ركّز كبار الاستراتيجيين المختصين بالموارد البشرية على مدى أكثر من عقد من الزمن على موضوع يتكرر باستمرار. وهو وجوب شغل الموظفين المميزين أهم الأدوار ضمن الشركة. على سبيل المثال: في العام 2009، قدّر كل من الأساتذة برايان بيكر، ومارك هيوسيليد، وريتشارد بيتي أنّ الوظائف التي تُعتبر أدواراً استراتيجية تبلغ نسبة أقل من 15% في معظم الشركات، وقالوا أنه ينبغي على الإدارات تركيز "الاستثمارات الضخمة" على إيجاد موظفين ممتازين لشغل هذه الوظائف. وقد طُرحت نقاشات مماثلة، من قبل كل من جون بودرو مدير جامعة جنوب كاليفورنيا، ورام شاران الرئيس التنفيذي الاستشاري، والاستشاريين في شركات باين آند كومباني (Bain & Company) وماكنزي وكورن فيري.
وبناء على هذه الأفكار، تعرّفنا على ست وظائف ذات تأثير كبير يجب الحرص على إيجاد الموظفين ذوي الكفاءات العالية. ولكن من خلال خبرتنا على مدى ثلاثة عقود من العمل كخبراء تطوير المواهب وأخصائيين في مجال الاحتفاظ بالموظفين، رأينا مراراً وتكراراً أنّ الشركات تتجاهل حوالي نصف الخبرات وبالنتيجة، تخاطر بخسارة الموظفين ذوي الكفاءات العالية للوظائف التي تؤثر على الأداء بصورة أكبر مما يدركه الكثير من القادة.
الوظائف التي تحظى فعلياً بكثير من الانتباه في معظم الشركات هي:
- القيادات العليا الأساسية: كرؤساء التسويق في شركات المنتجات الاستهلاكية، ورؤساء التصميم في شركات الألبسة الفاخرة. ورؤساء الأقسام اللوجستية في شركات التجزئة الكبرى.
- وظائف وسطاء التواصل: بالرغم من تجاهلها لفترة طويلة، إلا أنّ هذه الوظائف أصبحت تُعتبر أكثر فأكثر أدواراً حاسمة في تنفيذ استراتيجية أي شركة. وفي الشركات التي تعتمد على المبيعات (كشركات الأدوية وشركات المعدات الصناعية)، غالباً ما تكون هذه الأدوار لمدراء المبيعات الميدانية الذين يوجهون عشرات البائعين في المناطق ذات الكثافة الأعلى.
- القادة المستقبليين ذوي الإمكانات العالية: يُتوقع أن يشغل هؤلاء القادة الصاعدون المناصب الإدارية العليا في المؤسسة.
ولكن هناك ثلاث وظائف أخرى تغفل عنها معظم المؤسسات التي نعرفها ولا تولي الاحتفاظ بالموظفين الذين يشغلونها أي اهتمام. وهي:
- الخبراء الأساسيون: تكون هذه الوظائف في البحث والتطوير والتقنية والمجالات الحيوية الأخرى الخاصة بالإدارة الاستراتيجية وتطوير المنتج وكفاءة العمليات في أي شركة. ومن يشغل هذه الوظائف لا يتمتع بأية مسؤوليات إدارية ولا يرغب بها أساساً.
- موظفو إنشاء خبرات الزبائن: يتفاعل هؤلاء عادة مع أهم زبائن الشركة، ويحددون إمكانية بقائهم كزبائن. وتكون هذه الوظائف في أقسام المبيعات ومراكز التواصل مع الزبائن ومواقع الخدمات الميدانية.
- المتعاقدون الأساسيون: هؤلاء ليسوا موظفين. بل هم عاملون مؤقتون ولكنهم حيويون في أقسام البحث والتطوير والتسويق والعمليات الأساسية الأخرى ضمن أية مؤسسة. وهم يختلفون عن المتعاقدين المستقلين الاعتياديين في أنهم عملاء أحرار يتقاضون أجوراً مرتفعة ولديهم خبرات نادرة وقيّمة جداً لا تملكها الشركة.
