على الأرجح، تنطوي وظيفتك على استخدام جهاز الكمبيوتر، ربما بنسبة أكبر بكثير مما كانت عليه طبيعة هذه الوظيفة منذ عقود.
في دراسة حديثة، حاول باحثون في مؤسسة "بروكينغز" (Brookings)، تقدير حجم التغييرات الحاصلة في اقتصاد الولايات المتحدة، عبر الاستعانة ببيانات وزارة "العمل" الأميركية حول المتطلبات الرقمية لـ 545 مهنة مختلفة. ووجدوا أن 95% من تلك المهن أصبحت أكثر رقمية ما بين عامي 2002 و2016، ما يعني أن أجهزة الكمبيوتر أصبحت جزءاً مهماً جداً من الوظائف.
حصر الباحثون مقاييس متعددة ذات صلة باستخدام المهن للتقنيات الرقمية في مقياس رقمي يبدأ من صفر (ممثلاً المهن الأقل رقمية) إلى 100 (ممثلاً المهن الأكثر رقمية).
باستخدام المقياس التفاعلي (يمكنك الدخول عليه من هنا)، يمكنك أن ترى أين تقع وظيفتك ومجال عملك على هذا المقياس بدءاً من عام 2016. وبمجرد أن تختار إحدى الوظائف، ستجد - من خلال المقياس الموضح - كيف تغيرت طبيعتها منذ عام 2002، إضافة إلى التغيرات الحاصلة في متوسط الأجور.
يوضح المقياس التفاعلي أيضاً أن هناك ترابطاً بين المتطلبات الرقمية للمهنة وراتبها. فقد قسّم الباحثون المهن إلى مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة من جهة استخدامها للتقنيات الرقمية، ووجدوا أن المهن الرقمية بدرجة عالية للغاية يبلغ متوسط الأجور بها 73 ألف دولار. أما في المهن التي تستخدم التقنيات الرقمية بدرجة متوسطة فتبلغ 48 ألف دولار، وفي المهن الأقل استخداماً للتقنيات الرقمية فتبلغ 30 ألف دولار فقط. ويرجع هذا، إلى حد ما، إلى حقيقة أن الوظائف الأكثر رقمية يشغلها موظفون على درجة عالية من التعليم. رغم ذلك، وجد الباحثون أنه حتى بعد مراعاة المتطلبات التعليمية، كانت الوظائف الأعلى رقمية أفضل أجوراً، كما أن أجورها ازدادت على مدى العقد الأخير.
بالطبع، هناك استثناءات. على سبيل المثال، إذا نقرت على النقاط البرتقالية العائمة في منتصف المقياس التفاعلي، ستلاحظ أن المهن الظاهرة تنتمي جميعها إلى مجال عمل واحد، وهو: الرعاية الصحية. فبداية من عام 2016، أصبحت تلك المهن (طبيب التخدير وطبيب الأسنان واختصاصي في الطب الباطني، وغيرها) ذات أجور عالية، رغم أنها ذات طبيعة رقمية بدرجة متوسطة فحسب، وهو ما يجعلها حالات شاذة من نوع ما. ولكن، حتى إن كانت المهن في مجال الرعاية الصحية ليست رقمية بدرجة كبيرة نسبياً، فإنها لا تزال إحدى أنواع المهن التي شهدت الارتفاع الأكبر في نسبة استخدامها للتقنيات الرقمية ما بين 2002 و2016. وقد يساعد الاعتماد واسع النطاق على تقنيات تعلم الآلة في تسارع وتيرة هذا التوجه.
تعكس العلاقة الترابطية بين الأجور والرقمنة فيما يتعلق بالمهن ما أفادت به تقاريرنا بشكل عام، وهو أن: الشركات التي تعتمد كثيراً على الرقمنة تتفوق في الأداء على بقية الشركات، وهي حقيقة تؤكدها الدراسات واحدة تلو الأخرى.
ولكن مثلما أن الشركات الأقل ذكاءً رقمياً تكافح لتستمر في البقاء، يواجه العاملون الأقل ذكاء رقمياً ركوداً أو انخفاضاً في الأجور ومستقبلاً غير مستقر. فقد صَنفت دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) معظم البالغين بأنهم "ذو كفاءة منخفضة" فيما يتعلق بقدرتهم على العمل في "بيئات تستخدم التكنولوجيا بكثافة". وأوضح الباحثون أنه في المتوسط "أكثر من 40% من هؤلاء الذين يستخدمون البرمجيات في العمل يومياً لا يمتلكون المهارات اللازمة لاستخدام التقنيات الرقمية بفاعلية". ولكن، إذا أصبحت المهارات الرقمية شرطاً إلزامياً للحصول على وظيفة بأجر مجزٍ، حينها لن يتمكن العديد من الأميركيين من الحصول على فرصة عمل.
وهذا الارتفاع في الطلب على المهارات الرقمية الذي يقابله تدنياً نسبياً في العرض هو السبب الرئيسي لعدم المساواة (وإن كان بعيداً عن اعتباره السبب الوحيد). فقد أوضح الباحثون في مؤسسة "بروكينغز" أن عملية "رقمنة اقتصاد الولايات المتحدة تسهم في تقويض واستقطاب الموظفين والأجور".
والعواقب المترتبة على ذلك بعيدة المدى، فعلى سبيل المثال، هذا الاستقطاب لا يظهر في أجور الموظفين فحسب، ولكن تحديداً في هؤلاء الذين يعملون جنباً إلى جنب معهم. وقد تطرق نيكولاس بلوم من جامعة "ستانفورد" (Stanford) في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (HBR) العام الماضي إلى هذا الأمر:
"مع تركيز الشركات على كفاءاتها الأساسية واستعانتها بمصادر خارجية لأداء أعمالها غير الأساسية، بدأ عالم الشركات في التمييز بين الشركات القائمة على كثافة المعرفة، مثل "آبل" (Apple) و"غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) و"ماكنزي" (McKinsey)، والشركات كثيفة العمالة مثل "سوديكسو" (Sodexo)، التي توفر الخدمات الغذائية وخدمات إدارة المرافق. فقد عُين العاملون الحاصلون على قدر كبير من التعليم، وأصحاب المهارات المرغوبة في قطاع المعرفة، مع حصولهم على أجور مرتفعة وامتيازات. أما بالنسبة للعاملين ذوي التعليم الأقل فقد حصلوا على وظائف في شركات كثيفة العمالة، حيث كانت الأجور ضعيفة أو حتى آخذة في الانخفاض، والمزايا مثل التأمين الصحي كان من الصعب كفالتها. غالباً ما يعمل الموظفون المنتمون لهاتين الفئتين من الشركات في المبنى نفسه، إلا أنهم لم يعودوا يسيرون في المسار المستقبلي نفسه. وعندما يحين وقت الاحتفال بمناسبة العطلات، لا يُرى الموظفون المكافحون الذين يعملون بعقود في أي مكان".
في الأساس، هؤلاء الذين يوجدون في الجانب "الصحيح" من الفجوة الرقمية، من المحتمل بدرجة أكبر أن يعملوا مع موظفين ناجحين ومزدهرين، والعكس بالعكس. لذا توقف لحظة لاستكشاف المهن التي تقع خارج فئة مهنتك في المقياس التفاعلي. فربما تمتلك تلك المهن القليل من السمات المشتركة مع مهنتك، ولكن هذا الاختلاف يستحق الاستكشاف ومحاولة التغلب عليه. يمكن أن تكون التكنولوجيا طريقاً مؤدياً إلى الازدهار، للكثيرين وليس فقط لقليل من الأشخاص، أو قد تُفرّق بين مَن كانوا يعملون جنباً إلى جنب، وتستقطب السياسات، وتترك خلفها مجموعة كبيرة من الأشخاص.