في مشهد شهير من فيلم "الخريج" (The Graduate) الذي تم إصداره في العام 1967، يأخذ صديق للعائلة بنيامين برادوك جانباً، وهي الشخصية التي يؤدي دورها داستن هوفمان، ويهمس له بلهجة تآمرية قائلاً: "اللدائن... ثمة مستقبل عظيم في اللدائن". يبدو الأمر غريباً اليوم، لكن اللدائن كانت في الحقيقة جديدة ومثيرة وقتها.
ولو جرت أحداث الفيلم في عصر آخر، ربما كانت النصيحة لبرادوك الشاب مختلفة، كأن ينُصح مثلاً بالعمل في السكك الحديدية أو في صناعة الإلكترونيات أو ربما يقال له ببساطة: "سافر إلى الغرب أيها الشاب!"، فلكل عصر أمور تبدو جديدة ورائعة في حينها، لكنها قد تبدو فاترة وعادية بالنسبة للأجيال المقبلة.
واليوم تحظى التكنولوجيا الرقمية بكل الشعبية، فبعد عقود من التطور أصبحت مفيدة بشكل لا يصدق. ومع ذلك، إذا نظرت عن كثب، يمكنك بالفعل رؤية ملامح انحدارها المحتوم إلى أن تصبح أمراً عادياً. ونحن نحتاج إلى البدء في التحضير لعصر جديد من الابتكار، حيث تتصدر المشهد التقنيات المختلفة، مثل علم الجينوم وعلم المواد والروبوتات.
ولفهم ما يحدث، من المفيد النظر إلى التقنيات السابقة. مثلًا، بدأ ظهور الكهرباء في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما اخترع مايكل فاراداي الدينامو الكهربائي والمحرك. ومع ذلك، لم يفتتح إديسون أول محطة للطاقة إلا بعد مرور 50 عاماً، ثم بعد 40 عاماً آخر من ذلك التاريخ وخلال العشرينيات من القرن العشرين، بدأت الكهرباء تؤثر على الإنتاجية بشكل ملحوظ.
وتتبع كل تقنية مساراً مشابهاً من عمليات الاكتشاف والهندسة والتحويل. وفي حالة الكهرباء، كشف فاراداي مبادئ جديدة، لكن أحداً لم يعرف كيف يستفيد منها. كان عليهم أولاً أن يفهموا جيداً أنّ أشخاصاً مثل إديسون، ووستنغهاوس، وتيسلا سيتمكنون من معرفة كيفية صنع الأشياء التي سيرغب الناس في شرائها.
ومع ذلك، يتطلب تحقيق تحوّل حقيقي أكثر من مجرد تقنية واحدة. أولاً، يحتاج الناس إلى تغيير عاداتهم، ومن ثم لا بدّ من إدخال الابتكارات الثانوية على حياتهم. وبالنسبة للكهرباء، كانت المصانع في حاجة إلى إعادة تصميم، وكان لا بدّ من إعادة تصميم العمل نفسه قبل أن يبدأ في إحداث أثر اقتصادي حقيقي. ثم غيرت الأجهزة المنزلية والاتصالات اللاسلكية وأشياء أخرى الحياة كما عرفناها، لكن ذلك استغرق بضعة عقود أخرى.
لقد تغير عالمنا تماماً بفضل التكنولوجيا الرقمية، وسيكون من الصعب أن تشرح لشخص ينظر إلى كمبيوتر مركزي أنتجته شركة آي بي إم في ستينيات القرن الماضي أنّ آلات مماثلة ستحل في يوم من الأيام محل الكتب والصحف وتعطينا توصيات حول أماكن تناول الطعام واتجاهات الوصول إلى هذه الأماكن، بل إنها ستتحدث إلينا، لكن اليوم أصبحت هذه الأمور تحدث بصورة طبيعية بشكل يومي.
ومع ذلك، توجد اليوم أسباب عديدة للاعتقاد بأننا نقترب من شفق العصر الرقمي. (ومن الأهمية بمكان القول بأنني لا أقصد أننا سنتوقف عن استخدام التكنولوجيا الرقمية - ففي جميع الأحوال ما نزال نستخدم الصناعات الثقيلة - كل ما هنالك أننا لم نعد نشير إلى ذلك بقولنا بأننا نعيش في العصر الصناعي).
أرى ثلاثة أسباب رئيسية تدفعني للقول بانتهاء العصر الرقمي. السبب الأول هو التكنولوجيا ذاتها، فالذي جلب كل هذه الإثارة حول الحواسيب هو قدرتنا على حشر المزيد والمزيد من الترانزستورات على رقاقة السيليكون، وهي ظاهرة أصبحنا نعرفها باسم "قانون مور" (Moore’s Law) التي أتاحت لنا إمكانية جعل تقنياتنا أكثر قوة بشكل كبير عاماً تلو الآخر.
ومع ذلك، فإنّ قانون مور يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن ولم يعد التقدم سهلاً بعد اليوم. وتقوم شركات مثل مايكروسوفت وجوجل بتصميم شرائح مخصصة لتشغيل خوارزمياتها، إذ لم يعد من الممكن انتظار جيل جديد من الرقائق. ولمضاعفة الأداء، ستحتاج بشكل متزايد إلى تعزيز التكنولوجيا من أجل القيام بمهمة محددة.
