تعرف على مراحل امتزاج الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية

6 دقائق
امتزاج الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية
shutterstock.com/YAKOBCHUK VIACHESLAV

أشجار المانغروف نباتات فريدة من نوعها في عالم الطبيعة. إذ إنها تنمو في المياه قليلة الملوحة عند النقطة المحددة التي تشكل مصب الأنهار في البحر. هذا هو المكان الوحيد الذي تنمو فيه: حيث تمثل بيئة لا يمكن فهمها من خلال دراستها في سياق "المياه العذبة" أو "المياه المالحة"، لكنها البيئة المثالية للمانغروف. اقترح هذا المثال التوضيحي الدقيق بالفعل لسبل عيشنا في مجتمعات المعلومات المتقدمة، سواء كانت عبر الإنترنت أو عدم الاتصال بالإنترنت، لوسيانو فلوريدي أستاذ الفلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد، الذي ابتكر مصطلحاً جديداً: "أون لايف" (onlife). ولذا، فإن الطابع الجديد للحياة، الذي يصبح فيه الخط الفاصل بين الحياتين الواقعية والافتراضية مثل الماء قليل الملوحة الذي تنمو فيه أشجار المانغروف، أي أنه لم يعد موجوداً.

امتزاج الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية

نحن نتجه، دون أن ندرك ذلك تقريباً، نحو مجتمع تمتزج فيه الحياة عبر الإنترنت والحياة على أرض الواقع، وبعبارات أخرى، "امتزاج الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية". وباستخدام تعريف آخر – وضعه هذه المرة كاي فو لي، الذي عمل - تمالكوا أنفسكم!- مسؤولاً تنفيذياً كبيراً – في شركات "آبل" و"مايكروسوفت" و"جوجل" في الصين، ثم أنشأ شركته الخاصة لرأس المال الاستثماري، المتخصصة في تمويل شركات التكنولوجيا الفائقة التي توظف استثمارات كبيرة في الذكاء الاصطناعي. كنت محظوظاً بما يكفي للتحدث مع لي في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في عام 2018. إذ إنه يتعامل مع الذكاء الاصطناعي بدقة عالِم وشغف طفل ووضوح رجل أعمال ويتسم حياله بمنظور عالمي. وفي حين أن الجميع يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي، إلا أنه يجب علينا التفكير في حقيقة أنه قد وصلنا في "موجات". حيث تشكل موجتان من هذه الموجات بالفعل جزءاً ثابتاً من حياتنا اليومية، في حين أن موجتين أخريين على وشك الوصول وسيغيّران حياتنا إلى الأبد، إذ إن الجنس البشري لن يتراجع ويعود أدراجه أبداً. دعونا نرى كيف تبدو هذه الموجات الأربع من الذكاء الاصطناعي كما وضعها لي، وكيف تؤثر على امتزاج الحياة الواقعية بالحياة الافتراضية ...

الموجة الأولى: الذكاء الاصطناعي في مجال الإنترنت 

تتمثل الموجة الأولى في استخدامنا الشخصي للإنترنت. وكما يوحي الانهيار الأخير لتوماس كوك غروب للسفر التي يبلغ عمرها 178 عاماً، لم يعد الكثيرون منا يستخدمون وكالة سفر لحجز الرحلات لقضاء عطلاتنا، إذ نحجز لسفرياتنا بأنفسنا على حواسيبنا المنزلية. وعلى مدى سنوات طويلة، كانت أفضل طريقة لمقابلة شريك حياتك هي من خلال الأصدقاء المشتركين أو في العمل أو في عطلة. لكن في عام 2017، أصبحت الطريقة "الرقمية" هي الأكثر شهرة لمقابلة شريكك: إذ يتعرف حوالي 20% من الأزواج على بعضهم البعض بهذه الطريقة، باستخدام التطبيقات التي يمكنهم من خلالها التواصل مع الأشخاص الباحثين عن شركاء. وينمو مجال العمل هذا بمعدل 30% سنوياً، وتبلغ قيمته في الوقت الحالي 2 مليار دولار - إلى الحد الذي يدور فيه الآن حديث عن "تسريع وتيرة العلاقات"، حيث يقرر الأشخاص ما إذا كانوا يرغبون في مقابلة شخص أم لا في غضون بضع ثوان.

لذا، ترتبط الموجة الثانية من موجات الذكاء الاصطناعي بالأنشطة - أو الانتهاكات - التي تنفذها الشركات للتأثير على أعمالنا وعمليات الشراء والتصويت. هذا الشكل الخفي من التلاعب يغير طريقتنا في التفكير والتصرف.

