في عام 2012، وفي مواجهة المنافسة المتزايدة من شركتي "آبل" و"جوجل"، كشفت شركة "مايكروسوفت" عن ما كانت تعتقد أنه سيكون الابتكار الكبير التالي، وهو نظام التشغيل ويندوز 8. إذ صرف فريق شركة "مايكروسوفت" ملايين الدولارات على البحث والتطوير، واستحدث عدداً لا يحصى من الميزات المبتكرة، لكن في نهاية المطاف وجد نظام التشغيل صعوبة في اكتساب زخم لدى الزبائن، وحصل على مئات التقييمات السلبية التي وصفت نظام التشغيل "ويندوز 8" بأنه "مربك بلا داع وصعب الاستخدام"، وتساءل الأشخاص عما إذا كان يجب عليهم الترقية أصلاً. وأشار أحد المنشورات إلى أن نظام التشغيل "ويندوز 8" يعتبر "أحد أكبر الإخفاقات في العقد".
ويعد نظام التشغيل "ويندوز 8" حالة دراسية كلاسيكية لعلامة تجارية ذات نموذج يتبنى تطوير المنتجات من الداخل للخارج، حيث يعتقد المهندسون الأذكياء والمؤهلون أنهم يعرفون ما يحتاجه المستهلكون، لذا جرى تطوير المنتج في سرية تامة. ولم تكن هناك سوى القليل من المساهمات من أشخاص من خارج الفريق الهندسي لنظام التشغيل "ويندوز"، ولم يُلتمس سوى القليل من آراء المستهلكين وتعليقاتهم.
وأنفقت شركة "مايكروسوفت" عند إطلاق "ويندوز 8" ملايين الدولارات على حملة إعلانية عالمية تصف نظام التشغيل "ويندوز 8" بأنه "تجربة لا تشوبها شائبة". وعلى الرغم من ذلك، كانت الحقيقة هي أن شركة "مايكروسوفت" حاولت تجميع كل ميزة ممكنة في "ويندوز 8" ليكون "أفضل" أداء من أنظمة التشغيل "آي أو إس" و"أندرويد" ومتصفح "كروم"، بدلاً من الإصغاء إلى ما يريده الزبائن المستهدفون بالفعل وتوقع ما يرغبون به، حيث استندت الميزات الجديدة التي طوروها في كثير من الأحيان إلى المعتقدات الداخلية للمهندسين بدلاً من أفكار المستهلكين. فما حدث هو أن مهندسي شركة" مايكروسوفت" طوروا ما يمكنهم - وليس ما ينبغي لهم تطويره.
وهذه الحالة ليست استثناء في عالم التكنولوجيا. إذ إنه تحت الضغوط المتزايدة للاستمرار في الابتكار وطرح منتجات جديدة بشكل أسرع، تتبنى العديد من شركات التكنولوجيا نهجاً من الداخل إلى الخارج، حيث يطور المهندسون المنتجات المستقبلية من فراغ.
ونُقل عن ستيف جوبز ذات مرة قوله المشهور: "لا يعرف الأشخاص ما يريدون حتى تعرضه عليهم". إذ كان جوبز يعتقد أن أبحاث السوق ما هي إلا مساع عديمة الجدوى. لكن الحقيقة هي أن عدداً قليلاً للغاية من الشركات يمكنها أن تتفوق باستخدام هذا النهج، حتى إذا كانت تنتج منتجاً أفضل أو بشكل أسرع من المنافسين.
وإذا ألقينا نظرة على الأرقام، سنجد أنه في كل عام تفشل الآلاف من الشركات الناشئة والمنتجات التقنية. ومع وجود استثناءات نادرة، ستواجه الشركات التي تفشل في أخذ القوى الحيوية في السوق والاحتياجات الحالية والمستقبلية لزبائنها في الحسبان، صعوبات جمة.
