تبدو لحظات الاكتشاف المفاجئ كأنها ومضات من البصيرة، لأنها غالباً ما تظهر في فترة لا يركز فيها العقل على المشكلة، وهو ما يطلق عليه علماء النفس “فترة الحضانة” (أو عملية المعالجة اللاواعية للمشكلة)؛ المرحلة التي يبتعد فيها الإنسان عما يعمل عليه فترة وجيزة. يضع العديد من المبدعين أصحاب الإنتاجية العالية مشاريعهم جانباً عن قصد ويأخذون استراحة من عملهم لأنهم يؤمنون أن مرحلة الحضانة هي الفترة التي تبدأ فيها الأفكار بالتجمع تحت مستوى العقل الواعي، ويعمل البعض على عدة مشاريع مختلفة في وقت واحد معتقدين أنه بينما يركز عقلهم الواعي على مشروع واحد يحتضن عقلهم اللاواعي المشاريع الأخرى، والأفكار التي تأتي بعد فترة الحضانة هي ما نشعر أنها نتيجة للقوة المولِّدة للأفكار نفسها التي حرّكت نيوتن وأرخميدس.

وجد فريق من الباحثين، بقيادة صوفي إلوود، مؤخراً أدلة عملية على قوة فترة الحضانة لتعزيز الرؤية الإبداعية. قسَّم الباحثون 90 طالباً جامعياً يدرسون علم النفس إلى 3 مجموعات. وكلّفوا كل مجموعة بإجراء اختبار الاستخدامات البديلة، الذي يطلب من المشاركين سرد أكبر عدد يمكن أن يتخيلوه من الاستخدامات الممكنة لأشياء شائعة. في هذه الحالة، طُلب منهم سرد الاستخدامات الممكنة لقطعة من الورق. سيمثل عدد الأفكار المبتكَرة التي توصّل إليها الطلاب مقياساً للتفكير التباعدي، وهذا عنصر مهم للإبداع وخطوة كبيرة نحو إيجاد فكرة تُشعرنا بفرحة الاكتشاف.

عملت المجموعة الأولى على المشكلة 4 دقائق متواصلة، وقُوطعت المجموعة الثانية بعد دقيقتين وطُلب منها إيجاد مرادفات لكل كلمة من قائمة معينة (وهي مهمة أخرى تحتاج إلى إبداع) ثم مُنحت دقيقتين إضافيتين لإكمال الاختبار الأصلي، وقوطعت المجموعة الأخيرة بعد دقيقتين وطُلب منها إكمال اختبار مؤشر مايرز بريغز للأنماط (Myers-Briggs Type Indicator) (اعتُبرت مهمة غير ذات صلة)، ثم طُلب منها إكمال اختبار الاستخدامات البديلة الأصلي في دقيقتين إضافيتين. بغض النظر عن المجموعة، مُنح كل مشارك المقدار نفسه من الوقت (4 دقائق) للعمل على قائمة الاستخدامات الممكنة لقطعة الورق. تمكّن فريق الباحثين بعد ذلك من المقارنة بين الإبداع الناتج عن العمل المتواصل، والعمل مع فترة حضانة أُنجزت فيها مهمة ذات صلة، والعمل مع فترة حضانة أُنجزت فيها مهمة غير ذات صلة.

وجد الباحثون أن المجموعة التي مُنحت استراحة للعمل على مهمة غير ذات صلة (اختبار مايرز بريغز) هي التي توصلت إلى أكبر عدد من الأفكار، بمتوسط 9.8 أفكار، وحلّت المجموعة التي مُنحت استراحة للعمل على مهمة ذات صلة في المركز الثاني، بمتوسط 7.6 أفكار، أما المجموعة التي لم تُمنح أي استراحة وعملت 4 دقائق متواصلة فتوصلت إلى أقل قدر ممكن من الاستخدامات، بمتوسط 6.9 أفكار. أثبت فريق الباحثين صحة فكرة أن فترات الحضانة، حتى القصيرة التي لا تتجاوز بضع دقائق، تزيد الإنتاج الإبداعي للشخص زيادة كبيرة.

أحد التفسيرات المحتملة لهذه النتائج هو أنه عند مواجهة مشكلات معقدة، يتعثر العقل في كثير من الأحيان ويسلك مسارات معينة من التفكير مراراً وتكراراً؛ عندما تعمل على حل مشكلة ما بصورة مستمرة قد تركز على الحلول السابقة، وتُواصل التفكير في الاستخدامات نفسها لتلك القطعة من الورق بدلاً من التوصل إلى استخدامات جديدة. ولكن أخذ استراحة من المشكلة والتركيز على شيء آخر تماماً يمنح العقل بعض الوقت للتركيز على الحلول نفسها وترك المسارات القديمة تتلاشى من الذاكرة، وبذلك عندما تعود إلى المشكلة الأصلية يصبح عقلك أكثر انفتاحاً على الاحتمالات الجديدة، فتصل إلى لحظة الاكتشاف المفاجئ وتقول “وجدتها!”

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن بحثهم أعطى الأمل لذوي جداول المواعيد المزدحمة، تذكّر أن فريق إلوود وجد أن مجموعة المشاركين الذين انتقلوا إلى العمل على مهمة غير ذات صلة توصلوا إلى أكبر عدد من الأفكار، يشير هذا إلى توافر طريقة فعالة لحل أي مشكلة: الانتقال إلى مهمة غير ذات صلة بها ولكنها مرتبطة بالعمل. قد تكون هذه المهمة مشروع عمل مختلفاً تماماً أو عملاً عادياً (وهو الأفضل)، مثل الرد على رسائل البريد الإلكتروني أو تنظيف عدساتك اللاصقة. أي شيء يصرف ذهنك عن المشكلة الحالية ويمنحه استراحة من التفكير فيها سيعزز فرص وصولك إلى لحظة الاكتشاف المفاجئ عندما تعود إلى التفكير في هذه المشكلة. إذا كنت بحاجة إلى توليد فكرة إبداعية عند الطلب، فكّر في تنظيم يوم عملك بحيث تترك بعض المهمات العادية لإنجازها عندما تحتاج إلى “فترة حضانة”، وعندما تعود إلى ما كنت تعمل عليه، قد تصرخ قائلاً: “وجدتها!”