والسبب الثاني هو تراجع المهارة التقنية اللازمة لإنشاء تكنولوجيا رقمية بشكل كبير، وصاحب ذلك زيادة شعبية ما يسمى بالمنصات التي لا يحتاج إنشاؤها تشفيراً برمجياً. وكما هي الحال مع ميكانيكي وكهربائي السيارات، ستصبح القدرة على العمل مع التكنولوجيا الرقمية مهارة متوسطة المستوى على نحو متزايد.
والسبب الأخير هو أنّ التطبيقات الرقمية أصبحت في طريقها لبلوغ أقصى مراحل التطور. اشتر حاسوباً محمولاً جديداً أو هاتفاً جوالاً اليوم وستجد أنه يقوم بالأشياء نفسها التي كان يقوم بها نظيره الذي اشتريته قبل خمس سنوات. صحيح أنّ تقنيات جديدة، مثل مكبرات الصوت الذكية على غرار أمازون إكو وجوجل هوم تعطي ميزة الراحة في الاستخدام، وهي ميزة تنتج عن واجهات الصوت، لكنها لا تضيف كثيراً غير ذلك على كل حال.
وفي حين أنّ القيمة الجديدة التي يمكن استخلاصها من أشياء مثل معالجات النصوص وتطبيقات الهواتف الذكية تعتبر محدودة الأثر، فإنّ ثمة قيمة هائلة ينبغي تسخيرها وتكمن في تطبيقات التكنولوجيا الرقمية في مجالات مثل علم الجينوم وعلم المواد لتزويد الصناعات التقليدية مثل التصنيع والطب بالطاقة. ويكمن التحدي المقبل بصفة أساسية في تعلم كيفية استخدام البتات (bits) لدفع الذرات.
ولفهم كيفية عمل هذه الآلية، لنلق نظرة على أطلس جينوم مرض السرطان. فالأطلس الذي تم تقديمه في العام 2005 كانت مهمته ببساطة وضع تسلسل لجينوم الورم ونشره على الإنترنت. وحتى الآن، فقد صنف هذا الأطلس أكثر من 10 آلاف جينوم في أكثر من 30 نوعاً من السرطان وأطلق العنان لفيض من الابتكارات في علوم السرطان. كذلك ساعد في إلهام برنامج مماثل للمواد يسمى "مبادرة جينوم المواد" (Materials Genome Initiative).
هذه الجهود تزيد بالفعل من قدرتنا على الابتكار. راجع الجهود المبذولة لتطوير الكيمياء المتقدمة للبطاريات لدفع اقتصاد الطاقة النظيفة، الأمر الذي يتطلب اكتشاف مواد لم توجد بعد. ومن الناحية التاريخية، يتضمن هذا الأمر اختبار مئات أو آلاف الجزيئات، لكن الباحثين تمكنوا من استخدام أجهزة الحاسوب الفائقة عالية الأداء لتشغيل عمليات محاكاة على جينومات المواد وتضييق نطاق الاحتمالات إلى حد كبير.
وعلى مدى العقد المقبل، ستتضمن هذه التقنيات في شكل متزايد خوارزميات التعلم الآلي بالإضافة إلى بُنى حوسبية جديدة، مثل الحوسبة الكمية والرقائق العصبية التي تعمل بشكل مختلف تماماً عن الحواسيب الرقمية.
إنّ إمكانات هذا العصر الجديد للابتكار مثيرة للغاية. ولقد كان للثورة الرقمية، على الرغم من كل سحرها، أثر اقتصادي محدود إلى حد ما، مقارنة بالتكنولوجيات السابقة مثل الكهرباء ومحرك الاحتراق الداخلي. وحتى الآن، تشكل تكنولوجيا المعلومات حوالي 6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة.
قارن ذلك بالصناعة، والرعاية الصحية، والطاقة، التي تشكل 17%، و10%، و8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، على التوالي. يمكنك أن ترى أنّ هناك إمكانية أكبر بكثير لإحداث أثر يتجاوز العالم الرقمي. ومع ذلك، ولأجل اقتناص هذا الهدف يجب علينا إعادة النظر في الابتكارات في القرن الحادي والعشرين.
وبالنسبة إلى التكنولوجيا الرقمية، تُعد السرعة وخفة الحركة من السمات التنافسية الأساسية. فالتقنيات، بما في ذلك النماذج الأولية والتكرار السريعين، قد سرعا من عملية التطوير إلى حد كبير، وحسنا الجودة في كثير من الأحيان لأننا فهمنا التكنولوجيات الأساسية بشكل جيد للغاية. ومع ذلك، ومع التكنولوجيات الناشئة التي تظهر الآن، لا يكون الحال هكذا في كثير من الأحيان.
إذ لا يمكنك بسرعة إنشاء نموذج أولي لحاسوب كمي أو علاج للسرطان أو مادة غير مكتشفة. وهناك قضايا أخلاقية خطيرة تحيط بالتقنيات مثل علم الجينوم والذكاء الاصطناعي. لقد أمضينا العقود القليلة الماضية في تعلم كيفية التحرك بسرعة، وخلال العقود القليلة المقبلة سيتعين علينا إعادة تعلم كيفية المضي ببطء.
إذاً، في حين أنّ شعاريّ العصر الرقمي كانا هما خفة الحركة والزعزعة، ففي هذا العصر الجديد من الابتكارات سيبرز البحث والاستكشاف مرة أخرى. فقد حان الوقت لمنح قدر أقل من التفكير لاجتماعات البرمجة الجماعية والتفكير أكثر حول كيفية التعامل مع التحديات الكبرى.