من الواضح أن ظاهرة الهجرة على المستوى العالمي في تزايد مستمر. فبحسب أحد التقديرات، بلغ عدد المهاجرين في العام 2015 على مستوى العالم 244 مليون شخص، في ازدياد واضح قياساً إلى العدد 222 مليون في العام 2010، والعدد 173 مليون في العام 2000. ولا يقتصر أثر الهجرة على زيادة عدد السكان في البلد المستهدف؛ بل يتعدى ذلك إلى زيادة التنوع الديموغرافي والثقافي، وبخاصة عندما يأتي المهاجرون من بلدان بعيدة.
ومع تزايد الهجرة وما ينتج عنها من ازدياد في التنوع الثقافي، من غير المفاجئ أن تشكل التبعات الاقتصادية للهجرة والتنوع موضوعاً لنقاشات حامية في الدوائر السياسية. وفي الواقع، ما تزال مسألة تحديد ما إذا كانت المزايا الاقتصادية للتنوع الثقافي تفوق تكاليفه، تثير جدلاً حامياً وخلافاً في الرأي بين المتخصصين.
فقد وجدت بعض الدراسات أن التنوع قد يقوض الثقة بين الأفراد والتلاحم الاجتماعي بين المجموعات المختلفة. فضلاً على ذلك، قد يسبب عدم التجانس في مكان العمل مشاكل في التواصل والتنسيق، ويمكن أن يؤدي اختلاف اللغة والحواجز الثقافية إلى زيادة تكاليف المعاملات والصفقات التجارية. ولذلك، فإن ازدياد التنوع مرتبط بانخفاض الإنتاجية، ما يشكل عائقاً أمام الاقتصاد ليعمل بكفاءة تشغيلية مرتفعة. ولكن يمكن للتنوع في المعايير الاجتماعية والعادات والأخلاقيات أن يغذي الإبداع التكنولوجي وانتشار الأفكار الجديدة، وبالتالي إنتاج تنوع أكبر في البضائع والخدمات. وعلى مستوى فريق العمل، من المرجح أن يضمن التنوع الأكبر في السمات والصفات والميزات المتوفرة ضمن أفراد الفريق توفر تلك السمات التي يحتاجها كل فرد لتكمل سماته وميزاته. ولذلك من شأن الفريق الغني بالخبرات والتجارب ووجهات النظر المختلفة أن يحقق نتائج أفضل للمؤسسة كلها.
ولكن كيف يبدو الأمر على مستوى البلد الواحد؟ في دراسة أجريناها مؤخراً طرحنا السؤال التالي: هل يعد التنوع الناجم عن الهجرة أمراً جيداً للنمو الاقتصادي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، قمنا بحشد كم كبير من البيانات حول الهجرة العالمية منذ العام 1960 حتى العام 2010، مستخدمين المعلومات عن جنسية المهاجرين لإنشاء مؤشرات حول تنوع مكان الولادة.
ولقد قسنا بالنسبة لكل بلد ولكل تعداد سكان، ما أسميناه سوية التشتت، وهو احتمال أن يكون شخصان مختاران من السكان عشوائياً قد ولدا في بلدين مختلفين. فالسويات المرتفعة من التشتت تشير إلى درجات أعلى من التنوع. علاوة على ذلك، حسبنا ما أسميناه مؤشر الاستقطاب، أي إلى أي حد يمكن عد سكان البلد المعني مؤلفين من مجموعتين متساويتين في الحجم. ولكي نعطي بعض الأمثلة نذكر هنا أن من بين أكثر البلدان تشتتاً في العام 2010 كانت الكويت والسعودية وسنغافورة؛ في حين كانت الصين وإندونيسيا والفيلبين والصومال من بين الدول الأقل تشتتاً. وقد كانت أكثر الدول استقطاباً في تلك السنة لوكسمبورغ وسنغافورة وغالبية الدول في شبه الجزيرة العربية مثل البحرين وعمان والسعودية، في حين كانت أقل الدول استقطاباً الصين وإندونيسيا وليسوتو والصومال.
ولكن بما أن النمو الاقتصادي المرتفع يجذب عدداً أكبر من المهاجرين ومن بلدان كثيرة ومختلفة ثقافياً، واجهنا صعوبة في تحديد ما إذا كانت ظاهرة الهجرة وما تجلبه معها من تنوع هما من مسببات النمو الاقتصادي، أم من تبعاته. ومع أن نموذجنا لم يدخل في حساباته المسائل التي يصعب تحديد حجمها وملاحظتها، كالسياسات الخاصة بالهجرة، فإن سياسات الأبواب المفتوحة من المرجح أن تترافق مع كل من الأداء الاقتصادي الجيد والسويات المرتفعة من التنوع على حد سواء. ولا شك أن استبعاد مثل هذه العوامل المهمة قد يقود إلى استنتاجات خاطئة.