وقد وصلت هاتان الموجتان – الذكاء الاصطناعي في مجال الإنترنت والذكاء الاصطناعي في مجال الأعمال - بالفعل ونعرفهما جيداً. أما الموجتان الأخريان فقد قطعتا شوطاً بعيداً في طريقهما إلينا. ويجدر بكم ربط أحزمة الأمان، لأن من المتوقع أن يغيّرا حياتنا وذواتنا.

الموجة الثانية: الذكاء الاصطناعي في مجال الأعمال

هل سبق أن شاهدت مقطع فيديو على موقع "يوتيوب"، ثم أدركت أنك شاهدت 10 مقاطع متتالية دون أن تلاحظ ذلك؟ أو بعد قيامك بشراء كتاب في التاريخ، فإن موقع "أمازون" يقترح عليك أيضاً شراء كتب أخرى مماثلة؟ وهل سبق لك أن شاهدت فيلماً على منصة "نتفليكس" ثم اقترح عليك الموقع نفسه أفلاماً أخرى قد تعجبك؟ وذلك باستخدام كلمات مثل "بما أنك شاهدت فلم "العميل 007"، يوجد 20 فيلماً إضافياً مثيراً عن الجواسيس"؟ في عام 2011 تقريباً، بدأت الشركات في تحسين "محركات التوصية" الخاصة بها - أي الخوارزميات التي تتم معايرتها وفق تفضيلاتنا. وتنبع قوة خوارزمية المحرك هذه من البيانات المتاحة لها. فكلما زادت كمية البيانات المتوفرة للخوارزمية، ازدادت قوة ودقة. وبعبارات أخرى، كلما زاد استخدامنا للإنترنت، زاد مقدار معرفة الخوارزمية بنا، وبالتالي، تتحسن جودة الاقتراحات التي تقدمها لنا. ولكن هل هي اقتراحات أو - بعبارة فظة – أم أنه تلاعب كامل؟ إذ سُلّطت الأضواء على سلوك "كامبريدج أناليتيكا" (Cambridge Analytica)، شركة الاستشارات السياسية البريطانية التي عملت في حملة دونالد ترامب الانتخابية لعام 2016، لهذا السبب بالتحديد. واعترفت شركة "فيسبوك" بأن شركة تحليل البيانات جمعت تفاصيل شخصية خاصة بما يصل إلى 87 مليون مستخدم دون علمها. ثم استهدفت الشركة هؤلاء الأفراد بالرسائل السياسية التي يُزعم أنها ساعدت ترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية. وخلال الألعاب الأولمبية لعام 2016 في ريو دي جانيرو بالبرازيل، قرأنا التقارير التي كانت جاهزة للنشر بعد ثانيتين من إعدادها بواسطة روبوت كتابة يستند إلى الذكاء الاصطناعي طوره كاتب الأخبار الصيني جينري توتياو.

الموجة الثالثة: الذكاء الاصطناعي في مجال الوعي الإدراكي

في مباراة بيسبول في كوريا الجنوبية في مارس/ آذار، وقبل دقائق قليلة من بدء المباراة، شاهد المتفرجون تنيناً ذا أجنحة وهو ينفث النيران ويطير بجانبهم على بعد أمتار قليلة من مقاعدهم. أحب الكثير منهم ذلك، وشعر بعضهم بالخوف والبعض الآخر ضحك بعصبية. وأحدثت الصورة – وهي صورة ثلاثية الأبعاد ابتكرتها شركة متخصصة – ضجة كبيرة، إذ نُشرت مقاطع الفيديو على موقع "يوتيوب" وحصل على ملايين المشاهدات. وتستثمر مجالات عمل وقطاعات أخرى مبالغ ضخمة في دفع الحدود البشرية إلى آفاق أبعد قليلاً. وعلى الرغم من أنها كانت منذ بضع سنوات مجرد تجارب مرئية بصفة عامة، إلا أنها ستشمل في المستقبل حواسنا الأخرى في وجود تطبيقات الواقع الافتراضي مثل تلك المستخدمة في ألعاب الفيديو.

