في وقت سابق من هذا العام، تجولنا في أروقة معرض "هانوفر" (Hannover Messe)، إحدى أكبر الفعاليات الخاصة بالجهات المصنعة في أوروبا. وتضمن المعرض أحدث الروبوتات، وأنظمة الطباعة ثلاثية الأبعاد، وأجهزة وخدمات التنقيب في البيانات البيانات، إلى جانب مجموعة من الأشخاص يروجون للثورة الصناعية الرابعة، وإنترنت الأشياء (IoT)، والتصنيع الرقمي، والبيانات الضخمة، والتحليلات المحوسبة المتقدمة. بدا المعرض كما لو كان الجميع، بداية ممن يعملون في شركات البرمجيات العملاقة المرموقة وصولاً إلى شركات تصنيع الأجزاء الصناعية الأساسية، يسوّقون لـ "أحدث اكتشاف تقني"، بالرغم من أن الأمر لم يكن يتجاوز مستشعراً جديداً ملحقاً بقطعة قديمة من المعدات، ولكن ماذا عن الوجه الخفي لعمليات التحول الرقمي؟
لقد كانت هناك منتجات رائعة طال انتظارها تُباع في المعرض مثل: صندوق أسود يمكن تركيبه في مصنعك لتحسين قدرتك التنافسية من تلقاء نفسه؛ وخوادم بيانات ضخمة وخوارزميات تخبرك تلقائياً كيف يمكنك إدخال تحسينات على عملياتك، دون أي استثمار إضافي في التصميم؛ ونظارات الواقع الافتراضي التي تعزز إنتاجية قوة العمل بمجرد ارتدائها.
وذلك يعيد إلى أذهاننا إعلانات القرن التاسع عشر عن براءات اختراع أدوية علاج جميع الأمراض.
هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن التكنولوجيا وحدها قادرة على إحداث نتائج مذهلة. لكن في الحقيقة، تتوقف النتائج على كيفية استخدام الناس لها، وتحديداً إذا استطاعوا تسخيرها لتعزيز المهارات والخبرات طويلة الأجل. وهذه هي المهمة الشائكة التي تواجه المؤسسات فيها مشكلات عادة. يتمتع توماس فروز، قائد شركة "أتلان-تيك سيستيمز" (atlan-tec Systems) لخدمات تحليلات البيانات والنمذجة، بخبرة 25 عاماً في مساعدة الشركات على تطبيق أسس التحليلات المحوسبة الحديثة. وقد لخص توماس المشكلة ببساطة كالآتي: "يمكننا أتمتة الرياضيات، ويمكننا أتمتة قرارات التصميم، لكننا لا نستطيع أتمتة التغييرات التي تطرأ على السلوك البشري".
إنها قصة مألوفة. فبالعودة إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر والتسعينيات منه، كان التصنيع المرن هو الفكرة الجديدة الرائجة على الساحة آنذاك، وبدا أن الجميع يحاول تعلم أدوات جديدة ذات أسماء يابانية. لكن توقفت جهود الكثير من الشركات الراغبة في أن "تصبح مرنة" عند الأدوات، في حين كانت الأفكار الكامنة وراء الأدوات هي التي تضفي المرونة من خلال مساعدة الأشخاص على أن يصبحوا أكثر كفاءة. أما المؤسسات الاستثنائية التي ظفرت بالنجاح، فقد فهمت أن المرونة تتطلب جهداً مضنياً يتضمن حدوث العديد من التغييرات في آن واحد، وتتركز بشكل رئيس على العامل البشري، كالنمذجة المثالية للسلوكيات الجديدة، وتحقيق الشفافية في التواصل، واحتضان القدرات الجديدة وتنميتها.
وحتى في هذه الآونة، يؤكد بحثنا أن نسبة قدرها 26% فقط من التحولات المؤسسية الكبيرة قد كُتب لها النجاح. وتتضمن التحولات القائمة على التقنية التزاماً مماثلاً: يؤكد فروز أن مساعدة الأشخاص على تعلم استخدام التحليلات المحوسبة بكفاءة يمكن أن تستغرق ما يصل إلى 75% من المخطط الزمني للمشروع، بينما يصبح الوقت المتبقي من نصيب المهام التقنية المتخصصة بتنقيح البيانات وتصميم النموذج.
إذن، ما السر الذي يساعد الشركات على التحول بنجاح والتماشي مع التقنيات الجديدة؟
إلى جانب عوامل نجاح التحول التقليدية المذكورة بالأعلى، لاحظنا 4 فروقات رئيسية بين الشركات الناجحة ونظيرتها التي لم يحالفها الحظ.
أولاً، منظور مركز
يمثل تحديد نقطة الانطلاق من بين آلاف حالات الاستخدام المحتملة مهمة شاقة، لكن بتحقيق التوازن بين التأثير المتوقع ودرجة التأهب التكنولوجي واحتمال النجاح، وقبول التغيير من قبل المؤسسة، يخلق ذلك عادة إطاراً أولياً فاعلاً. بالنسبة للجهات الفاعلة الصناعية، عادة ما تحوّل هذه المجموعة من المعايير الأنظار إلى محاور مثل الصيانة التنبؤية، والتخطيط الحديث، وبلوغ الحد الأمثل من المبيعات، وتكون جميع الوظائف التي تغطي أجزاء كبيرة من التكلفة أو قاعدة هامش الربح مُقاسة بدقة، وتظهر احتمالاً حدوث تحسينات تتفوق على نظيرتها الممكن تحقيقها باستخدام أساليب التحسين التقليدية.
ثانياً، مسار ذو سرعتين
إن تأسيس هيكل كامل لتكنولوجيا المعلومات أو بنية تحتية للأتمتة، يشبه تنصيب نظام تخطيط الموارد المؤسسية (ERP): إنه مهمة تستغرق سنوات عديدة وتكلف عادة مئات الملايين من الدولارات. ولتخطي هذه العقبة، تعكف الشركات الناجحة على استخدام استراتيجية أكثر مرونة تعتمد على الحلول المحلية لكي تستحوذ على قيمة سريعاً، بينما تبني تدريجياً هيكلاً لتكنولوجيا المعلومات، وبنية تحتية للأتمتة على المدى البعيد. ينشأ عن التأثير السريع إثارة وضجة، بينما يقدم في الوقت ذاته دروساً يمكن تدوينها ومشاركتها، لضمان نتائج أفضل للمؤسسة بأكملها.
ثالثاً، منصب "حلقة الوصل" لدعم فريق أكبر حجماً وأكثر تشعباً
إن اغتنام الفرص الرقمية يصبح وبشكل متزايد مهمة جماعية تتطلب عملاً جماعياً. بالإضافة إلى خبرات تكنولوجيا المعلومات وغيرها من الخبرات التخصصية المطلوبة لإتمام مشروعات تكنولوجيا المعلومات الكبيرة في السابق، فإن الجهود المبذولة اليوم في المجالات المعقدة مثل التصنيع المُنتج للموارد، أو الصيانة التنبؤية، تستلزم خبرة كبيرة في عمليات الإنتاج وعلم البيانات وإدارة التغيير.
لهذا السبب أنشأت بضع شركات منصباً جديداً مخصصاً لإدارة التواصل بين جميع الجهات المنخرطة في المشروع وهو منصب حلقة الوصل. يخدم هذا المنصب المحوري كجسر يصل بين العملية الجارية وخبراء تكنولوجيا المعلومات وعلماء البيانات في أثناء تشييد بنية تحتية جديدة لتكنولوجيا المعلومات بغرض إتاحة تطبيق استخدامات تحليلية جديدة. وفور أن يصبح مُصمم العملية ملماً بالبرمجيات الجديدة، وبعد أن يتم اختيار دراسات الجدوى التجارية المستقبلية، يمكن للشخص القائم بدور حلقة الوصل أن ينتقل إلى العملية التالية أو الموقع التالي المراد تحويله.
رابعاً، مسؤولية مساعدة الأشخاص على التغيّر
من الأهمية بمكان أن نتوقع مخاوف الناس حول هذه الابتكارات، وأن نجهز حجة مُقنعة لكسب تأييدهم للأسلوب الجديد، وهذا لأن هذه الابتكارات قد تؤثر كثيراً على آلية عمل هؤلاء الأشخاص. فمثلاً، صممت إحدى الشركات الكبيرة في قطاع تشغيل القطارات حلاً حديثاً قائماً على التحليلات المحوسبة بغرض فهم العطل الذي يطرأ على مجموعة كبيرة من البطاريات في أحد نماذج قطاراتها بشكل أفضل. ويمثل تصميم الحل التقني الجزء السهل: بيانات المستشعر تنبأت وبدقة بالعطل قبل أسابيع من حدوثه فعلياً. وعليه، استطاعت الشركة التخلي عن الدورة الروتينية (والمُهدرة للموارد) المتمثلة في تغيير البطاريات كل عامين.
أما التحدي الحقيقي، فتمثل في تأثيرات ذلك القرار على الموظفين. فبدلاً من قيام فرق العمل الكبيرة بتغيير البطاريات في ورش مركزية، أصبح بمقدور فرق صغيرة تبديل البطاريات على أرض الميدان حسب الحاجة. وسيؤدي هذا إلى توفير فائض في السعة البشرية يمكن استغلاله في مهمات الصيانة الأخرى، لكن قد يؤدي أيضاً إلى فسخ اتفاقات العمل المُبرمة طويلة الأجل. ولهذا السبب تطلبت عملية التفكير في كيفية تسخير الموظفين داخل إطار الحل الجديد، وتحديد الفوائد التي قد تطال الموظفين، قدراً هائلاً من الجهد مقارنة بالجهد المبذول في تصميم الحل التقني. لكن استطاعت الشركة رفع مستوى الرضا لدى موظفيها من خلال تسليط الضوء على المرونة الأكبر التي يضفيها النموذج الجديد، وفرص التعلم الجديدة المصاحبة له، وأوجه التقدم الناتجة عنه، بل إنها استطاعت تحقيق وفورات كبيرة في التكلفة. وفي نهاية المطاف، لعب المزيج المؤلف من التحليلات المحوسبة وخبرات العامل البشري دور العامل الحاسم؛ من خلال السماح للموظفين بقضاء قدر أكبر من الوقت في أداء مهمات استُغلت فيها مواهبهم ومهاراتهم بشكل أفضل.
إذن، فعندما يفكر القادة في الوجه الخفي لعمليات التحول الرقمي والأولويات الرقمية لمؤسستهم - أي استراتيجيتها الرقمية - يجب عليهم تحديد التكنولوجيات والطرق المنشود تطبيقها، التي سيكون لها أعظم تأثير ممكن عليهم. لكن عليهم الحرص أيضاً على تخصيص وقت كافٍ لمواجهة العوائق التي تواجههم في الطريق نحو التأقلم. يجب عليهم وضع خطة لمساعدة الموظفين على استخدام التكنولوجيات الجديدة، والمنهجيات الجديدة المرتبطة بها، بطريقة أكثر كفاءة وفاعلية. تذكر أن التكنولوجيا وحدها ليست حلاً سحرياً، لكن الثروة البشرية - الأفراد والموظفين - الذين يستخدمونها في عملهم اليومي هم من يضفون عليها قيمة إضافية.