشراً إلى مدى سرعة بديهتك في إنجاز مهمة أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، إذا قلت أنت: "ربما يجب علي أن أبلغك بأنني منفصل عن زوجتي"، فقد أفاجأ لأنني كنت أعتقد بأنك متزوج. هنا يجب أن أكون قادراً على التجاوب بسرعة، لأنني إذا استغرقت وقتاً طويلاً في التجاوب – حتى لو كان الأمر لا يهمني أو لم يكن لدي أي مشاعر سلبية تجاه المنفصلين عن زوجاتهم – فإنك قد تسيء تفسير هذا التردد. فالضغط الاجتماعي يستدعي حصول استجابات سريعة. وعندما أخبرَ أخي والديّ بأنه على وشك الزواج، كانا يعتقدان بأنه لا يزال صغيراً في السن، وقد كانت هناك فترة صمت طويلة على الهاتف قبل أن يهنآه على هذه الخطوة. ولا يمكن للمرء أن يتراجع عن خطوة من هذا النوع. فالواقعة تكون قد وقعت. والجميع يعلم ما المعنى المضمر عندما لا تخرج الإجابة من فمك خلال ثانية ونصف الثانية.
هارفارد بزنس ريفيو: ولكن ألا تعتقد بأن هذه الأوضاع تنطبق على التفاعل الاجتماعي أكثر منها على تذكّر الحقائق؟
بلى، لكننا نعتقد أن سرعة البديهة ربما كانت قد تطورت جزئياً بوصفها طريقة لنا لكي نترك انطباعاً جيداً لدى الآخرين. ولا يبدو بأن دماغنا يجب أن يكون بهذا القدر من كِبَر الحجم الذي هو عليه فقط لنكون قادرين على التعامل مع الحقائق. فقد جادل كثيرون بأن دماغنا قد تطور للتعامل مع بيئة اجتماعية معقدة. وبالتالي، ربما يكون الحال هو أن العديد من القدرات الذهنية التي نستعملها لحل المشاكل المجردة لم تكن قد تطورت فعلياً لذلك الغرض. وإنما هي قد تطورت لنكون قادرين على التعامل مع بعضنا بعضاً بقدر أكبر من الفعالية.
هارفارد بزنس ريفيو: أليس الناس الأكثر ذكاءً يتمتعون بقدر أكبر من الكاريزما عموماً؟ ألا يُعتبر حاصل الذكاء مؤشراً يدل على الكاريزما أيضاً؟
تُعتبر سرعة البديهة من أهم المؤشرات الموثوقة على حاصل الذكاء الفعلي، لذلك توقعنا أن يكون حاصل الذكاء مؤشراً مهماً على الكاريزما – أي أن حجم المعرفة الموجودة لديك يؤثر على سرعتك في الربط بين الأشياء. ولكن من المهم أن نشير إلى أن سرعة البديهة تختلف عن حاصل الذكاء؛ فبعض الأشخاص الأذكياء بطيؤون جداً وبعض الأشخاص السريعون ليسوا شديدي الذكاء. وكما تبيّن فإن حاصل الذكاء بحد ذاته لم يكن مؤشراً على الكاريزما عند ضبط متغيّر "السرعة". أي أن قدرتك على التجاوب بسرعة كانت أهم بالنسبة للكاريزما من حاصل ذكائك.
هارفارد بزنس ريفيو: ماذا لو قدّم الشخص إجابة خاطئة؟
لم يكن ذلك مهماً. وقلما قدّم الناس إجابة خاطئة. فأن تطلب من الناس "ذكر اسم حجر كريم" كان طلباً سهلاً نوعاً ما. نحن لم نكن نريد أن نقيس مدى ذكائهم، وإنما أردنا قياس مدى سرعتهم.
هارفارد بزنس ريفيو: أنا فكرت في السؤال الأخير خلال 200 ميلي ثانية تقريباً. هذا مذهل، أليس كذلك؟
هذه براعة، لكنني كنت سأعجب بك أكثر لو أنك فكرت في الإجابة بهذه السرعة!
هارفارد بزنس ريفيو: يبدو وكأن الدماغ السريع يساعد في المهارات الاجتماعية الأخرى أيضاً. لكنكم لم تتوصلوا إلى هذه النتيجة.
أجرينا التجربة مرتين لأننا كنا نعتقد أيضاً بأن التفكير السريع قد يكون مؤشراً على المهارات الاجتماعية العامة، مثل مدى ارتياح الناس ضمن أوضاع اجتماعية متنوعة، ومدى براعتهم في جعل الآخرين يحسّون بشعور أفضل، وهكذا دواليك. لكن التفكير السريع لم يكن مؤشراً على المهارات الاجتماعية في الدراسة الأولى. وحتى عندما استعملنا نسخة أكبر بقليل من مقياس المهارات الاجتماعية في دراسة ثانية، لم يثبت أن التفكير السريع مؤشر على المهارات الاجتماعية العامة. وأنا لا أعلم السبب.
في الدراسة الأولى، تضمن مقياس الكاريزما 3 أسئلة: ما مدى تمتعهم بالكاريزما؟ وما مدى سرعة بديهتهم؟ وإلى أي مدى يُعتبر شخصاً ممتعاً ومضحكاً؟ أما مقياس المهارات الاجتماعية، فقد طرح الأسئلة التالية: ما مدى براعتهم في التعامل مع النزاعات؟ وما مدى شعورهم بالارتياح إذا ما وجدوا أنفسهم ضمن مجموعة متنوعة من الأوضاع الاجتماعية؟ وما مدى براعتهم في تفسير مشاعر الآخرين؟ وأضفنا في الدراسة الثانية 3 أسئلة أخرى حول المهارات الاجتماعية: ما مدى براعتهم في التهدئة من روع الناس؟ ما مدى براعتهم في المهارات الاجتماعية؟ وهل هم قادرون على التأقلم مع أي كان؟
هارفارد بزنس ريفيو: كيف تعرّف الكاريزما عملياً؟
الكاريزما هي مثل سلاطة اللسان. وهذا التشبيه ليس سهلاً، لكنك تدرك ذلك عندما تراه. فمن وجهة نظري، يمكنك أن تصبح شخصاً يتمتع بالكاريزما، ويمكنك أن تصبح شخصاً شريراً أيضاً. على سبيل المثال، يفتقر دونالد ترامب إلى اللياقة الاجتماعية تقريباً، لكنه يتمتع بالكاريزما. والناس يجدون فيه إنساناً ساحراً، وهم لا يعلمون ما الذي سيتفوه به بعد لحظات. أما جب بوش، في المقابل، فهو يجعلك تشعر بالنعاس. فأنت لا تعلم ما الذي سيقوله فقط، ولكنك تدرك أيضاً بأن ما سيقوله لن يكون مثيراً للاهتمام كثيراً. لكنني أراهنك بأنه شخص ألطف وأكثر دماثة خلال حفل عشاء أو على مائدة المفاوضات. أعتقد أن الكثير من قادتنا السياسيين يتمتعون بقدر كبير من الكاريزما، لكنهم ليسوا بارعين بالضرورة في المهارات الاجتماعية.
هارفارد بزنس ريفيو: يمكننا القول بناء على ذلك بأن المدراء من ذوي البديهة السريعة والذين يتكلمون بطريقة سلسة هم خيار جيد للشركة حتى لو كانوا يفتقرون إلى المهارات الاجتماعية الأخرى؟
يجيد القادة الذين يتمتعون بالكاريزما التفاعل مع الناس. فهم قادرون على جعل شركاتهم تغيّر الاتجاه الذي تسير فيه، وهم قادرون على دفع الناس إلى الإيمان بهم والوثوق بهم، وهم يستطيعون دفع الناس إلى رؤية الأمور بطرق جديدة. وصحيح أنه ليس هناك الكثير الذي يمكن للناس فعله لتعزيز سرعة بديهتهم، لكن هذا الأمر يدلنا على الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على أن يكونوا مصدر إلهام لمؤسساتهم، وعلى الأشخاص الذين ينتقصون إلى هذه القدرة. فإذا ما أردت إحداث تغييرات كبيرة، فأنت بحاجة ربما إلى الاستعانة بقائد يتصف بالكاريزما.
هارفارد بزنس ريفيو: إذا أردتُ أن أظهر بمظهر الشخص ذي الكاريزما لكي أقنع مديري بأمر معين، فكيف بوسعي أن أفعل ذلك؟
دعيني أخبرك بما يلي: إن محاولة فعل هذا الشيء تنطوي على بعض المخاطر. وأنا أعتقد أن ما يثير إعجابنا بالناس سريعي البديهة لا يقتصر على مدى سرعتهم فقط، وإنما على امتلاكهم للقدرة السريعة – والتي اسميها القدرة المتوازية – على تفسير أي فكرة بطرق عديدة. والطريقة الوحيدة لإظهار ذلك هي أن تتجاوب بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يتجاوب بها الآخرون، شريطة أن يكون هذا التجاوب سريعاً. ولكنك إذا فعلت ذلك، فإنك بهذا تجازف، لأن ما تقوله قد يكون ضرباً من الغباء أو قد يهين الناس. وهناك ثمن يجب أن تدفعه. أنا لا أفضّل استعمال مثال دونالد ترامب دائماً، بما أن هناك العديد من الأشخاص ذوي الكاريزما الذين يُعتبرون لطيفين. لكن هناك احتمالاً كبيراً بأن يعطي هذا الأمر نتائج عكسية.
هارفارد بزنس ريفيو: كيف يمكنني تجنّب ذلك؟
أعتقد أنه من الكارثي بمكان أن يتمتع المرء بالكاريزما وأن يكون مخطئاً في نفس الوقت. ولكن من الجيد أن تتمتع بالكاريزما وأن تكون مصيباً.