وما يثير دهشة الكثيرين خارج قطاع التكنولوجيا أن العديد من شركات التكنولوجيا تتجاهل إلى حد كبير أفكار السوق والمستهلكين عند تطوير المنتجات. ويفاجأ المدراء الإداريون وقادة التسويق في مجال السلع المعدة للاستهلاك أو للبيع بالتجزئة من معرفة وجود هذا النهج أصلاً، لأنه إذا لم تكن ثمة حاجة واضحة لدى الزبائن وفرصة لتعزيز التميز في السوق، فلماذا تقوم الشركة بتطوير منتج منذ البداية؟
يقول ليندساي بيدرسون، خبير العلامات التجارية ومؤلف كتاب "دليل القادة لتشكيل علامة تجارية قوية" (Forging an Ironclad Brand: A Leader’s Guide): "ثمة اعتقاد لدى شركات التكنولوجيا، وخاصة شركات البرمجيات، مفاده ’لدينا هذا المنتج الرائع، وتتمثل مهمتنا فقط في حمل الأشخاص المغفلين على معرفة مدى روعة منتجنا‘. إذ إنهم يضعون منتجاتهم في برج عاجي بدلاً من التركيز على الزبون".
وتفهم أنجح الشركات اليوم اختلاف الزبائن عن بعضهم البعض. وتحدد، من خلال البحوث الخارجية والبيانات وأساليب استشعار السوق الأخرى، زبائنها الأكثر أهمية، وبناء على أفكار هؤلاء الزبائن المستهدفين، تصمم استراتيجية علامتها التجارية.
ولحسن الحظ ، تمكنت شركة" مايكروسوفت" من إعادة الأمور إلى نصابها من خلال إطلاق نظام التشغيل "ويندوز 10"، الذي ساعد جيريمي (أحد كتّاب هذا المقال) في عملية تطويره. وتقدم الخطوات التي اتخذناها لمحة عما تحتاجه شركات التكنولوجيا الكبرى لينصب تركيزها على الزبائن.
وإدراكاً لعثراتها السابقة، عيّنت شركة "مايكروسوفت" العالم المخضرم تيري ميرسون للإشراف على مجموعة أنظمة التشغيل الجديدة للشركة. وفي تخل كامل عن النهج الذي اتبع في تطوير نظام التشغيل "ويندوز 8"، دعا تيري قادة التسويق وتطوير الأعمال للانضمام إلى المناقشات الاستراتيجية المبكرة التي كان فريقه القيادي يجريها، قبل أن يبدأ الفريق الهندسي الأوسع في البرمجة. وعلى امتداد عملية تطوير المنتج، لعب قسم التسويق دوراً محورياً، حيث قدم ملاحظات متواصلة من الزبائن والسوق، ما ساعد في تحديد مجموعة منفصلة من الزبائن المستهدفين وتحديد أولويات الميزات الرئيسية.
وقال تيري: "أدركت أنه كي يتسنى لنا تحقيق النجاح الذي كنا نتطلع إليه ونثبت خطأ الانتقادات التي كان توجه لنا، فقد كان يلزمنا الإلمام الواسع بآراء الزبائن ومتطلبات السوق". ولم نتمكن من القيام بذلك بسرية تامة". "وقد أردت مشاركة قسم التسويق لأنني كنت أدرك أن بإمكانهم المشاركة مع فريقي لتطوير منتج مقنع".
كانت النتيجة هي ما أصبح يُعرف باسم "ويندوز 10"، الذي أصبح أسرع إصدار انتشاراً من نظام التشغيل "ويندوز" في تاريخ شركة "مايكروسوفت" الذي يمتد لثلاثة عقود. وكان هذا أول مثال واضح على اتجاه تركيز الشركة نحو نهج أكثر تركيزاً على الزبائن تحت قيادة الرئيس التنفيذي الجديد ساتيا ناديلا. حتى أن عشاق أجهزة" ماك" كانوا يقولون إنهم وقعوا في حب الحواسيب الشخصية مرة أخرى.
فكيف تتحول شركات التكنولوجيا إلى نهج تحديد استراتيجية العلامة التجارية والمنتج من الخارج إلى الداخل؟ فيما يلي ثلاث خطوات أساسية يمكن للقادة اتخاذها:
1. تعزيز دور التسويق في تشكيل المنتجات والابتكار في المستقبل.
