في السنوات الأخيرة كان العديد من فضائح الشركات، مثل فولكس فاغن وويلز فارغو، عبارة عن حالات كذب على نطاق واسع. من الصعب تخيُّل مدى تغلغل الكذب والخداع في هذه المؤسسات. وقد أشار بعض الباحثين إلى عمليات صنع القرارات الجماعية أو الفخاخ النفسية التي تدفع القادة إلى تبرير الخيارات غير الأخلاقية. من المؤكد أن هذه العوامل مؤثرة، لكنها تفسر إلى حد كبير السلوك غير النزيه على المستوى الفردي، وقد تساءلت عن العوامل النظامية التي قد تؤثر على ما إذا كان الأشخاص في المؤسسات يشوهون الحقيقة أو يحجبونها بعضهم عن بعض أم لا.

هذا ما أراد فريقي فهمه من خلال دراسة طولية أُجريت على مدار 15 عاماً. حللنا 3,200 مقابلة أجريت بوصفها جزءاً من 210 تقييمات لمؤسسات لمعرفة إن كانت هناك عوامل تنبئ بما إذا كان الأشخاص داخل الشركة سيتوخون الصدق أم لا. وقد أسفر بحثنا عن 4 عوامل مؤثرة، وهي ليست سمات شخصية فردية، بل مشكلات تنظيمية. ما يدعو للتفاؤل هو أن هذه العوامل تقع بالكامل تحت سيطرة الشركات، وتحسينها يمكن أن يجعل شركتك أكثر صدقاً ويساعد في تجنب السمعة السيئة والكوارث المالية الناتجة عن الكذب.

المخاطر في هذه الحالة كبيرة. فقد حدد مؤشر المرونة التنافسية (Competitive Agility Index) التابع لشركة أكسنتشر (Accenture)، من خلال تحليل 7 آلاف شركة و20 قطاعاً، لأول مرة بصورة ملموسة كيف يؤثر تراجع ثقة أصحاب المصلحة على الأداء المالي للشركات. كشف التحليل أن أكثر من نصف الشركات (54%) المدرجة في المؤشر شهد تراجعاً كبيراً في الثقة، بسبب حوادث مثل طلب إعادة المنتجات والاحتيال وانتهاكات سرية البيانات وأخطاء مَن هم في المناصب التنفيذية العليا، وهو ما يعادل بحد أدنى 180 مليار دولار من الخسائر في الإيرادات. والأسوأ من ذلك أن بعد تراجع الثقة، تنخفض درجة الشركة بالمؤشر بمقدار نقطتين في المتوسط، ما يؤثر سلباً على نمو الإيرادات بنسبة 6% وعلى هامش الأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين بنسبة 10% في المتوسط.

لذا، للحفاظ على نزاهة مؤسستك، انتبه لهذه العوامل الأربعة.

غياب الوضوح الاستراتيجي

عندما لا يكون هناك اتساق بين الرسالة المعلنة للمؤسسة وأهدافها وقيمها، والطريقة التي ينظر بها الموظفون والسوق إليها فعلياً، وجدنا أن احتمال أن يحجب الأشخاص معلومات صادقة أو يشوهونها يزيد بمقدار 2.83 مرة. قال أحد الأشخاص الذين أجرينا مقابلة معهم: “تتغير أولوياتنا كل أسبوع. لا أحد يريد الاعتراف بأننا في مشكلة، لذلك فنحن كالغريق الذي يتعلق بقشة. لم نعد نعرف مَن نحن، ولذلك فنحن نختلق أشياء فحسب”. في مثل هذه الحالات غالباً ما تصر المؤسسات على اتباع استراتيجيات عفاها الزمن أو تسعى بشكل لا إرادي إلى تحقيق تطلعات استراتيجية غير واقعية. فهي تسلط الضوء على القيم والرسائل لحشد الموظفين المشوشين. وعندما يدرك الموظفون الازدواجية بين الهوية المعلنة لمؤسستهم وأفعالها، فإنهم في النهاية يحذون حذوها. تقدم تيسلا (Tesla) مثالاً مؤلماً على ذلك. وضعت الشركة، التي خضعت للتحقيق الجنائي بتهمة تضليل المستثمرين، أهدافاً إنتاجية مبالغاً فيها لسياراتها من موديل 3 (Model 3). ومع استمرار الرئيس التنفيذي إيلون ماسك في تقديم وعود بتحقيق هدفه المتمثل في الوصول إلى 5 آلاف مركبة أسبوعياً، ظهرت مشكلات متعلقة بإصابات العمال والسلامة والإجهاد.

ليس من الضروري أن تكون المكاسب كبيرة لكي تكون مؤثرة. فقد كشفت نماذجنا الإحصائية أن حتى الزيادة بنسبة 10% في الوضوح الاستراتيجي، كما يتضح من فهم الموظفين والسوق للتطلعات الاستراتيجية للمؤسسة بدقة، يمكن أن تحسن سلوك “قول الحقيقة” بنسبة 5%. لذلك، لتحسين الوضوح الاستراتيجي، يجب على المؤسسات تضمين تطلعاتها الاستراتيجية في وظيفة كل موظف. إذ يجب أن يحظى الجميع، من الرئيس التنفيذي إلى موظفي الخطوط الأمامية، بفرصة لمناقشة كل هدف استراتيجي وتقبُّله.

أنظمة المساءلة الجائرة

عندما يُنظر إلى عمليات المؤسسة المستخدمة لقياس إسهامات الموظفين على أنها غير عادلة أو جائرة، وجدنا أن احتمال حجب الأشخاص للمعلومات أو تشويهها يزيد بمقدار 3.77 مرات. استبعدنا التعويضات عمداً في بحثنا، لأن هياكل الحوافز يمكن أن تؤدي أحياناً أدواراً غير متناسبة في التأثير على السلوكيات، وحللنا فقط طريقة قياس الإسهامات وتقييمها من خلال أنظمة إدارة الأداء والعمليات الروتينية للحصول على التعليقات والوعي الثقافي. عبّر أحد الأشخاص الذين أجرينا مقابلة معهم عن شعور سائد حول مدى تدمير هذه الأنظمة: “لا أعرف لماذا أعمل بجدٍ، فمديري ليس لديه أدنى فكرة عما أفعله. أملأ استمارات التقييم في نهاية العام، ثم يوقّعها ويرسلها إلى قسم الموارد البشرية. ونتظاهر بأننا أجرينا مناقشة، ثم نعيد الكَرَّة. إنه نظام فاسد”. أظهرت دراستنا أنه عندما يُنظر إلى عمليات المساءلة على أنها غير عادلة، يشعر الأشخاص أنهم مجبرون على تجميل إنجازاتهم والاختباء أو تقديم مبررات لأوجه القصور فيها. وهذا يهيئ الأجواء المناسبة للسلوكيات غير النزيهة. أظهر بحث عن الظلم التنظيمي وجود علاقة مباشرة بين إحساس الموظف بالعدالة والاختيار الواعي لتدمير المؤسسة. وتؤكد بحوث حديثة أن المقارنة غير العادلة بين الموظفين تؤدي مباشرة إلى انتهاج سلوكيات غير أخلاقية.

لحسن الحظ، تُظهر نماذجنا الإحصائية أن حتى التحسن بنسبة 20% في اتساق إدارة الأداء، كما يتضح من اعتقاد الموظفين بأن إسهاماتهم قُيِّمت بصورة منصفة وفقاً لمعايير معروفة، يمكن أن يحسن سلوك “قول الحقيقة” بنسبة 12%. ما لاحظناه هو أن المؤسسات التي يُنظر إلى أنظمة المساءلة بها على أنها عادلة ومنصفة لديها عمليات موحدة يقدم الموظفون من خلالها تعليقات ويتلقونها بصورة منتظمة. في إحدى المؤسسات الكبيرة التي عملنا معها، يعقد كل مدير جلسات شهرية فردية مع أعضاء فريقه، وهي تسير وفق نهج موحد في جميع أنحاء المؤسسة. وكل ربع سنة، يكون المدراء مسؤولين عن تلخيص أنماط التعليقات على نطاق فِرقهم وإرسال هذه المعلومات إلى شخص آخر يكون بدوره مسؤولاً عن ضمان استفادة المؤسسة بأكملها منها.