وللالتفاف على بعض هذه المسائل، أنشأنا مؤشرات متوقعة للتنوع باستخدام متحولات كالبعد الجغرافي والتاريخ الاستعماري أو وجود لغة مشتركة بين بلد المنشأ وبلد الوجهة. ولقد أتاحت لنا هذه الطريقة إنشاء مؤشرات للتنوع بناء على المميزات الخارجية المستقلة عن النمو الاقتصادي وعن المميزات الأخرى الخاصة بكل بلد التي لا يمكن ملاحظتها، مثل وجود سياسات خاصة بالهجرة. ولقد تمكنا بذلك من عزل جانب الترابط القائم بين التنوع والنمو الاقتصادي الناتج عن الأثر السببي المباشر للتنوع وإبعاد جانب الترابط المرتبط بمتغيرات مهمة أخرى لا يأخذها النموذج بالحسبان.
وتشير نتائجنا التجريبية إلى أن لعدم التجانس الثقافي، المقاس إما من خلال مؤشر التشتت أو مؤشر الاستقطاب، تأثير إيجابي واضح على إجمالي الناتج المحلي على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال، عندما يزداد مؤشر نمو التشتت في الفترة بين عامي 1960 و2010 بنسبة 10%، يزداد معدل نمو حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي بحوالي 2.1% (وهذا هو الأثر المتوسط المحسوب لجميع بلدان العالم).
ولكننا نتوقع أن يؤدي التنوع أدواراً مختلفة في كل مرحلة من مراحل التطور. وبما أن البلدان الغنية أقرب إلى حدود التقدم التكنولوجي من البلدان الفقيرة، فإن تبني التكنولوجيات الجديدة من المتوقع أن يكون أسرع في الاقتصادات النامية منه في الاقتصادات المتقدمة، ومن المتوقع أن تتطور مهارات ومعارف القوى العاملة بقدر أكبر في البلدان النامية منها في البلدان المتقدمة. وبعبارة أخرى، كلما كان البلد المستهدف أكثر تطوراً، قلّ الأثر الاقتصادي المتوقع لظاهرة الهجرة.
ولاختبار مدى صحة هذا التوقع قسّمنا مجموعة البلدان الكاملة إلى مجموعتين جزئيتين اثنتين: مجموعة الاقتصادات المتقدمة ومجموعة الاقتصادات النامية، ومن ثم كررنا حسابات النماذج السابقة. وجدنا أن احتمال حدوث ازدياد سريع في نمو إجمالي الدخل المحلي في الاقتصادات النامية بعد ازدياد نسبة تنوع سكانها أكثر منه في الاقتصادات المتقدمة. وتشير تقديراتنا في الفترة من 1960 إلى 2010 إلى أن ازدياد مؤشر نمو التشتت (أو الاستقطاب) بنسبة 10% يؤدي إلى نمو إنتاجية الفرد بنسبة 2.8% في البلدان النامية (وهي أعلى من وسطي النمو على المستوى العالمي المذكور أعلاه بمقدار 0.7%). ويشير النموذج نفسه إلى أن أثر التنوع في الاقتصادات المتقدمة أضعف بكثير. ويمكن اختصار ما سبق بالقول إن الاقتصادات النامية هي المستفيد الأكبر من التنوع.
وبالطبع هنالك حدود لإمكانية تطبيق نموذجنا التحليلي. فقد أخذنا بالحسبان فقط جنسية الأشخاص المهاجرين، ولم ننظر إلى عرقهم أو لغتهم أو نوع جنسهم أو سوية تعليمهم أو دينهم. إلى جانب أننا قد حصرنا دراستنا على مستوى البلدان ولم ننظر في آثار الهجرة على المؤسسات والشركات.
وعلى العموم، تشير نتائج بحثنا إلى أن التنوع الناجم عن الهجرة يعد أمراً جيداً للنمو الاقتصادي. ولعل النصيحة الأساسية التي يمكن للقادة السياسيين وقادة الشركات استخلاصها من نتائج هذا البحث، هي أنه يتعين عليهم زيادة الانفتاح على توظيف أشخاص ينتمون إلى أكبر عدد ممكن من الجنسيات، وذلك لجني الفوائد الكبيرة لامتلاك طيف واسع من المهارات والأفكار والحلول الخلاقة.