لا تقع أي من هذه الوظائف على قمة الهيكل التنظيمي، وباستثناء بعض موظفي إنشاء خبرات الزبائن، لا يسعى الموظفون في هذه الأدوار للحصول على مناصب أعلى في المؤسسة. وغالباً ما تغفل الشركات عن أهمية الاحتفاظ بالموظفين من ذوي الأداء العالي في هذه الوظائف لأنها ليست على المسار الإداري.
لنلق نظرة أعمق لكل منها على حدة:
الخبراء الأساسيون
يملك الخبراء الأساسيون معارف بالغة الأهمية، ولكنهم لا يرغبون بإدارة الآخرين. ويشيع وجود هذا الدور في شركات التقنيات والهندسة وعلوم الحياة، حيث تكون الخبرات المتخصصة في النواحي الضيقة والغامضة جوهرية وتساعد على تحقيق النجاح في السوق. ولكن تزايدت أهمية هذه الوظيفة في العديد من الصناعات الأخرى أيضاً، كالمجالات الإبداعية (تصميم المنتج في تجارة التجزئة مثلاً) والاتصالات.
لاحظ أنّ الخبراء الأساسيين عموماً لا يرغبون بإدارة الآخرين. فهم لا يرغبون سوى بإدارة أنفسهم فقط. ما يجعل استبقاءهم أمراً مختلفاً تماماً عن الاحتفاظ بموظف يرغب بتسلق الهرم الإداري للشركة عبر إدارة عمليات أكبر فأكبر.
إذاً، كيف تحافظ عليهم؟ تُعد المكافآت التنافسية بالنسبة لهؤلاء الأشخاص أقل ما يمكن البدء به. وقد يستحق بعضهم أكثر مما يجنيه بعض المدراء في شركتك، كما يمكنهم أخذ خبراتهم إلى مكان آخر بسهولة. ولكن بيئة عملك هي أحد العوامل الرئيسية التي تشغلهم. فهم يتوقعون أن يشاركوا في عمل يعتبرونه مفيداً ويتماشى مع قيمهم.
وتُعد استثمارات جوجل في الذكاء الاصطناعي خير مثال على ذلك. ففي عام 2014، دفعت الشركة 650 مليون دولار أميركي لشراء شركة ديب مايند تكنولوجيز (DeepMind Technologies) الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتكبدت عناء كبيراً للاحتفاظ بخمسين عالم في الذكاء الاصطناعي في أماكنهم فيها. مثلاً، كان على جوجل التعهد بأنها لن تستخدم شركة ديب مايند تكنولوجيز لخدمة أغراض عسكرية أو مخابراتية. كما كان عليها أيضاً أن تسمح لعلماء ديب مايند بالاستمرار في نشر بحوثهم ضمن المجلات العلمية، وهذه البحوث هي معارف كانت شركة جوجل ستعتبرها من أملاكها وستبقيها سرية.
كما أنّ تطوير الإمكانيات أيضاً هو من أهم الأمور بالنسبة للخبراء الأساسيين في أي شركة. وخصوصاً اكتساب المعارف وتطبيقها على مشاريع مفيدة. فهم يستمرون بالتعلم طوال حياتهم وغالباً ما يرغبون أن يُعتبروا منارات في مجالاتهم. ويمكن أن تلعب المساعدة في الاعتراف بهم كقادة الفكر دوراً كبيراً في الاحتفاظ بهم، وذلك عن طريق نشر مقالاتهم في المجلات المرموقة على سبيل المثال، أو إلقائهم خطابات في مؤتمرات بارزة.
موظفو إنشاء خبرات الزبائن
يؤثر هؤلاء الموظفون في احتمال أن يصبح الزائرون من الزبائن واحتمال عودة هؤلاء الزبائن. قد يكونوا بائعين يحتاج زبائنهم الكثير من الإرشاد، كبائعي تأمينات الحياة أو بائعي الآلات الصناعية على سبيل المثال. أو يكونوا أشخاصاً يتعاملون مع الزبائن بعد عملية البيع، كممثلي الزبائن الذين يدعمون أكبر المستثمرين في شركات إدارة الأصول من أمثال فيديليتي (Fidelity) وبوتنام (Putnam).
يُعتبر أهم عاملين مؤثرين في الاحتفاظ بالموظفين في هذه الأدوار، هما المكافآت وسمعة المؤسسة. فالمكافآت التنافسية هي الحد الأدنى من المتطلبات إذ يمكنهم غالباً جني مبالغ أكبر في أماكن أخرى.
أما سمعة المؤسسة، فتحظى بأهمية كبيرة لأن الموظفين يحتاجون للشعور بالرضا عن المنتجات والخدمات التي يسوّقون لها أو يقدمونها. على سبيل المثال، تشغل فيل ريزورتس (Vail Resorts) وهي شركة بقيمة 1.9 مليار دولار، عدة منتجعات للتزلج. لقد أدركت قيمة الاحتفاظ بالموظفين بالنسبة إلى السمعة. ويزيد عدد موظفيها عن 30,000 موظف، 80% منهم عاملون موسميون، ويشكل موظفو إنشاء خبرات الزبائن عدداً كبيراً منهم، كعمال الرفع ومدربي التزلج والعاملين في المنتجعات والمطاعم وما إلى ذلك. يقول مارك غاستا رئيس الموارد البشرية الأسبق للشركة (2008 – 2016): "إنّ هؤلاء العاملين والموظفين أساسيون لنجاح المؤسسة، واستبقاءهم لمدة طويلة هو أمر هام". وفي أفضل الأحوال، سيعود الموظفون الموسميون عاماً بعد الآخر.
كان الحفاظ على أهم المواهب أمراً جوهرياً بالنسبة لعودة شركة فيل ريزورتس إلى الازدهار بعد أزمة الركود في عام 2009، وكان لتوضيح قيم الشركة الأثر الكبير في الاحتفاظ بالموظفين ذوي المواهب. وعلى اعتبارها شركة تسعى جاهدة لإنشاء خبرات رائعة للزبائن في الهواء الطلق والطبيعة، فمن الطبيعي أن تصبح حماية البيئة قيمة جوهرية وأمراً هاماً بالنسبة لموظفيها في الخطوط الأمامية.
ومع إشارة غاستا إلى الأجور التنافسية التي تدفعها شركته، يقول: "لا يهم كم تدفع لهم. إن لم تكن متوافقاً مع طموحات الموظفين الشخصية فسيغادرون الشركة في نهاية المطاف. فهم يرغبون بمعرفة أنهم يعملون لدى شركة تفعل خيراً، وبعد ذلك يرغبون بمعرفة كيفية مشاركتهم في هذا الخير". قامت الشركات بوضع الاستدامة في مركزي الصدارة والقلب في التواصل الخارجي والداخلي. وفي عام 2017 أعلنت مبادرة جريئة لإنهاء انبعاث الكربون، وإيقاف رمي النفايات في مدافن القمامة تماماً، والسّعي لتقليص الآثار البيئية السلبية بحلول عام 2030.
أما بالنسبة لبيئة العمل، نجد أنّ فيل ريزورتس وفرت المرونة من أجل منح موظفيها الوقت ليتمكنوا من متابعة أحلامهم. ووفرت لهم عطلاً للتزلج، تعتبر الشركة أن "المرح والاستمتاع" إحدى أهم قيمها الجوهرية الست.
المتعاقدون الأساسيون
لقد انتشر المتعاقدون المستقلون بصورة كبيرة، ووفقاً لمعهد ماكنزي العالمي (McKinsey Global Institute)، تبلغ نسبة الموظفين المستقلين من الأميركيين وضمن الاتحاد الأوروبي حوالي 20% أو 30%، وتقول أبحاث ماكنزي أنّ حوالي 30% من هؤلاء الموظفين الذي يبلغ عددهم 162 مليون موظف، اختاروا العمل كعملاء مستقلين بناء على رغبتهم وليس للضرورة. وفي الحقيقة، تشير نتائج دراسة أخرى أقامها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في أميركا إلى أنّ 94% من عدد الموظفين الجدد في الولايات المتحدة بين عامي 2005 و2015 يعملون بصورة مستقلة (freelance).
خلاصة القول، إنّ المتعاقدين المستقلين وُجدوا ليبقوا. على سبيل المثال، تبلغ قيمة شركة إيكولاب (Ecolab) العالمية 13 مليار دولار، وهي تؤمن تقنيات الماء والنظافة والطاقة وخدماتها لحماية الناس والموارد الحيوية. كما يبلغ عدد موظفيها حوالي 48,000 موظف منهم 6,000 موظف مؤقت، ويملك بعض من أهم هؤلاء الموظفين المؤقتين خبرات عميقة نادرة في مجالات رئيسية، كالشمندر السكري وكيفية تكريره. تقول لوري مارش نائبة الرئيس التنفيذي للموارد البشرية في الشركة: "هناك القليل من خبراء الشمندر السكري في العالم، ويعمل واحد منهم لدينا كمتعاقد خارجي مؤقت. لقد تقاعد ولم يرغب بالعودة إلى العمل بدوام كامل. ونحن سعداء أنه موجود عند الطلب ويعمل ضمن فريقنا".
تقول مارش أيضاً: "تسعى شركة إيكولاب لتقديم أفضل مجموعات معدات للعمل في سبيل الحفاظ على متعاقد هام كهذا لديها. ونحن نبذل وقتاً كبيراً لضمان أن يحصل هؤلاء الموظفون على أحدث التقنيات وأفضل وسائل البحث".
كما أنّ للمكافآت أهمية كبرى لدى المتعاقدين الأساسيين، تماماً كغيرهم من الموظفين المميزين، كذلك الأمر بالنسبة لتطوير الإمكانات بالأخص في ما يتعلق بتحقيق علامة تجارية شخصية. وذلك لا يعني تقديم مسار مهني لهم ضمن شركتك، بل يعني مساعدتهم على تطوير مصداقيتهم في السوق بصورة أكبر.
تُعد سمعة المؤسسة مهمة بالنسبة لهم أيضاً. وببساطة، هم يرغبون بالعمل مع المتميزين. والشركات صاحبة العلامات التجارية القوية لديها الأفضلية في اجتذاب المتعاقدين الأساسيين. أما الشركات ذات العلامات التجارية الأضعف تعاني من صعوبة أكبر في الحصول على نخبة النخبة، إلا إن كان المتعاقدون أنفسهم لم يحققوا علامة تجارية شخصية قوية بعد.
يمكن القول إنّ الحفاظ على الخبراء الأساسيين الموهوبين وموظفي إنشاء خبرات الزبائن والمتعاقدين الأساسيين الذين يعملون لدى شركتك وينخرطون بعملهم، يبدأ بالاعتراف أنّ القادة الكبار ليسوا دائماً هم الأشخاص ذوي القيمة الأكبر في الشركة.
أخيراً، تدير شركات عديدة استراتيجيات الاستبقاء لديها بصورة تكاد تكون محصورة بمستوى الإدارة العليا والإمكانات العالية. ولكن إهمال الأدوار الهامة الأخرى التي تحرك الفائدة التنافسية، سيؤدي إلى ضياع مواهب قيمة. لذلك، يجب عليك اكتشاف الأدوار التي لها التأثير الأكبر على أداء السوق ووضعها في أيدي موظفين متميزين.