وعندما أدخل أحد المتاجر المحلية الكبيرة وآخذ عربة التسوق، سرعان ما أسمع صوتاً يقول: "مرحباً بعودتك مجدداً يا باولو"، لأن أجهزة الاستشعار في عربة التسوق اكتشفت بصمات أصابعي. وفي تلك اللحظة، ستتصل العربة بثلاجتي في المنزل عبر تقنية إنترنت الأشياء، وتبلّغني ما إذا كان الحليب أو مثلجات الشوكولاتة، مثلاً، على وشك أن ينفد. ولكن إذا أظهر آخر اختبارات الدم التي أجريتها مستويات مرتفعة من الكوليسترول في الدم، فقد أتلقى رسالة على هاتفي تذكّرني أنه من الأفضل شراء بعض الفواكه الطازجة بدلاً من المثلجات. وعندما أقترب من نهاية التسوق، تحذرني عربة التسوق من أنني اشتريت الكثير من البروتينات ولكن لم أشتر قدراً كافياً من الألياف والفيتامينات، لأعود وأشتري الأطعمة الغنية بالألياف والفيتامينات، قبل أن أدفع ثمن السلع التي اشتريتها.

سيطمس الذكاء الاصطناعي في مجال الوعي الإدراكي الحدود الفاصلة بين العالمين الواقعي والافتراضي إلى أن نجد أنفسنا، مثل أشجار المانغروف، نعيش في عالم بلا حدود

وعند إرجاع عربة التسوق إلى مكانها، لا يوجد محاسب، وأسمع الصوت المألوف، الذي اخترته من بين 1,282 خياراً، ليقول: "وداعاً يا باولو، نراك مجدداً عما قريب". هل تعتقدون أن الأمر مجرد خيال علمي؟ لنتقابل بعد خمس سنوات. سيطمس الوعي الإدراكي الحدود الفاصلة بين العالمين الواقعي والافتراضي إلى أن نجد أنفسنا، مثل أشجار المانغروف، نعيش في عالم بلا حدود.

الموجة الرابعة: الذكاء الاصطناعي المستقل

الذكاء الاصطناعي المستقل، وبعبارات أخرى، الذكاء الاصطناعي الذي لا يوجه البشر وظائفه، هو تتويج للموجات الثلاث الأخرى. حيث لن تتمكن الآلات فحسب من فهم العالم المحيط بها، بل ستحدد أيضاً شكله ومحتوياته. ودعونا نفكر للحظة في الفرق بين الآلات "الآلية" والآلات "المستقلة". إذ يمكن للآلات الآلية أن تكرر العملية عدداً لا حصر له من المرات، في حين أن الآلات المستقلة يمكنها أن تتخذ القرارات كلما منحناها القدرة على الرؤية واللمس والشعور: وبمعنى آخر، يمكنها التفكير. حالياً، كما يكتب كاي فو لي، ظفرت الصين بمكانة مهيمنة في إنتاج طائرات بدون طيار أكثر ذكاءً وتطوراً يمكن أن تكون لها أغراض متعددة. حيث كان أحد مقاطع الفيديو الأكثر مشاهدة على موقع "يوتيوب" في 2018 لامرأة مسنة كانت تستقل سيارة ذاتية القيادة. إذ إنها كانت تصرخ مذعورة، بينما يبدو ابنها، الذي يجلس إلى جانبها، أكثر هدوءاً. ويرسم مقطع الفيديو ابتسامة على الوجوه، لكن يتعين علينا أيضاً التوقف والتفكير، كيف يبدو الأمر عندما تفقد السيطرة على الأنشطة التي ظللنا نتعامل معها بأنفسنا يومياً على مدار عقود؟ ومع ذلك، يفقد ما يقدّر بنحو 1.25 مليون شخص حياتهم كل عام في حوادث الطرق. وحوالي 94% من هذه الوفيات ناتجة عن خطأ بشري، وتشير الدراسات إلى أن السيارات ذاتية القيادة يمكن أن تقلل من هذه النسبة عن طريق أتمتة القيادة. أسئلة أخرى تتبادر إلى أذهاننا، ستختفي الوظائف الاعتيادية وتستحدث وظائف أخرى، فهل لدينا القدرات والمهارات التي نحتاجها في هذا الاقتصاد الجديد؟

تعيد الموجات الأربع للذكاء الاصطناعي تشكيل مجتمعنا، ما يجعله مختلفاً بصورة جذرية عما كان عليه في السابق. فهل سينتهي بنا المطاف إلى أن تغمرنا هذه الموجات أم أننا سنتعلم كيفية إدارتها لصالح الإنسانية؟ تكمن الإجابة في شعورنا بالأخلاقيات، وفي البوصلة الأخلاقية التي توجه القرارات التي يؤمَل أن يتخذها أشخاص ذوو نوايا حسنة يتمتعون بالمسؤولية والنزاهة.

إذا فكرنا في الأمر، فإن التحدي الحقيقي ليس تقنياً بل أخلاقياً، ويعتمد علينا تماماً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي