يزخر عالم الأعمال بالكثير من الأفكار الخاصّة بمنتجات وخدمات ونماذج تجارية جديدة.
وبفضل بعض المقاربات القويّة المستعملة في استقطاب الأفكار مثل التفكير التصميمي (Design Thinking)، وكذلك ما يُعرف بالتوريد الجماعي (Crowdsourcing)، فقد باتت الشركات قادرة وبسهولة كبيرة جدّاً وبطريقة رخيصة نسبياً على الحصول على عدد كبير من المفاهيم الجديدة المُبتكرة، سواء من أشخاص داخليين أو خارجيين مثل الزبائن، والمصمّمين، والعلماء. ومع ذلك فإنّ العديد من المؤسسات لا تزال تعاني في تحديد الفرص الكبيرة وفي ترجمتها على أرض الواقع. وقد أخبرني مؤخراً أحد رؤساء الأقسام في شركة عالمية متخصّصة بالإلكترونيات الاستهلاكية بما يلي: "لدينا عدد هائل من الأفكار، لكنّنا لا نعرف ماذا نفعل بها بصراحة. فرغم أنّنا حاولنا استكشاف بعض المجالات غير الاعتيادية، إلا أننا وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف ملتزمين بأفكار ثبت بأنّها كانت مألوفة أصلاً". وبحسب ما لاحظت أنا شخصياً، فإنّ شركته تُعتبرُ القاعدة وليست الاستثناء.
فلماذا يحصل ذلك؟ لقد أظهر كلايتون كريستنسن (Clayton Christensen)، أحد أصحاب النظرية الشهيرة "الابتكار المُزعزع" (Disruptive Innovation)، وكذلك تشان كيم (W. Chan Kim)، ورينيه موبورن، مخترعا "استراتيجية المحيط الأزرق" (Blue Ocean Strategy) بأنّ التغيّرات الكبيرة في المجتمع وفي التكنولوجيا تشكّل تحدّياً جوهرياً للفهم التقليدي الذي يحاول تحديد الأشياء القيّمة. فهذه التغيّرات تجعل كل المعايير التي تستعملها الشركات لتحدّد مشاكل الزبائن التي يمكنها معالجتها قديمة وباطلة. وبالتالي إذا أراد المدراء أن يحدّدوا أيّ الأفكار تتمتّع بقدرة كامنة حقيقية على النجاح، فهم بحاجة إلى معايير جديدة للتقويم.
من خلال دراستي لوضع 24 شركة استطاعت اغتنام فرص كبيرة ومن خلال عملي معها أيضاً، توصّلت إلى معرفة كيف يمكن وضع هذه المعايير، وجمعت المقاربات الفردية التي انتهجتها كلّ شركة هذه الشركات بصورة فردية ولخّصتها ضمن عملية واحدة مؤلّفة من أربع خطوات، وهي عملية أصبحتُ الآن أنصح المؤسسات بتطبيقها. (ويمكن لكلّ خطوة من هذه الخطوات أن تكون مفيدة بمفردها أيضاً). تُعتبرُ العملية التي اقترحها أنا مكمّلة لآلية وضع الاستراتيجيات التي طرحها كيم وماوبورغن (وتعرف بالإنكليزية باسم (Strategy Canvas)) من أجل التوصّل إلى ما يُسمّى استراتيجية المحيط الأزرق، وإطار "الأعمال التي يجب إنجازها" (jobs to be done) الذي وضعه كريستنسن للعثور على الابتكارات المُزعزعة. وقد باتت أكثر من عشر شركات الآن تتبنّى عمليتي المقترحة، بما في ذلك شركتان كبيرتان متخصّصتان بالسلع الاستهلاكية المعلّبة والمغلّفة، وشركة للأزياء الراقية، وشركة معنيّة بصناعة الكوابل الضوئية.
وخلافاً للمنهجين المعروفين باسم "التفكير التصميمي"، والتوريد الجماعي (Crowdsourcing)، اللذين يستندان إلى فن استقطاب الأفكار، فإنّ عمليتي متجذّرة في فن النقد (Criticism). فهي وعوضاً عن طلب الآراء في مرحلة باكرة من الزبائن وغيرهم من الأشخاص الخارجيين، فإنّها تعتمد على تفاعل الموظفين في الشركة ذاتها. وهي تساعدهم في التعبير عن آرائهم الفردية ومن ثمّ إجراء مقارنة لآرائهم المتباينة ومناقشتها من أجل اختزالها إلى مجموعة صغيرة من المقترحات الأفضل. ولا يجري طلب آراء الأشخاص الخارجيين إلا في النهاية.