سوء الإدارة

عندما لا تكون هناك عملية فعالة لجمع صناع القرار لإجراء محادثات صادقة حول المشكلات الصعبة، تُخفى الحقيقة، ما يجعل المؤسسة تعتمد على الشائعات والقيل والقال. غالباً ما يُنظر إلى الاجتماعات على أنها مضيعة للوقت لأنه لا يكون من الواضح في الغالب سبب عقدها أو مَن يحق له اتخاذ القرارات. في إحدى الدراسات، رأى 71% من كبار المدراء أن الاجتماعات ليست مثمرة ولا فعالة. ووجدنا أنه في حالة غياب الإدارة الفعالة بالمؤسسات، تزداد احتمالية حجب الموظفين للمعلومات أو تشويهها بمقدار 3.03 مرات.

لكن نماذجنا الإحصائية تُظهر أن حتى التحسن بنسبة 23% في مستوى فعالية الإدارة، كما يتضح من الفهم الواسع النطاق لكيفية اتخاذ القرارات ومَن يتخذها، يؤدي إلى تحسن بنسبة 10% في انتهاج سلوكيات قول الحقيقة. تعقد المؤسسات ذات أنظمة الإدارة المصممة جيداً اجتماعات دائمة مع توضيح حقوق اتخاذ القرارات، وتتطلع إلى أن يتحلى المشاركون بالصدق، خاصة عند سماع أخبار سيئة أو أفكار معارضة. وعندما لا تلتزم الاجتماعات بتصميم أنظمة الإدارة الأعم، أو عندما لا تعود هناك حاجة إليها، فإنها تُلغى.

ضعف التعاون بين الأقسام المختلفة

التعامل فيما بين الصوامع ليس مزعجاً فحسب، بل يمثل أيضاً عائقاً أمام التحلي بالصدق. فعندما يُترك التنافس بين الأقسام أو الصراع غير الصحي دون معالجة، تزداد احتمالية حجب المعلومات الصادقة أو تشويهها بمقدار 5.82 مرات. يخلق هذا التفكك حقائق متناقضة، وبالتالي يضطر أحد الجانبين إلى إثبات أنه محق وأن الآخر مخطئ. وتؤدي الولاءات للأقسام إلى النظر إلى مَن هم خارج الفريق على أنهم أعداء يجب الخوف منهم أو الاستياء منهم أو إلقاء اللوم عليهم.

تسببت الأهداف المتضاربة عند أحد عملائنا السابقين في إثارة توترات بين الأقسام، وقد أدت إلى كارثة تتعلق بالنزاهة. فقد حصل رئيس سلسلة التوريد على استثمار رأسمالي قدره 19.5 مليون دولار لتجديد مصنع وزيادة إنتاجه إلى 3 أضعاف. وفي الوقت نفسه، خفّض قسم التسويق ميزانيته للمساعدة في تمويل الاستثمار، وقسَّم قسم المبيعات حصصه في مناطق المبيعات لرفع مستوى الأداء. والنتيجة هي أقسام لها أهداف متضاربة ومنتجات فائضة من سلسلة توريد أكثر إنتاجاً تأخرت في الوصول إلى السوق. بعد ذلك بعامين، اتُّهِمَت المؤسسة بما يُعرف بـ “حشو القنوات” (channel stuffing).

أدى التحسن بنسبة 25% في التعاون بين الأقسام، كما يتضح من إفادة الموظفين بتنسيق الجهود بفعالية عبر حدود المؤسسة، إلى تحسن بنسبة 17% في سلوكيات قول الحقيقة. فبناء الثقة وتعزيز الالتزام المشترك برسالة أوسع نطاقاً هو السبيل إلى ضمان النزاهة. إذ يجب أن تركز العلاقات بين الأقسام على خلق قيمة للمؤسسة، مع وجود اتفاقات بشأن مستوى الخدمة بحيث تحدد ما يجب أن يُسهم به كل قسم. من المهم أيضاً أن تكون العلاقات بين الأقسام تعاونية وذات منفعة متبادلة، وأن تكون لدى الأقسام عمليات مدمجة تسمح بتبادل التعليقات الصادقة.

نظراً إلى أن هذه العوامل تراكمية، فإن المؤسسة “المصابة” بجميع العوامل الأربعة أكثر عرضة بـ 15 مرة لأن ينتهي بها الأمر إلى حدوث كارثة تتعلق بالنزاهة مقارنة بتلك التي ليس لديها أي من تلك العوامل. ولكن لا يلزم أن يكون هذا هو الحال؛ فمن خلال التركيز على هذه المشكلات الأربعة، يمكنك زيادة احتمالية أن ترسي شركتك ثقافة قوامها الصدق التي تتلهف إليها أنت وموظفوك وعملاؤك.