أي نوع من منظومات ريادة الأعمال نحتاج إليه؟ بصفتي رائدة أعمال سابقة (اشتريت شركتي من مؤسسيها مقابل 10 ملايين درهم إماراتي ثم بعتها للموظفين عندما غادرت للعمل أستاذة جامعية)، فأنا مهتمة جداً بكيفية ضمان ازدهار رواد الأعمال. تشهد دول مجلس التعاون الخليجي انتشاراً كبيراً للشركات الناشئة، وتشجع دوله جميعها ريادة الأعمال وتدعمها. في حين يُطلق على الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص لقب "وادي السيليكون في الشرق الأوسط" بالنظر إلى الازدهار الواسع للشركات الناشئة فيها، فمن المنصف القول إن جميع دول مجلس التعاون الخليجي تشهد أيضاً ازدهاراً للشركات الناشئة وتتمتع بمنظومة استثمارية مزدهرة وبثروة من الموارد الداعمة مثل ورش العمل وحاضنات الأعمال والموجهين ومساحات العمل المشتركة.
ومع ذلك، ثمة ثغرات في هذه المنظومة، وفي هذه المقالة، سأركز على 3 منها على وجه الخصوص؛ المالية والثقافية، وتتعلق الأخيرة بالمواهب. التحديات المالية موثقة جيداً، وكذلك نقص المواهب أيضاً، وسأناقش هذه التحديات بمزيد من التفصيل لاحقاً في المقالة. أولاً، أعتقد أن التحدي الخفي الذي لم يُناقش على نطاق واسع لإنشاء منظومة ريادة الأعمال قد يكون ثقافياً: هل يُحتضن الفشل في الشرق الأوسط كما هو الحال في وادي السيليكون؟ بعبارة أخرى، هل يُنظر إلى فشل الأعمال التجارية هنا باعتباره فرصة للتعلم ونتاجاً ثانوياً طبيعياً للتجربة؟ أم يعتبر فشلاً محضاً؟
أعتقد أن تطوير منظومة حقيقية لريادة الأعمال يحتاج إلى بناء رغبة حقيقية في المخاطرة وتقبل الفشل. يجادل كتاب "المؤسسة الجريئة" (The Fearless Organisation) الذي ألّفته إيمي إدموندسن بأن الحديث المنفتح حول الفشل يسرّع التعلم والابتكار، وقد تعلمت ذلك بالفعل من تجربتي في إنشاء حاضنة أعمال في جامعة هيريوت وات في إدنبره التي أطلقناها عام 2018، وكان من أول المنتسبين إليها شاب يعمل باحثاً في كلية الهندسة لدينا. أراد الشاب بدء عمل تجاري في وقت فراغه يقوم على فكرة إنشاء منتج يساعد الناس الذين يعيشون في منازل صغيرة على تخزين أدواتهم بطريقة أنيقة ومريحة، بحيث يسمح لهم باستخدام طاولة المطبخ لأي مشروع قد يعملون عليه، ومن ثم ترتيب الأدوات فيه ونقله بعيداً بحيث يمكن للعائلة استخدام الطاولة لتناول العشاء، كما يساعد هذا المنتج في الحفاظ على الأدوات بعيداً عن متناول الأطفال الصغار.
أدرك رائد الأعمال الشاب بعد أقل من عام أن سوق فكرته التجارية الأولى "إنشاء مجموعة لترتيب الأدوات للمخترعين في المنزل" محدود جداً، وتقبّل فشل عمله التجاري هذا وتحول إلى اتجاه جديد. مستفيداً من فشله، بحث بوعي عن منتج جديد يتمتع بسوق مستهدفة كبيرة يمكن الوصول إليه، وكان مشروعه التالي إنشاء جهاز محمول للطاقة الشمسية سهل الحمل والتركيب يمكن استخدامه لتسخين المياه في أماكن ضيقة، مثل حمامات السباحة الخاصة ذات التصميم الأوروبي وحتى المساكن الصغيرة في إفريقيا جنوب الصحراء. نجح هذا المنتج وأصبح يُنتج ويوزع على نطاق واسع.
تتمثل إحدى طرائق تحسين منظومة ريادة الأعمال في إنشاء ثقافة يُنظر فيها إلى فشل الأعمال على أنه فرصة للتعلم، وثمة طريقة أخرى تتمثل في توفير تمويل أكبر لأسهم رأس المال يمكن الوصول إليه بسهولة من خلال مسارات واضحة وبسيطة.
للوهلة الأولى، لا يبدو أن ثمة مشكلة في وصول الشركات الناشئة إلى التمويل على الرغم من أن الدراسات الاستقصائية تدعي أنها تواجه صعوبة في ذلك. إذ أصبح الاستثمار الملائكي أكثر رسوخاً في دول مجلس التعاون الخليجي، وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الاقتصاد عام 2022، برزت الإمارات العربية المتحدة باعتبارها السوق الأكثر جاذبية في المنطقة لرأس المال المغامر (الجريء) باستثمارات بلغت نحو 4.3 مليارات درهم إماراتي في الشركات الناشئة، وهو رقم قياسي جديد للبلاد. وكشف التقرير عن مشاركة غير مسبوقة للمستثمرين الإقليميين والعالميين في أسواق وقطاعات مختلفة، حيث تجاوزت الإمارات العربية المتحدة لأول مرة عتبة المليار دولار من استثمارات رأس المال المغامر في الشركات الناشئة، واعتباراً من ديسمبر/كانون الأول عام 2022، كان هناك 377 صندوقاً لرؤوس الأموال المغامرة في الإمارات العربية المتحدة.
لا يقتصر الاستثمار الملائكي في دول مجلس التعاون الخليجي على دولة الإمارات العربية المتحدة فقط، ففي المملكة العربية السعودية والبحرين، تشكّل مجموعة عقال (OQAL)، التي تضم مجموعة من المستثمرين الرواد في الشركات الناشئة، حلقة وصل بين مؤسسي الشركات الناشئة الرائدة والابتكارية بالمستثمرين الملائكة ذوي الخبرة لمساعدتهم في تطوير شركات رائدة تسهم في نمو الاقتصاد والمجتمع ورفاهتهما. تعد مجموعة مستثمري الرياض الملائكيين (Riyadh Angel Investors) مثالاً لمستثمري الشركات الناشئة المؤلفة من أعضاء فرديين، لكننا نحتاج إلى المزيد مثل هذه الشركات، وأود الإشارة إلى شركة أدجوفو (Adjuvo) في المملكة المتحدة التي أنشأها مارك فوستر براون بصفتها مثالاً على شبكات المستثمرين الملائكة التي أتمنى رؤيتها في الإمارات العربية المتحدة؛ تقول هذه الشبكة إن أعضائها الـ 120 يستثمرون بناءً على "الهدف والشغف والمهارة"، وأتمنى أن تحذو جميع الشركات المماثلة في دول مجلس التعاون الخليجي حذوها.
والأهم من ذلك، يجب على منظومة ريادة الأعمال في دول مجلس التعاون الخليجي جذب مستثمرين عالميين بارزين لتحقيق الازدهار، فأنا لا أرى وجوداً لمكاتب أشهر شبكات المستثمرين العالمية، مثل سيكويا (Sequoia) وجنرال أتلانتيك (General Atlantic)، في دول مجلس التعاون الخليجي، بالمقابل، نرى لها وجوداً بالفعل في جنوب شرق آسيا والهند. نحتاج إليها هنا!
أخيراً، أتمنى رؤية تطور أكبر للمواهب. تُخرّج دول مجلس التعاون الخليجي المهندسين والأطباء والمحاسبين، لكن تعليم ريادة الأعمال ليس متطوراً كما ينبغي إذا أرادت المنطقة الاستفادة من أقصى طاقاتها الاقتصادية. أتطلع إلى كلية بابسون في الولايات المتحدة بصفتها مثالاً للجامعة التي تركز على تعليم ريادة الأعمال، وأشعر بالتفاؤل لدورها في تطوير كلية الأمير محمد بن سلمان للإدارة وريادة الأعمال في المملكة العربية السعودية. وعلى القدر نفسه من الأهمية، تحتاج المنطقة إلى جذب الأشخاص الذين يمكنهم العمل في الجامعات وتطويرهم لدعم التسويق الفعال للملكية الفكرية، وذلك ضروري إذا أردنا تعزيز الابتكار.
تتسم منظومات ريادة الأعمال، بغض النظر عن نوعها، بخاصيتين أساسيتين؛ فهي معقدة وتفاعلية. بمقدورنا تحديد الثغرات ومعالجتها من خلال تخطيط منظومتنا لريادة الأعمال، وتقبّل الفشل وتوسيع الاستثمار الملائكي والتركيز على المواهب هي ثغرات يمكننا جميعاً الإسهام في سدها.