فن النقد
سواء تعلّق الأمر بالمنتجات، أو الخدمات، أو العمليات، أو النماذج التجارية، فإنّ هناك مستويان ممكنان فقط من الابتكار، ألا وهما: إدخال التحسينات والسير في اتجاهات جديدة.
تُعتبرُ التحسينات بمثابة حلول جديدة وغير مسبوقة تلبّي بشكل أفضل التعريفات الحالية للقيمة. وسواء كانت هذه التحسينات متدرّجة أو جذرية، إلا أنّها تعالج المشاكل المُعترف بوجودها أصلاً وعلى نطاق واسع في السوق. ولنأخذ حالة أجهزة الترموستات المنزلية (المتخصّصة بضبط الحرارة). فمعظم الشركات العاملة في هذا المجال تفترض بأنّ قيمتها الرئيسة تكمن في تمكين الناس من التحكّم بشكل أفضل بدرجة حرارة منازلهم. وبالتالي فإنّ الابتكار قد ركّز على صنع أجهزة ترموستات رقمية تتضمّن مزايا جديدة مثل شاشة العرض التي تعمل باللمس وتتضمّن قوائم عديدة، وجداول لكل يوم من أيّام الأسبوع، وإعدادات خاصّة بغرف مختلفة في المنزل، ومرواح قابلة للبرمجة المسبقة.
وفي المقابل، فإنّ الاتجاهات الجديدة تنشأ نتيجة لإعادة تفسير المشاكل التي تستحق النقاش. فهي تعيد تعريف الأشياء التي يقدّرها الزبائن. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، توصّلت شركة نيست لابز (Nest Labs) إلى مقترح قيمة (Value Proposition) جديد تماماً لأجهزة الترموستات، لمساعدة الناس على الشعور بقدر أكبر من الراحة في منازلهم دون الاضطرار إلى القلق من موضوع الحرارة. فقد فهم مؤسّسوها بأنّ تعقيد الحياة العائلية في أمريكا، وعدم القدرة على التنبؤ مسبقاً بما تحمله من مفاجآت، قد جعلت من شبه المستحيل تقريباً برمجة جهاز ترموستات ليعمل وفق جدول زمني منتظم. إضافة إلى ذلك، فقد رأوا بأنّ تكنولوجيا أجهزة الاستشعار والهواتف المحمولة قد نضجت إلى الحدّ الذي يسمح بضبط درجات الحرارة من خلال تفاعلات بسيطة ستكون جذّابة للناس الذين سئموا من الأجهزة ذات الواجهات المعقّدة.
يقوم المستخدمون بإشعال الترموستات وإطفائه من خلال الواجهة الأمامية الدوّارة التي تتميّز ببساطتها، أو باستعمال هاتف ذكي؛ والجهاز لا يحتاج إلى برمجة. فهو مزوّد بأجهزة استشعار تحدّد أمكنة وجود الناس في المنزل، ويقوم تلقائياً بتعديل الحرارة لتوفير الطاقة عندما لا يكون هناك أحد في المنزل. وبعد بضعة أيّام، يتعلّم جهاز الترموستات عادات الأسرة القاطنة في المنزل ويتولّى ضبط إعدادات الحرارة بنفسه. كما أنّ منصّة البرمجية مفتوحة بما يسمح لأي طرف ثالث ببناء مكوّنات لجهاز الترموستات. ورغم أنّ نيست لا تعلن عن أرقام مبيعاتها، إلا أنّها تزعم بأنّها قد باعت الملايين من هذا الجهاز، والذي يبلغ سعره في متاجر التجزئة بين 210$ و 250$. وفي العام 2014، اشترت غوغل الشركة مقابل 3.2 مليار دولار.
