ينفق طلاب المدارس الثانوية وآباؤهم الكثير من الوقت والجهد والمال في البحث عن الكليات المناسبة في كل عام. وبالمقابل، نجد أنهم يقضون القليل من الوقت في التركيز على الطريقة التي سيمضون بها سنوات الدراسة الجامعية. وعلى الرغم من ذلك، تزداد أهمية سلسلة القرارات المتخذة من اللحظة التي يضمن فيها الطلاب مكانهم في مقاعد المستجدين في الكلية على حياة الطلبة بعد التخرج، بدءاً من اختيار التخصص والمواد الفصلية إلى العثور على برامج التدريب المناسبة، مقارنةً بأهمية قرار اختيارهم للكلية التي سيلتحقون بها، فماذا عن بدء المسيرة المهنية للخريجين؟
لعقود من الزمن، اعتبِرت الشهادة الجامعية الإشارة الأقوى التي تدل على جاهزية المتقدم للعمل. ولكن اليوم أصبح هناك الكثير من العوامل المتداخلة مع تلك الإشارة، وهنا يتساءل أصحاب العمل فيما إذا كان التعليم الجامعي التقليدي يُسلح الطلاب بالمهارات الشخصية المطلوبة في مكان العمل، مثل حل المشاكل، والتفكير النقدي، والتواصل، ومهارات العمل الجماعي.
فوفقاً لتحليل الملايين من إعلانات التوظيف الذي نُفذ من قِبَل شركة تحليل القوى العاملة "بيرننغ غلاس" (Burning Glass)، أشارت النتائج إلى أن الوظائف التي تشترط من المتقدمين الحصول على درجة بكالوريوس تدرج أيضاً العديد من المهارات الشخصية أكثر من المهارات الفنية في قائمة شروط التوظيف. فضلاً عن ذلك، فإن 20% من المناصب (باستثناء المناصب التي تنتمي إلى مجال الرعاية الصحية) تتوقع أيضاً من المتقدمين الحصول على شهادة أو رخصة لمهارة فنية معينة. وبعبارة أخرى، قد تفتح الشهادة الجامعية الباب أمام المتقدمين لإجراء مقابلة العمل، ولكن أصحاب العمل لا يولونها القدر الكافي من الثقة لإثبات قدرة المتقدم الفعلية على تأدية الوظيفة.
ونتيجة لذلك، اختلف المسار الوظيفي الواضح أو الصريح للشباب البالغين عن المسار الوظيفي للأجيال السابقة. حيث ينتهي المطاف بالكثيرين إلى الانجراف دون هدف خلال العقد الثالث من حياتهم كما لمستُ من خلال مقابلة 752 من البالغين الشباب (التي تتراوح أعمارهم بين 24-27 سنة) في جميع أنحاء البلاد في أثناء الإعداد لكتابي "هناك حياة بعد التخرج" There Is Life After College. ووفقاً للدراسة الاستقصائية التي أجريت بهدف الإعداد للكتاب، فإن الشباب في مرحلة العشرينيات من العمر في أيامنا هذه ينتقلون إلى مرحلة النضج عبر ثلاث تصنيفات: "عداؤون"، أو "هائمون"، أو "شاردون":
- يقفز العداؤون (ويشكلون 35% من البالغين الشباب الذين شملتهم الدراسة) مباشرةً إلى الحياة المهنية بعد انتهاء الدراسة الجامعية أو يسلكون مباشرةً مسار الانطلاق المهني الناجح بعد إكمال التعليم الإضافي.
- أما الهائمون (ويشكلون 32% من الشباب البالغين الذين شملتهم الدراسة)، فيستغرقون وقتاً طويلاً، يمتد نحو منتصف مرحلة العشرينيات، للبدء مهنياً.
- وفيما يتعلق بالشاردين (ويشكلون 33% من البالغين الشباب الذين شملتهم الدراسة الاستقصائية)، فهم يستغرقون مرحلة العشرينيات بأكملها في محاولة الحصول على فرصة للبداية.
ورغم توقعنا لأغلب الخريجين بأنهم سيجدون طريقهم في الحياة بعد انتهاء الدراسة الجامعية مباشرةً، نجد أن العدائين لا يشكلون سوى ثلث عدد خريجي اليوم. فالفارق الأكبر بين هذه الفئة وبين ثلثي الطلاب ممن يجدون صعوبة في الانطلاق بعد انتهاء الدراسة الجامعية هو طريقة اجتيازهم لسنوات الدراسة الجامعية: اتبع 80% من العدائين برنامجاً تدريبياً واحداً على الأقل، وكان 64% منهم على يقين من اختيارهم للتخصص المناسب، كما أن القروض الطلابية الممنوحة لـ 43% من طلاب هذه الفئة لم تلامس مبلغ 10,000 دولار أميركي خلال تلك المرحلة. (لاحظ أن الدراسة الاستقصائية لم تأخذ في الحسبان المستوى المادي للعائلة أو الدخل الأسري، لذا يمكن القول أن بعض المزايا الإضافية يمكن أن تتوفر لبعض "العدائين").
كيفية الاهتمام بالمسار المهني للخريجين الجدد
لقد أظهرت المقابلات التي أجريتها أنه من المرجح أن يصبح الطلاب الذين يندفعون خلال الحياة الجامعية غير متسلحين بالتوجيهات اللازمة من الهائمين فيما بعد. وذلك لأن نصف الهائمين لم يكونوا على ثقة من اختيارهم الصحيح للتخصص عند التحاقهم بالجامعة، كما لم يتسن سوى لـ 47% منهم الالتحاق ببرنامج تدريبي خلال المرحلة الجامعية. وبعد التخرج، نجح واحد فقط من كل خمسة في الحصول على وظيفة في مجال تخصصه الدراسي (مقارنةً بـ 97% من العدائين).
وفي الوقت نفسه، غالباً ما ينقطع الشاردون لفترة عن الدراسة الجامعية أو قد تجدهم يكتفون بالدوام الجزئي. وبحلول منتصف العشرينيات، نجد أنه لن ينجح 99% منهم في الحصول على درجة جامعية. وهذا ليس مستغرباً، لأن هناك 12.5 مليون شخص في العشرينيات من العمر منتسبون للجامعات ولا يحملون إجازة جامعية، وهي الحصة الأكبر على الإطلاق من البالغين المتسربين من الكلية دون الحصول على درجة جامعية، وفقاً لمركز "تبادل الطلاب الوطني" (National Student Clearinghouse).
إذن، كيف يمكن للطلاب وآبائهم الموشكين على القيام بأحد أكبر الاستثمارات في حياتهم في الشهادة الجامعية، ضمان عائد هذا الاستثمار؟
أولاً، إبطاء حركة الانتقال من المدرسة الثانوية إلى الكلية
يتبع الكثير من الطلاب القطيع ويهرعون إلى الكلية، وذلك لعدم وجود خيار آخر يمكنهم فعله، وهؤلاء هم تحديداً الفئة التي ستصبح فيما بعد إما من الهائمين أو الشاردين. لذا يتعين على الطلاب التفكير في تأجيل انتسابهم للكليات ليتسنى لهم تحسين مستواهم الأكاديمي، واكتشاف الجوانب التي تثير اهتماماتهم فعلياً، وللتفكير في خياراتهم المهنية بشمولية أكثر. فخلال المقابلة، أفاد بعض الطلاب ممن قضوا فترة مستقطعة لمدة عام متنقلين يين كوكبة من مقدمي الخدمات سريعي النمو، ومنهم برنامج "أميريكوربس" (AmeriCorps)، ومؤسسة "بريدج إي دي يو" (BridgeEDU) التعليمية، ومؤسسة "غلوبال سيتيزن يير" (Global Citizen Year)، أنهم يشعرون بالقدرة على مواجهة المخاطر، إضافةً إلى القدرة على التكيف أكثر من غيرهم.
ثانياً، لا ينبغي للطلاب رهن مستقبلهم عبر الاقتراض من أجل الدراسة
لأن هذه القروض ستعمل على الحد من خياراتهم المهنية بعد التخرج. وهكذا سينتهي بهم المطاف مكبلين بديون كبيرة ستدفعهم للقبول بأي وظيفة تمكّنهم من سداد تلك الفواتير. فوفقاً لبيانات مؤسسة "غالوب" (Gallup)، فإن القروض الطلابية لغالبية رواد الأعمال لا تلامس عتبة 10,000 دولار أميركي، ذلك لأن الديون الكبيرة تؤثر سلباً في قرارات البدء بالأعمال التجارية. إضافة إلى ذلك، تتاح أمام الطلاب مجموعة متنوعة وواسعة من الخيارات إلى جانب درجة البكالوريوس، كشهادات المعاهد، والشهادات المهنية، والتدريبات المهنية، والشهادات الصناعية، التي تشكل البوابة للعبور نحو نسبة كبيرة من الوظائف المستقبلية التي لن تتم أتمتتها بسهولة بواسطة الروبوتات. وتعد أغلب هذه الوظائف من "وظائف المهارات المتوسطة"، التي تتطلب درجة أعلى من شهادة الدراسة الثانوية وأقل من درجة البكالوريوس. إذ يوجد اليوم نحو 29 مليون وظيفة متاحة من هذه الفئة. كما أن الأجور في 11 مليون وظيفة من هذه الفئة تبلغ 50 ألف دولار أو أكثر سنوياً، وقد تصل الأجور في 4 ملايين وظيفة من هذه الفئة إلى 75 ألف دولار أو أكثر سنوياً. ورغم تصنيف الغالبية لهذه الوظائف على أنها من وظائف أصحاب الياقات الزرقاء، نجد أن نصف هذه الوظائف تقريباً هي من الوظائف المكتبية.
إضافة إلى ذلك، أجد أنه من المؤسف أيضاً أن يُنظَر في كثير من الأحيان إلى الكليات المجتمعية سلباً
فالأفضل للكثيرين ممن يرتادون الكليات التي تمتد لأربع سنوات، الذين غالباً ما ينتهي بهم المطاف بالتسرب الدراسي، الانتساب مبدئياً للمعاهد التي تمتد لسنتين أو حتى الاكتفاء بالدراسة في هذه المعاهد. وتقدم كليات المجتمع لبنات البناء الأساسية لشهادات المستقبل. وذلك لتوفيرها صفوفاً صغيرة منخفضة التكلفة في السنة الأولى تتيح للطلاب إمكانية اكتشاف المهن والتخصصات، في الوقت الذي يكسبون فيه المؤهلات المهمة. ولقد شرع الطلاب والآباء ممن تتوفر لديهم مجموعة متنوعة من الخيارات حول الانتساب للجامعة في الأخذ بهذه النصيحة، فبلغت نسبة الطلاب الذين يكسبون 100 ألف دولار أو أكثر من الملتحقين بالكليات المجتمعية 25%، بعد أن كانت تلك النسبة 12% فقط قبل خمس سنوات.
فلا ينبغي أن تكون الكليات المجتمعية مجرد خطوة على طريق الحصول على درجة البكالوريوس، في حين يمكنها أن تكون غاية بحد ذاتها. وإذا كنت تريد التركيز على العائد الاقتصادي من المؤهلات العلمية، فإن لدرجة المعهد عوائدها المعتبرة أيضاً، وفي بعض الحالات، تكون تلك العوائد أكبر من تلك الناتجة عن درجة البكالوريوس. ففي مدينة كولورادو الأميركية، على سبيل المثال، يكسب الخريجون الحاصلون على درجة المعهد في المجال التطبيقي (لننظر إلى الممرضات المسجلات رسمياً وعمال تركيب خطوط نقل الطاقة) في المتوسط نحو 41 ألف دولار سنوياً بعد التخرج، أي ما يزيد بنحو 8 آلاف دولار عن أولئك الذين يحملون شهادات البكالوريوس (حيث تبلغ حصة الفرد من الدخل في مجال الإعلام في "كولورادو" نحو 31 ألف دولار).
وفي نهاية الحديث عن بدء المسيرة المهنية للخريجين، وبغض النظر عن المكان الذي يختاره الطلاب لإتمام دراستهم الجامعية، فبمجرد دخولهم الحرم الجامعي، ينبغي لهم العمل على ملاحقة الخبرات المكتسبة، سواء كانت الأبحاث الجامعية أو الدراسة في الخارج أو برامج التدريب، التي تعمل على تسليح الطلاب بالمهارات الشخصية اللازمة. فالغوص في أعماق أصعب التخصصات والمناهج والأنشطة سيقدم لك التحدي الذي سيدفعك للعمل الجاد والتعلم من أفضل الأساتذة والزملاء. كما من شأن هذه التجارب توفير الإعداد الشامل الذي سيؤهلك لمواجهة التحديات والتعقيد والغموض الذي يحيط بعالم العمل بعد التخرج في الكلية.