بات الكثيرون منا يعانون الحرمان من النوم حرفياً في عالمنا هذا الفائق الترابط الذي لا يكف عن الصخب على مدار الساعة. وتوصّل استقصاء كنا قد أجريناه بمشاركة أكثر من 180 قائد شركة إلى أن 4 من كل 10 قادة (43%) يقولون إنهم لا ينعمون بقسط كافٍ من النوم 4 ليالٍ على الأقل في الأسبوع الواحد. وقد يؤدي هذا الحرمان من النوم إلى تقويض الأسس المهمة للسلوكيات القيادية والإضرار بالأداء المالي في النهاية. تسلّط هذه المقالة الضوء على العلاقة بين النوم والقدرات القيادية قبل مناقشة الحلول التي تسهم في تحسين الرفاهة الفردية والكفاءة والفعالية المؤسسية.

العلاقة بين النوم والقيادة المؤسسية

كان آخر جزء يلحق بقطار التطوُّر في دماغ الإنسان هو القشرة الحديثة (Neocortex)، وهي جزء من القشرة المخية مسؤول عن وظائف مثل الإدراك الحسي والأوامر الحركية واللغة. يختص الجزء الأمامي من القشرة الحديثة، أو ما يُعرف باسم قشرة الجبهة الأمامية (Prefrontal Cortex)، بتوجيه ما يطلق عليه علماء النفس الوظائف التنفيذية التي تشمل جميع العمليات الإدراكية العليا، مثل حلّ المشكلات والاستدلال المنطقي والتنظيم والتثبيط والتخطيط وتنفيذ الخطط. وتساعدنا هذه العمليات على إنجاز المهام.

لطالما عُرف أن السلوك القيادي يعتمد على إحدى هذه الوظائف التنفيذية على الأقل (وأكثر من وظيفة واحدة غالباً)، وبالتالي يعتمد تحديداً على قشرة الجبهة الأمامية. يدرك علماء الأعصاب أنه على الرغم من قدرة مناطق أخرى في الدماغ على إجادة التعامل نسبياً مع الحرمان من النوم، فإن قشرة الجبهة الأمامية لا تجيد التعامل معه؛ إذ تتدهور المهارات البصرية والحركية الأساسية عندما يتعرّض المرء للحرمان من النوم، ولكن ليس بدرجة تدهور المهارات العقلية العليا على وجه التقريب.

وقد أبرز بحث ماكنزي السابق وجود علاقة ترابطية قوية بين الأداء القيادي وصحة الموظفين في المؤسسة، وهو ما يُعد في حد ذاته مؤشراً قوياً على صافي الأرباح الذي يُتوقَّع تحقيقه في نهاية المطاف. وفي دراسة منفصلة شملت 81 مؤسسة و189,000 شخص على مستوى العالم، وجدنا أن هناك 4 أنواع من السلوكيات القيادية الأكثر شيوعاً التي ترتبط بفرق العمل التنفيذية العالية الجودة، وهي: العمل المصحوب بتوجهات قوية لتحقيق النتائج، وحل المشكلات بفعالية، والبحث عن وجهات نظر مختلفة، ودعم الآخرين. واللافت للنظر في الحالات الأربع هو العلاقة المؤكدة بين النوم والقيادة الفعّالة.

العمل المصحوب بتوجهات قوية لتحقيق النتائج

من أجل تحقيق هذه الغاية على الوجه الأكمل، يجب التحلي بالتركيز وتجنب المشتتات مع رؤية الصورة الأشمل في الوقت نفسه، التي توضّح إذا ما كانت شركتك تسير في الاتجاه الصحيح أم لا. ويؤثر الحرمان من النوم سلباً في القدرة على انتقاء الجوانب التي يجب توجيه التركيز إليها؛ فقد أثبتت الأبحاث أن مستوى أداء الفرد الذي يظل مستيقظاً مُدة 17 إلى 19 ساعة متواصلة (ولنفترض مثلاً أنه استيقظ في الساعة 6 صباحاً ويحاول أداء مهمة معينة في الساعة 11 مساءً أو 1 بعد منتصف الليل، دون أن ينال قسطاً من النوم خلال هذه المدة) يقل بشكل عام. وبعد الاستيقاظ مدة 20 ساعة متواصلة (حتى الساعة 2 صباحاً) سيقل مستوى أداء الفرد بصورة ملحوظة.

حل المشكلات بفعالية 

النوم مفيد للعديد من الوظائف الإدراكية التي تساعدنا على حل المشكلات بفعالية، بما في ذلك القدرة على التوصل إلى رؤى ثاقبة وتمييز الأنماط والتوصل إلى أفكار إبداعية ومبتكرة. فقد أثبتت إحدى الدراسات أن الحصول على قسط وافر من النوم العميق ليلاً يؤدي إلى التوصل إلى رؤى ثاقبة جديدة؛ إذ ثبت أن أفراد العيّنة البحثية الذين نعموا بنوم عميق كانت فُرصهم في اكتشاف طرق مختصرة لأداء المهام أكبر بمقدار الضعف مقارنة بنظرائهم الذين لم ينعموا بنوم عميق. وبالمثل، فقد ثبت أن قيلولة فترة الظهيرة تساعد المرء على التوصل إلى حلول مبتكرة للمشكلات؛ فقد ثبت أن هؤلاء الذين أخذوا قيلولة بعد مواجهة مشكلة في إحدى ألعاب الفيديو كانت فُرصهم في حل المشكلة أكبر بمقدار الضعف مقارنة بنظرائهم الذين بقوا مستيقظين. كما أثبتت أبحاث أخرى أن فُرص اختمار التفكير الإبداعي تزداد في أثناء الأحلام، ما يعزز تكامل المعلومات غير المترابطة ويزيد فُرص الوصول إلى حلول إبداعية.

البحث عن وجهات النظر المختلفة

سلّط الكثير من الدراسات العلمية الضوء على أثر النوم على مراحل عملية التعلم الثلاث: ما قبل التعلم من أجل تشفير المعلومات الجديدة؛ ما بعد التعلم في مرحلة الترسيخ عندما يشكل الدماغ روابط جديدة؛ ما قبل التذكر لاستعادة المعلومات من الذاكرة. تمثّل هذه العمليات أهمية حيوية للقدرة على البحث عن وجهات النظر المختلفة وتشفيرها وترسيخها. ثمة نقطة أخرى لا بد من أخذها بعين الاعتبار وهي القدرة على الموازنة بين الأهمية النسبية للمعطيات المختلفة بدقة، لتجنب المنظور الضيق والحد من التحيّز المعرفي. ثبت أن النوم يسهم في تحسين عملية صناعة القرار في هذه الحالات، كالمهام التي تتعلق مثلاً بمحاكاة الحياة الواقعية، ما يستلزم دمج استجابات عاطفية متعددة. ويدعم العلم النصيحة المتداولة بكثرة بين الناس التي تقول: “بدلاً من صناعة قرار مهم أو إرسال رسالة إلكترونية حساسة في وقت متأخر من الليل، يجب عليك نيل قسط من النوم”.

دعم الآخرين 

إذا أردت أن تساعد الآخرين، فعليك أن تفهمهم أولاً. قد يتطلب ذلك تفسير تعبيرات وجوههم أو نبرة صوتهم. لكن في حالة الحرمان من النوم تزداد فُرص إساءة تفسير الدماغ لهذه الدلائل والمبالغة في رد الفعل تجاه الأحداث العاطفية، وفي هذه الحالة تميل إلى التعبير عن مشاعرك بطريقة وبنبرة صوت سلبيتين. فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن مَنْ لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم لا يثقون في الآخرين بالدرجة المطلوبة. كما توصلت تجربة أخرى إلى أن الموظفين لم يشعروا بالاندماج في بيئة عملهم عندما عانى قادتهم الحرمان من النوم الهانئ في الليلة الماضية.

ما الذي يمكن للمؤسسات فعله؟

كيف تحسِّن المؤسسات جودة النوم وكفاءته لضمان وصول قادتها لأعلى مستويات الأداء أو استعادتهم لمستوياتهم المتميزة المعروفة عنهم في السابق؟ عملنا في شركة ماكنزي للإجابة عن هذا السؤال بالتعاون مع زملائنا إلى جانب عدد من قادة الشركة. وكانت من بين توصياتنا، هاتان النصيحتان:

  • تطوير برامج تدريبية تركز على زيادة الوعى وخلق تغيير سلوكي طويل الأمد. ونستطيع أن نؤكّد من واقع خبرتنا العملية أن برامج التعلم المختلطة حول أهمية النوم قد تؤدي إلى إحداث أثر إيجابي على الرفاهة.
  • إعادة النظر في سياسات الشركة وإعادة صياغتها لضمان تشجيع الموظفين على نيل قسط وافر من النوم ليلاً، أو عدم تثبيط الراغبين في نيله على الأقل. راجع السياسات التي تتناول السفر والرسائل الإلكترونية (مثل تخصيص وقت محدّد لتلقي الرسائل الإلكترونية وعدم السماح بإرسال أي رسائل بعده)، والعمل بروح الفريق (إنشاء فِرق مختلطة تُمكّن الموظفين من العمل يداً بيد ضمن المناطق الزمنية المختلفة)، وحدود زمن العمل (تحديد الحد الأقصى لساعات العمل أو تخصيص فترات زمنية يُحظَر فيها ممارسة العمل)، والإجازات الإلزامية الخالية من العمل، والإجازات المتوقعة، وغرف القيلولة والتكنولوجيا الذكية التي تؤدي إلى تحسن إدارة النوم.

ودعونا نكن أول من يعترف بحقيقة أن موظفينا لا يطبّقون دائماً ما ننصح به. وعلى أي حال، لا يسع أنواع معينة من المؤسسات أن ينفّذ هذه الأفكار دون إجراء تغيير موازٍ في الثقافة المؤسسية الأساسية.

وبخلاف حصول القادة على قسط أوفر من الراحة وبالتالي ازدياد فعاليتهم، ثمة سبب آخر للتركيز على النوم وهو أنه يحد من فُرص إصابة القادة بالاحتراق الوظيفي. وقد أثبتت دراسة حديثة أجرتها كلية هارفارد للطب أن 96% من كبار القادة المشاركين في الدراسة ذكروا أنهم يعانون درجة على الأقل من الاحتراق الوظيفي. ووصف ثلثهم حالتهم بأنها أقصى درجات الاحتراق الوظيفي. ثمة الكثير من الأدلة الدامغة على وجود علاقة ثنائية الاتجاه بين النوم والتوتر: يؤدي الحرمان من النوم إلى زيادة ردود الفعل الانفعالية، ويؤدي التوتر إلى سوء جودة النوم. بالإضافة إلى ذلك، تبيّن أن الحرمان من النوم مؤشر رئيسي على تراجع الشعور بالاندماج في بيئة العمل. وقد حان الوقت للمؤسسات أن تتوصّل إلى طرق لمجابهة خسارة الموظفين وضعف الإنتاجية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية نتيجة الحرمان من النوم.