يُرجّحُ جدّاً بأن مؤسّسي شركة نيست المتحمّسون جدّاً للتكنولوجيا، والذين كان لديهم في بادئ الأمر طموحات غامضة بإنشاء "منزل ذكي"، لم يكونوا ليتمكّنوا من تصنيع جهاز الترموستات هذا لو أنّهم كانوا قد اعتمدوا على طرق الابتكار السائدة حالياً والتي تحظى بشعبية كبيرة. فتوليد الكثير من الأفكار هو أمر مفيد جدّاً لإدخال التحسينات، لكنّه لا يساعد في التعرّف على الاتجاهات الجديدة. فإذا لم تغيّر الشركات العدسة التي تحاول من خلالها تقويم الأفكار، فإنّها لن تكون قادرة على تحديد الأشخاص الخارجيين الذين يجب أن تستعين بهم، ولا على معرفة ما هي الأسئلة التي يجب طرحها، ومعرفة الآراء الأكثر قيمة. ونتيجة لذلك، فإنّ هذه الشركات ستميل عادة إلى اختيار الزبائن والأشخاص الخارجيين الآخرين الذي يدعمون الاتجاهات الحالية، وإلى استبعاد الأفكار التي تقع خارج المسار الذي انتهجته. ويمكن القول فعلياً بأنّ معظم الأفكار التي استعملت في تصميم جهاز ترموستات نيست كانت معروفة أصلاً في هذا القطاع، لكن لم تدرك أيّ من الجهات المعنيّة بهذا القطاع في ذلك الوقت القدرة الكامنة التي تتمتّع بها هذه الأفكار.
ولكي نعثر على الفرص التي تتيحها التغيّرات الكبيرة الحاصلة في عالم التكنولوجيا أو المجتمع ونستغلّها، فإنّنا بحاجة إلى التشكيك الصريح في الافتراضات القائمة حالياً بخصوص ما هو قيّم وما هو غير قيّم، وبعد ذلك، ومن خلال التأمّل والتفكير، يجب أن نستعمل عدسة جديدة لفحص الأفكار المُبتكرة. وتُعتبر عمليتا طرح الأسئلة والتأمّل هاتين من الصفات الأساسية لفن النقد.
تعود جذور كلمة نقد، أو (Criticism) بالإنكليزية، إلى كلمة (krino) اللاتينية، والتي تعني "القدرة على الحكم بالأمور، وتقويمها، وتفسيرها". وليس بالضرورة أن يكون النقد سلبياً؛ ففي هذا السياق يشتمل النقد على محاولة إظهار أفكار جديدة، وتسليط الضوء على الاختلافات الموجودة بينها، وصياغتها معاً ضمن رؤية واحدة جريئة. ويُعتبرُ ذلك ابتعاداً عن عمليات استقطاب الأفكار التي سادت في العقد الماضي، والتي تعاملت مع النقد بوصفه أمراً غير مرغوب فيه – أي بوصفه شيئاً يخنق الابتكار. وفي حين أنّ عملية استقطاب الأفكار تقترح "تأجيل" محاكمة قيمة الفكرة، فإنّ فنّ النقد يبتكر "من خلال" محاكمة قيمة الفكرة.
في عمليتي المؤلّفة من أربع خطوات، يشكّك الأفراد في افتراضاتهم، ويطرحون تفسيرات جديدة لمشاكل الزبون التي يمكن لشركتهم أن تحلّها. بعد ذلك يعمل الناس معاً ضمن مجموعات مؤلّفة من شخصين لتشذيب رؤيتهم، قبل الانتقال إلى مجموعة أكبر لمناقشة الفكرة. أخيراً، يجري اختبار أفضل الأفكار من قبل المستخدمين، ومن قبل الخبراء الداخليين والخارجيين المنتمين إلى مجموعة واسعة من المجالات والحقول. وبما أنّ أيّاً من الشركات الأربع والعشرين التي تدعم هذه الطريقة لم توظّف كلّ الخطوات، فإنّني سأوضحها من خلال طرح عدد من الحالات، بما في ذلك حالة فوكس (Vox)، وهي شركة بولونية متوسّطة الحجم متخصّصة بالمفروشات؛ وشركات نيست؛ ومايكروسوفت؛ وألفا روميو.
التأمّل الفردي
تخيّل بأنّك أنت المدير المسؤول عن مراقبة التحوّلات الرئيسة الحاصلة والفرص الكبيرة الآخذة بالظهور. فكيف بوسعك تحفيز الابتكار بطريقة تمكّن شركتك من اغتنام هذه الفرص؟ من جهته واجه بيوتر فولكيل (Piotr Voelkel)، مؤسس شركة فوكس ورئيس مجلس إدارتها، هذا السؤال. وقد كان يشعر بالقلق جرّاء التغيّرات الرئيسة التي طرأت على الخصائص الديموغرافية للزبائن، وتحديداً حالة الشيخوخة المنتشرة في أوساط الشعوب الأوروبية. وقد شعر بأنّ ازدهار فوكس في المستقبل، يجعلها بحاجة إلى تفسير جديد للشكل الذي يجب أن تتّخذه المفروشات والأثاث المنزلي. ولكي يتوصّل إلى هذا التفسير الجديد، اختار 19 شخصاً في الشركة، بمن فيهم هو شخصياً، وطلب من كلّ واحد منهم أن يفكّر كيف يمكن لفوكس أن تقدّم عرضاً جديداً لسكّان آخذين بالشيخوخة. وقد كان حذراً في اختيار مجموعة مؤلفة من أشخاص غير متجانسين: فبعضهم كان في مناصب أساسية؛ في حين كان البعض الآخر من الشباب الذين يمتلكون موهبة واعدة. البعض منهم كان يمتلك خبرة كبيرة في هذا القطاع؛ بينما كان الآخرون قد جاؤوا من خارجه. وقد مثّلوا مجموعة متنوّعة من الأقسام، بما في ذلك المبيعات، والتسويق، وتطوير المنتجات، والتصنيع، والتصميم، والعلامة التجارية. وكان البعض منهم أكثر ميلاً إلى التحليل بحكم طبيعتهم؛ في حين كان الآخرون يعتمدون اعتماداً أكبر على حدسهم. كان القاسم المشترك بينهم هو أنّ أدوارهم في الشركة أو اهتماماتهم الشخصية كانت على الأرجح ستقود إلى آراء ثاقبة.
بعد إيجاز بسيط قدّمه فولكيل لأعضاء المجموعة، طلب منهم قضاء بعض الوقت في التفكير بمقترح أو أكثر بخصوص المنتجات أو الخدمات أو النماذج التجارية. ولكي يضمن بأن يركّزوا على اتجاهات جديدة عوضاً عن التركيز على التحسينات فقط، أعطاهم توجيهاً صارماً. فقد طلب منهم بأن تكون الحلول مستندة إلى مفاهيم جديدة تماماً للقيمة. ولكن يكون الاتجاه الجديد صريحاً، يجب أن يتضمّن كل مقترح سهماً إلى التغيير "من" مقترح القيمة الحالي "إلى" مقترح القيمة الجديد.
تختلف هذه المقاربة عن طرق الابتكار الشعبية في عدّة نواح. أولاً، لم يطلب فولكيل من موظفيه بأن يبدؤوا العملية انطلاقاً من الآراء الثاقبة للزبائن أو لأشخاص خارجيين آخرين؛ وإنّما طلب منهم بدء العملية استناداً إلى آرائهم الشخصية. فنحن جميعاً نشعر بالتغييرات الحاصلة في بيئتنا، ونحن جميعاً لدينا حدسنا، سواء الواعي أو غير الواعي، الذي يرشدنا إلى كيفية تحسين العالم. وغالباً ما نحتفظ بهذه الفرضيات الشخصية لأنفسنا. وقد فهم فولكيل هذا الأمر، لذلك طلب من أعضاء المجموعة التعبير عن فرضياتهم صراحة. وبعد أن يُعبّر عن الحالات الحدسية تلك بصراحة، وتخضع للنقاش، فإنّها سوف تصبح مواد خام قيّمة لوضع رؤى جديدة. كما أنّ هذه العملية سوف تحارب النزعة الطبيعية الموجودة لدى الأفراد والتي تجعل حدسهم غير الواعي يؤثّر على الطريقة التي يستقبلون بها الآراء الثاقبة للآخرين. وقد أدرك فولكيل بأنّ مشاركته هو شخصياً في هذا التمرين سوف تمكّنه من أن يرى بقدر أكبر من الوضوح والموضوعية الآراء التي كانت سوف تُقترحُ عليه في نهاية المطاف.
ثانياً، طلب فولكيل من الجميع أن يفكّروا بمفردهم وليس ضمن فريق. وقد سمح هذا الأمر للناس بأن يتعمّقوا في أفكارهم الشخصية دون أن يدعوها تتعرّض للضياع في زحمة الأفكار الأخرى، أو دون أن يستبقوها لأنفسهم فقط، كما يمكن أن يحصل لو كانوا في جلسة للعصف الذهني (Brainstorming). لقد أعطى ذلك لكلّ شخص حرّية أداء المهمّة التي رآها مناسبة، بالاعتماد على إطار تحليلي معيّن، أو بيانات محدّدة، أو بالاعتماد على الحدس ببساطة. وقد زاد ذلك من احتمال اقتراح الأشخاص التسعة عشر لاتجاهات متنوّعة.
ثالثاً، منح فولكيل الموظفين شهراً كاملاً للتأمّل والتفكير. وكان يُفترضُ بهم أن يواصلوا أداء مهامهم المعتادة، لكنّ الوقت كان كافياً لكي يضع كلّ واحد منهم تصوّراته الفردية المبدئية، ويتركها تتخمّر لبضعة أيام، ومن ثمّ يقوم بتنقيحها وفلترتها وإضافة أفكار جديدة عليها. ويُعتبرُ هذا الأمر مهمّاً تحديداً من أجل التوصّل إلى فرضيات استفزازية أو صارخة – أي الفرضيات التي غالباً ما تكون مشوّشة في المراحل المبكّرة إلى درجة تجعل الناس يتخلّون عنها بسرعة.
وقد اقترح أحد الأشخاص بأن تفكّر فوكس بغرف النوم – وهي مجال لم تركّز الابتكارات عليه إلا بقدر ضئيل في العقود الأخيرة، رغم أنّ كبار السن يقضون وقتاً طويلاً في غرف نومهم، وخاصّة عندما يكونون مرضى. وقد اقترح إدخال تعديلات تحوّل غرف النوم "من" أماكن للراحة "إلى" أماكن مهمّة في تحسين صحّة الإنسان. فعلى سبيل المثال، قد تحتوي الأسرّة على أجهزة يمكن لكبار السن استعمالها للقيام بتمارين بسيطة. أمّا إحدى المشاركات الأخريات، فقد اعتمدت على التوقعات التي تشير إلى حصول تراجع في معدّل الولادات ونموّ في أعداد كبار السن، وتخيّلت يوماً سيتنافس فيه الجدّ والجدّة على قضاء الوقت مع أحفادهم النادرين. وقد تصوّرت حصول تغيّر في المفروشات المنزلية "من" كونها جزءاً من الديكور والزينة وقطعاً تؤدّي الوظيفة المطلوبة منها، "إلى" وسائل للتفاعل الاجتماعي مع الأقارب، مثل الطاولات التي يمكن تحويلها بسهولة إلى أماكن للطهي، أو الرسم، أو اللعب. وعند انتهاء فترة الشهر، كان الأشخاص التسعة عشر في فوكس قد توصّلوا إلى طرح 90 اتجاهاً محتملاً (7 منها جاءت من فولكيل نفسه).
الشركاء المحاورون
في الخطوة الثانية، يعمل كل شخص على إخضاع رؤيته إلى النقد من قبل زميل موثوق، يكون بمثابة شريك محاور في عملية نقاشيّة توفّر نوعاً من البيئة المحميّة يمكن للشخص فيها أن يتجرأ على طرح فكرة مجنونة أو غير مختمرة دون أن تتعرّض هذه الفكرة إلى الاستبعاد.
لقد كان هذا النوع من العلاقات أمراً أساسيّاً في إنشاء شركة نيست، حيث كان طوني فاديل (Tony Fadell) ومات روغرز، مؤسّسا الشركة، قد عملاً معاً من قبل في آبل. وفي مقابلة مع ديريك آندرسن (Derek Andersen) من ستارت آب غريند (Startup Grind)، وهي عبارة عن تجمّع من روّاد الأعمال، وصف روجرز كيف كان الرجلان قد تبادلا الرؤى خلال غداء عمل. وكان روجرز قد بدأ بالقول: "طوني، أنا أودّ إنشاء شركة، وأريد أن ننشئها أنا وأنت".
فأجابه فاديل: "ما الذي تريد فعله؟"
"أريد بناء شركة لها علاقة بمفهوم المنزل الذكي".
كان فاديل يبني بيتاً جديداً في ذلك الوقت، وكان يدرس بينه وبين نفسه فكرة مبدئية مشابهة. لكنّه قال: "أنت أحمق. لا أحد يريد شراء منزل ذكي. فالمنازل الذكية هي حكر على المهووسين بالتكنولوجيا".
كان يمكن للمحادثة أن تتوقّف عند هذا الحد. لكن بما أنّهما كان يحبّان بعضهما البعض، ويحترمان بعضهما البعض، وكان كلّ واحد منهما يشعر بالأمان في حضرة الآخر، فقد استمرّا في الحديث، وتعمّقا في الفكرتين اللتين طرحهما كل واحد منهما، وقرّرا في نهاية المطاف التركيز أولاً على جهاز الترموستات.
