في أوائل يونيو/حزيران، وبدعوة من اللجنة الأوروبية في "بروكسل" (بلجيكا)، قمت بجولة في بعض مشروعات الذكاء الاصطناعي والمشروعات المعتمدة على فكرة سلسلة الكتل (بلوك تشين) المبهرة التي تمولها اللجنة من أجل معرفة دور التقنية في تحسين الرعاية الصحية في أفريقيا. وخلال القطاعات الصناعية المختلفة، بداية من الرعاية الصحية وحتى الطاقة، ومن الإنشاءات إلى تجارة التجزئة، يبتكر المهندسون تقنيات جديدة من المحتمل أن تكون لها تبعات مزعزعة للمعمارية الحالية للاقتصاد العالمي. وثمة واحدة من تلك التقنيات، ألا وهي "طبيب الذكاء الاصطناعي"، تُبشر بمستقبل واعد للرعاية الصحية في أفريقيا.
دور التقنية في تحسين الرعاية الصحية في أفريقيا
يُعرف هذا الحل التقني باسم كير أيه آي (CareAi)، وهو عبارة عن نظام حاسوبي يعمل بالذكاء الاصطناعي ويرتبط بواحدة من سلاسل الكتل، وبوسعه تشخيص الأمراض المعدية، كالملاريا وحمّى التيفود والسل خلال ثوان معدودات. ولقد صُممت هذه المنصة كي تخدم الشريحة الخفية للمهاجرين، والأقليات العرقية، والأشخاص غير المسجلين ضمن منظومة الرعاية الصحية التقليدية. ومن خلال المزج بين الذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل، يستغل كير أيه آي بنية الرعاية الصحية الموزعة والمجهولة المصدر لتقديم خدمات صحية للمرضى دون ذكر الأسماء. وييسر ذلك حصول تلك الفئات المستترة على الرعاية الصحية الأساسية والمعلومات السياقية المفيدة دون الكشف عن هويات أفرادها خشية الترحيل. وهذا أمر مهم، إذ إنه من دون الوصول إلى الخدمات الصحية، ربما مثّلت تلك المجتمعات أخطاراً صحية على السكان على نطاق أوسع.
اقرأ أيضاً: كيف تغذي السجلات الطبية الإلكترونية الابتكار والإبداع في مجال الرعاية الصحية؟
ويتألف كير أيه آي من ثلاثة مكونات كما يلي: الجهاز ووخز الإصبع ومختبر على شريحة، وهي تقنية متطورة ابتكرها أصلاً جورج وايتسايدز (George Whitesides)، أستاذ الكيمياء بجامعة هارفارد. ولاستخدام هذه التقنية، يتعين وخز الإصبع للحصول على نقطة دم توضع على الشريحة التي توضع بدورها في الجهاز. تُخفى هوية صاحب عينة الدم، ثم يحللها معاون الصحة في كير أيه آي اعتماداً على الذكاء الاصطناعي المستند إلى مجموعة كبيرة من المكتبات الطبية والتشخيصية كمرجع له، ثم يقدم مشورته مصحوبة بتقدير لدرجة الثقة في النتائج. ويستند تشخيص كير آيه آي إلى تحليل إحصائي لهذه البيانات كلها: إذا رأيت علامة "أ" في دمك، وأفادت سجلاتك الطبية بأنّ هذا يعني إصابتك بالملاريا، يستطيع كير أيه آي تحديد ما إذا كنت مصاباً بالملاريا حتى مستوى معين من الثقة في النتائج. ووفقاً لعينة الدم، يقوم الجهاز بتشخيص المرض إن وُجد. وتظهر النتيجة على شاشة الجهاز مصحوبة بتقرير مطبوع يفيد بمدى الثقة في التحليل وتعرض المزيد من الإجراءات المطلوب اتخاذها والتي ربما تشمل وصفات طبية متوفرة لدى الصيدليات المشاركة، أو ربما تتضمن تصعيداً للحالة بغية الحصول على العناية الطبية من أطباء مؤسسة غير حكومية ممن يقدمون علاجات طبية مشمولة بالسرية.
في ضوء الفضيحة الأخيرة لشركة ثيرانوس (Theranos) الناشئة التي وعدت بإحداث ثورة في فحوصات الدم، من الأهمية بمكان ملاحظة هنا أنّ نظام كير أيه آي الحاسوبي هو مشروع خاص باللجنة الأوروبية التي يمولها الاتحاد الأوروبي. وما تقوم به اللجنة مختلف: فهي لا تخترع أي تقنية جديدة، بل تستخدم البيانات الطبية وتربط بينها وبين مكتبات البيانات/الدوريات الأكاديمية سراً. وتخزن جميع البيانات مخفية الهوية على سلسلة الكتل التي تدعم العقود الذكية، ما ييسر عملية إدارة حقوق البيانات الصحية وتصريحات استخدامها والوصول إليها. وتستخدم المؤسسات المشاركة تطبيق موزع (وهو واجهة لعقد سلسلة الكتل) للولوج إلى البيانات مخفية الهوية عبر العقود الذكية. وتشتري الحكومات والمؤسسات رموزاً لاستخدام التطبيق. وبعد ذلك، تُستخدم هذه الرموز لدفع رسوم لمؤسسات الرعاية الصحية غير الحكومية ولدعم صيانة الأجهزة. وفي المقابل، تحصل تلك الكيانات، التي تتولى الدفع، على حق الوصول إلى معلومات طبية متعمقة من الممكن أن تساعدها على إجراء أبحاث الرعاية الصحية وتخطيطها وتحديد تمويلها وسياستها بشكل أفضل.
اقرأ أيضاً: التحولات المعلوماتية التي يحتاجها قطاع الرعاية الصحية
ويستهدف صناع هذا الحل التقني معسكرات اللاجئين في أوروبا. وبالتأكيد ستتجاوز تطبيقاته تلك المعسكرات وصولاً إلى المناطق النامية مثل أفريقيا والهند، حيث تظل نسبة المواطنين إلى الأطباء أعلى من المعايير العالمية. ويمكن أن يساعد نظام كير آيه آي، بطرحه في الأسواق ودور العبادة وغيرها من المناطق العامة، المواطنين الذين يعيشون في بقاع تندر فيها مرافق الرعاية الصحية، خاصة إذا كانت توصيات الاستخدام مناسبة للسجلات الطبية للمرضى.
الحد من هجرة العاملين في مجال الرعاية الصحية
وبالنسبة لأفريقيا تحديداً، فإننا نشهد نزوحاً مهولاً للعاملين في مجال الرعاية الصحية إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وعلى الرغم من جهود الحكومات الساعية للحد من هذه الهجرة، لم يتغير مسار هؤلاء البتة لأن الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الصحي يتقاضون أجوراً أعلى عادة خارج أفريقيا. في نيجيريا مؤخراً، أضرب أحد أكبر اتحادات القطاعات الصحية عن العمل لأشهر، مطالباً الحكومة بتوفير ظروف عمل أفضل. وبالتالي، في وقت يزداد فيه عدد السكان تفقد أغلب الدول الأفريقية العاملين في المهن الطبية، الأمر الذي يفاقمه سهولة توظيف الدول الأجنبية لهؤلاء، واستحالة تمكن الحكومات الأفريقية تقريباً من مضاهاة أجورهم الأجنبية.
وفي هذا السياق، تبشر التقنية ببصيص من الأمل، إذ بوسع منتجات مثل كير أيه آي أن تصبح محفزة عندما تبدأ في التوغل في القرى والمدن في شتى أرجاء القارة. وإذا تمكنت نظم الذكاء الاصطناعي من التعامل مع بعض مشكلات الرعاية الصحية الطفيفة، فإنّ العاملين المتاحين في مجال الرعاية الصحية يستطيعون التركيز على أغلب المشكلات المستعصية. وحقيقة الأمر أنّ التقنية بوسعها أن تحقق شيئاً من التكافؤ، حيث تنتفي الحاجة إلى الكثير من العاملين في مجال الرعاية الصحية، ويترسخ توازن تقديم الخدمات الفعالة في قطاع الرعاية الصحية في أفريقيا.
إنّ بلوغ هذه الغاية سيتطلب بيانات. وستكون البيانات هي عامل التمكين لتطوير ما أطلق عليه "الرعاية التلقائية". وفضلاً عن تشخيص حالة قروي مصاب بالملاريا، من المهم أن نعرف التاريخ الطبي لذاك الشخص، والعقاقير التي يتعاطاها حالياً، وغير ذلك من العوامل التي يتحتم دراستها قبل الشروع في تنفيذ الاستراتيجية العلاجية. ويمكن أن يؤدي ضخ هذه البيانات في نظم الذكاء الاصطناعي إلى جعل تقنية الذكاء الاصطناعي قادرة على وصف الدواء بثقة، علاوة على قدرتها على توجيه مريض بعينه إلى الصيدلية المناسبة، حيث تُجرى جميع المعاملات رقمياً. لكن تكلفة تقديم الخدمة يجب أن تكون ميسرة. وهذه الإمكانية يستحيل أن تتحقق في أفريقيا حالياً نظراً لانعدام البيانات، وهي مشكلة ليست مقتصرة على القطاع الصحي فقط في القارة السمراء.
ويعمل الكثير من رواد الأعمال الأفارقة بكل جهد على كيفية التعامل مع تحدي توفر البيانات في قطاع الرعاية الصحية. وتتيح منصة ميدسيرا (Medcera) التي قمت بتأسيسها، البرمجيات مجاناً للمؤسسات الصحية، بداية من المستشفيات وحتى المختبرات، ومن مراكز الأشعة إلى المرضى، بغية دفع عجلة عملية إعادة تصميم العمليات التي ستكون غاية في الأهمية إذا ساعدت نظم الذكاء الاصطناعي على تحسين حياة البشر. وستكون البيانات المحصنة بالخصوصية والأمان حافزاً لترسيخ أقدام هذا المستقبل الذي لن يتقيد فيه تقديم خدمات الرعاية الصحية بالبشر تقيداً كاملاً في شتى قرى أفريقيا ومدنها.
الرعاية الصحية والتقنيات الناشئة
ثمة إجماع دولي على أنّ التقنيات الناشئة كالذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل ستحدث تحولاً في الأسواق والاقتصادات، وربما تؤدي إلى فقدان وظائف أو حالات نزوح. ومع ذلك، أثبتت فترة 500 عام أنه عندما تخترق التقنية أي اقتصاد تتحسن الإنتاجية بسرعة، وأنّ التطور يفضي عادة إلى رفاهة بشرية أكبر ومعايير معيشية أعلى. وفي أغلب القطاعات الأفريقية كالزراعة والطاقة والرعاية الصحية، لم نشهد المنافع الأعمق ذات الأثر الكبير للتقنية. ويفسر ذلك سبب اشتغال ما يربو على 65% من العاملين في أفريقيا بالزراعة، وسبب تفشي ظاهرة غياب الكهرباء إلى الآن في المجتمعات الريفية. ولذلك، قد تحدث حالات فقدان للوظائف، غير أنّ التقنيات الجديدة ستحقق نتائج إيجابية بحتة في أفريقيا في المتوسط، إذا انتشرت عن طريق الإنتاجية المحسنة.
على الرغم من ذلك، إذا كان بوسع الذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل الكشف عن آفاق جديدة في قطاع الرعاية الصحية الأفريقي، حري بالقارة كلها الاستثمار في جوانب أخرى محورية في قطاع الرعاية الصحية الفعال. ولمجابهة الهجرة المستمرة للأطباء وغيرهم من العاملين في قطاع الرعاية الصحية إلى دول أجنبية، يتعين على كليات الطب تدريب المزيد من الأشخاص. ويظل العاملون في مجال الرعاية الصحية هم القلب النابض لأي منظومة رعاية صحية، إضافة إلى الإمدادات الكافية من الكهرباء والمياه النظيفة والعقاقير المتاحة. وما من منظومة للذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل بوسعها القفز على تلك العناصر وتجاوزها. ومع ذلك، قد تؤدي المراجعة الكاملة لمنظومة الرعاية الصحية إلى إماطة اللثام عن قدرات الحكومات على توظيف عدد أقل من العاملين في مجال الرعاية الصحية، خاصة إذا تم دعمهم بحلول ناشئة مثل كير أيه آي، ودفعوا لهم أجوراً أعلى. وقد أثبتت البنوك أنّ حلولاً مثل ماكينات الصراف الآلي والأموال المحمولة يمكن أن تساعد في تقليص عدد الموظفين، حتى أثناء تحسين جودة الخدمة والربحية. وتَعد تقنيتا الذكاء الاصطناعي وسلسلة الكتل بالشيء نفسه لقطاع الرعاية الصحية الأفريقي على نطاق واسع.
ولكن، بينما يتكشف لنا المستقبل سيتحتم على صناع السياسة الأفارقة تصميم أطر عمل حديثة للخصوصية من أجل ضمان احترام حقوق المرضى والحد من أي تجاوزات محتملة. وسوف تؤتي التقنية ثمارها فقط عندما تعمل الحكومات عبر المجتمعات الأفريقية بشكل استباقي لضمان وضع سياسات ذكية تحدد دور التقنية في تحسين الرعاية الصحية في أفريقيا.
اقرأ أيضاً: