يجلس مختص الاتصالات، رائد، قبالتي، ويحرك ملعقته في فنجان قهوته الثاني شارد الفكر؛ إذ إن وضعه في العمل صعب، فالميزانيات تتقلص والمهام رتيبة ومديره من النوع الذي يتدخل في التفاصيل ويراقبه بدقة خانقة. لا يستطيع تذكر آخر مرة استمتع فيها حقاً بيوم عمل. وقد عرض عليّ قصاصة صحيفة تحتوي على إعلان وظيفة براتب أقل من راتبه الحالي وعبّر عن شكه في قدرته على الحصول عليها. ويحاول الآن العثور على عبارات أفضل من التي قالها لي طوال نصف ساعة للتعبير عن الصراع داخله بين عدم رضاه عن وظيفته الحالية وخوفه من المجهول إن تركها.
إذا كنت في وضع مشابه لوضع رائد، فمن المهم أن تدرك أن الكثير منا يخدع نفسه بفكرة أنه صاحب القرار في مساره المهني. نحن في حالة انقياد أغلب الوقت نجمع عناصر سرد مهني ببدو متماسكاً بما يكفي لنعتبره قصة حياتنا المهنية التي نحكيها في مقابلات العمل. ففي الأوقات المزدهرة، تتوافر فرص التوظيف، وتنطلق مشاريع جديدة، وتتطور أمور السوق.
في المقابل، يتغيّر كل شيء متعلق بالعمل في الأوقات الاقتصادية الصعبة؛ إذ تهيمن على أفكارنا نُدرة الفرص المتاحة وأخبار تسريح الموظفين وخفض الرواتب، وتصبح استراتيجية إدارة المسار الوظيفي السائدة هي "البقاء في مكانك والنجاة من العاصفة". وربما تشعر بأنك في حالة أسميها "الروتين الجامد"؛ أي في وضع مهني مريح لكنه لا يقدم الكثير من التعلم أو التحديات، مع تضاؤل الدافع لديك للتحرر منه.
في فترات الركود الطويلة هذه، يسود شعور في أماكن العمل يتلخص في أن "الوظيفة سيئة، لكنها ملاذ نجاة من الأزمة"، فيتمسك الموظفون بما لديهم ويبقون في وظائفهم وينتظرون انتهاء الأزمة، مع أن هذه ليست استراتيجية مهنية ناجحة على المدى البعيد.
لكنها استراتيجية واقعية. أنا ممن يستهويهم الاستماع إلى محادثات الناس في الأماكن العامة، مثل المطارات أو المقاهي، ويذهلني مدى انتشار رؤية مستقطبة لاختيارات الحياة المهنية في نقاشاتهم، كأنني أطالع رسماً كاريكاتيرياً عن الخيارات المهنية. يبدأ الموظفون برؤية مثالية ليوم عمل هادف، أو مثير على الأقل، محاطين بزملاء مفعمين بالطاقة، ولكنهم سرعان ما يستسلمون للواقع، وتفصح لغة أجسادهم عن تلك الحقيقة. وفي حين أن "الحلم بصوت عالٍ" ركن من أركان تفكيرنا في العمل وسعينا إلى ممارسة عمل هادف، فهو لا يساعدنا على التخلص من حالة الخمول المهني هذه في ظل الواقع الذي يفرضه ضغط السوق.
في عالم مثالي، سوف يفضل أكثرنا تلقي فرصة مهنية على طبق من فضة، وأن يكون حسم كل قرار مهني في غاية البساطة والوضوح. لكن الواقع أشد تعقيداً، وتسمع كثيراً هذه النصيحة: "ليس هذا هو الوقت المناسب لتغيير الوظيفة"، ولقد سمعتها عاماً تلو العام، على مدار عقدين.
ولك أن تغير وظيفتك أو أن تبقى فيها، لكن افعل ذلك انطلاقاً من أسباب وجيهة.
يجب أن ينبع الانتقال إلى وظيفة جديدة من الرغبة في العثور على دور يتماشى بدرجة أفضل مع ما يمكنك أن تقدمه للعمل، وتذكّر أن كل عمل هو اتفاق ومساومة بين طرفين، ومن الخطأ أن تتخلى عن قيمك ومسؤولياتك فيه. لتجنب ذلك، حدد ما لا يمكن التفاوض عليه؛ أي الجوانب الحاسمة في رضاك الوظيفي، مثل النفوذ والعلاقات البنّاءة والقيم والثقة وفرص التعلم والنمو الشخصي.
استعد جيداً، قبل اتخاذ خطوات جذرية. اجمع أدلتك وإنجازاتك ودوافعك للتغيير، وافهمها. وضع قائمة رغبات مهنية واضحة والتزم بها، سواء في أثناء التعارف أو في طلبات التوظيف المباشرة، لضمان أن تكون جهودك مركزة وفعالة.
ينبغي أن يكون اختيار البقاء في وظيفتك الحالية خياراً إيجابياً وليس خياراً تلقائياً؛ واعلم أن شعورك بالامتنان للأمان الوظيفي ليس سوى عزاء مؤقت، ولا تستخدم فترة الركود الاقتصادي ذريعة لكبت تطلعاتك المهنية.
فكر في السنوات الثلاث الماضية من تجربتك المهنية. هل حققت فيها نمواً واكتسبت خبرات جديدة، أم مرت دون أي جديد؟ ما هي المهارات الجديدة التي اكتسبتها؟ وهل تعرضت لتحديات؟ والأهم من ذلك، كيف ستتحدث بعبارات مقنعة عن هذا الجزء من سيرتك الذاتية في أثناء مقابلات التوظيف مستقبلاً؟
لا يعني البقاء في وظيفتك الحالية أن تركن إلى حالة ركود، فكر في إعادة التفاوض بشأن جوانب من وظيفتك وتجنب الطلبات الغامضة للحصول على عمل أكثر جاذبية، اقترح مبادرات محددة تفيدك أنت وشركتك. وابحث عن تغييرات قصيرة الأجل لا تنطوي على مخاطرة كبيرة للشركة ولكنها ذات قيمة عالية لتطوير ذاتك؛ مثل مخططات تجريبية، والارتباط بفرق عمل أو مشاريع جديدة، والانتقالات المؤقتة، والمبادرات التي يمكنك العمل عليها في أوقات فراغك. تمثل الإدارة نحو الأعلى؛ أي بناء علاقة عمل ناجحة مع مديرك، بدايات استراتيجية فعالة للإدارة المهنية؛ حيث تشجع الآخرين على مساعدتك في تحديد هوية مهنية جديدة لنفسك وتجديد نظرة الشركة إليك.
ما الذي يمكنك إقناع إدارة شركتك بتغييره؟ أكثر مما قد تتخيل، في الغالب. لقد عملت مع عملاء صارحوني في البداية بشعورهم بالحاجة إلى مغادرة وظائفهم فوراً، ولكنهم أدركوا بعد حواري معهم قدرتهم على تحقيق شيء ذي قيمة في غضون أيام معدودة؛ فحل مشكلتك قد يكون بيدك أنت.