يتعين أن يرتكز الابتكار على أفكار الزبائن والأفكار المستقاة من السوق. ويجب أن يكون لدى الشركة رؤية واضحة حيال ما يحتاج إليه الزبائن المستهدفون قبل استحداث منتجات الشركة وتوسيع نطاقها، حيث يخضع المسوقون للتدريب على تحويل الأفكار بشأن السوق والمستهلكين والمنافسين إلى استراتيجيات للمنتج يمكن أن تدفع النمو. وتستكمل هذه المهارة الرؤية ذات المنحى الداخلي التي يقدمها المهندسون، ويمكن أن تساعد في ضمان وجود سوق قبل تخصيص الموارد لتطوير منتجات جديدة.
2. البدء بمنظور من الخارج إلى الداخل.
يتطلب تغيير النهج التزاماً في كافة المؤسسة والاستثمار في استراتيجية خارجية للعلامة التجارية ترتكز على الزبائن، بدراسة أسئلة على شاكلة: كيف يبدو اليوم الاعتيادي في حياة زبائنك المستهدفين؟ وما احتياجاتهم الحالية والمستقبلية؟ وما المسائل التي يشتكون منها، وكيف يمكنك المساعدة في جعل حياتهم أسهل أو أفضل؟ يمتلك المسوقون نموذجاً ذا طابع من الخارج إلى الداخل ويمكنهم توفير الوضوح في الاتجاه الذي يعزز احتمالية أن يجد المنتج الجديد سوقاً عند طرحه.
3. ركز على زبائنك المستهدفين، وليس على جميع الزبائن.
تجنب إغراء توسيع نطاق منتجاتك عن طريق تسويق المنتجات والخدمات لكل شريحة من الزبائن الموجودين في السوق. ففضلاً عن أن هذا النهج المبعثر لا ينجح، فإنه يكبد الشركة خسارة الزبائن. إذ يحدث النمو بدرجة كبيرة عندما تركز الشركات بشدة على خدمة زبائنها الأكثر أهمية.
ويدفع الوضوح في تحديد الزبائن المستهدفين الشركات أيضاً إلى اتخاذ الخيارات المهمة وترتيب الأولويات على صعيد المؤسسة، ابتداء من الاستراتيجية الشاملة للعلامة التجارية إلى تطوير المنتج والتسويق والتسعير ودعم الزبائن.
وقد أدركت الشركات العاملة في مجال السلع المعدة للاستهلاك والسلع المعدة للبيع بالتجزئة منذ وقت طويل أهمية الدور الذي تؤديه أفكار المستهلكين والتسويق في تصميم استراتيجية العلامة التجارية واستراتيجية المنتج. وغالباً ما يؤدي المسوقون الدور المتعلق بالأرباح والخسائر في هذه الشركات ويتولون قيادة استراتيجية الأعمال ككل لدفع النمو عن طريق تعزيز القيمة التي تقدمها العلامة التجارية للمستهلكين. بينما في شركات التكنولوجيا، فالعكس - غالباً - صحيح، حتى بالنسبة للشركات التي تدّعي أنها تركز على الزبائن. إذ إنها تصمم منتجاتها بناء على مجموعة من الافتراضات ذات التركيز الداخلي، التي يطرحها مؤسسو الشركة أو مهندسوها الخبراء في التقنية.
ويجب على الشركات الرائدة في قطاع التكنولوجيا، لكي يتسنى لها النجاح في المدى الطويل، الاحتراس من الميل إلى وضع منتجاتها في برج عاجي. ويبدأ ذلك بتمكين قسم التسويق ومدرائه ليكونوا قادرين على تنفيذ استراتيجية من الخارج إلى الداخل على نطاق دورة حياة المنتج وفترة طرحه على الزبائن، وهو ما يعني التركيز على الزبائن المستهدفين في الابتكار في المستقبل.