في كتاب بعنوان: "الحلقات التعاونية: ديناميكيات الصداقة والعمل الإبداعي" (Collaborative Circles: Friendship Dynamics and Creative Work) يبيّن مايكل فاريل (Michael P. Farrell) بأنّ فكرة الأزواج (أي المجموعات المؤلّفة من شخصين اثنين يعملان معاً) كانت الأساس للعديد من الاختراقات التي حصلت في الفن والمجتمع، وخاصّة عندما كان تعريف "الفن الجيّد" يتعرّض للتحدّي. وقد شرح مايكل بأنّ العمل ضمن أزواج يخلق بيئة من "الحميمية الأساسية" التي تسمح للناس بأن ينتقدوا بعضهم البعض بطريقة بنّاءة وتقوم على التعاطف المتبادل.
فالتجارب الجريئة الأولى في المدرسة الانطباعية، على سبيل المثال، جرت ضمن مجموعات مؤلفة من شخصين، وتحديداً من قبل الفنانين كلود مونيه وفريدريك بازيل ومن قبل بيير أوغوست رينوار، وآلفريد سيسلي، ولاحقاً من قبل مونيه ورينوار. كما يذكر فاريل المؤلفين تولكين (J.R.R. Tolkien) الذي ألّف: (ذي هوبيت: سيّد الخواتم) (The Hobbit, The Lord of the Rings)، ولويس (C.S. Lewis)، مؤلف "سجلات نارنينا" (The Chronicles of Narnia) اللذين اكتشفا بأنّ لديهما اهتمام مشترك بما أسماه لويس "عشق الشمال".
يزخر التاريخ الحديث بالكثير من الأزواج الذين أنشؤوا شركات أسطورية، مثل ستيف جوبز وستيف ووزنياك؛ وسيرجي برين (Sergey Brin) ولاري بيج (Larry Page)، وبيل غيتس وبول ألين، على سبيل المثال لا الحصر. وقد اكتشفت بأنّ الأزواج يمكن أن يؤدوا أيضاً دوراً رئيساً في عملية الابتكار في المؤسسات الراسخة. ومن الأمثلة على ذلك، دخول مايكروسوفت الناجح عام 1999 في سوق أجهزة الألعاب الإلكترونية عبر إكس بوكس (Xbox). ففي السابق، كانت مايكروسوفت قد ركّزت على البرمجيات، وتحديداً التطبيقات ذات الصلة بالإنتاجية. وبالتالي فإنّ التحوّل إلى عالم الأجهزة (hardware)، والمستهلكين الصغار في السن، والترفيه، كان بمثابة نقلة نوعية وجذرية؛ لا بل أكثر من ذلك، حيث شمل التحوّل إنشاء نظام تشغيلي كان غير متوافق مع نظام ويندوز – و هو تصرّف كان سيُنظر إليه في السابق بوصفه ضرباً من الهرطقة.
إنّ ما دفع إكس بوكس إلى بذل هذا الجهد هو الخطّة التي كانت قد أعلنت عنها سوني لإطلاق نسختها من أجهزة الألعاب الإلكترونية التي حملت اسم "بلاي ستيشن 2". فقد أدرك بيل غيتس بأنّ جهاز سوني كان يشكّل تهديداً خطيراً لمايكروسوفت: فالعائلات قد تجد نفسها منجذبة إلى الدخول إلى عالم الحواسب من خلال أجهزة الألعاب السهلة الاستعمال من قبل المستهلكين عوضاً عن استعمال الحواسب الشخصية. وقد أطلق دعوة للحصول على أفكار جديدة وغير مسبوقة بخصوص ما يجب على مايكروسوفت فعله.
في الشركات الكبيرة الراسخة، هناك دائماً أناس يعملون بصمت على وضع نظريات بخصوص التغيّرات الحاصلة في العالم، وكيف يمكن لهذه التغيّرات أن تعيد تعريف الأسواق. وليست مايكروسوفت استثناء لهذه القاعدة. فقد كان هناك أربعة أشخاص راديكاليين في الشركة هم جوناثان "سيموس" بليكلي (Jonathan “Seamus” Blackley)، الذي كان قد عُيِّنَ حديثاً، ويمتلك خبرة هائلة في تكنولوجيات الألعاب الرقمية؛ وكيفين باخوس (Kevin Bachus)، مدير تسويق المنتجات في دايريكت إكس (DirectX)، وهي أداة برمجية تابعة لميكروسوفت تساعد المصمّمين الذين طوّروا ألعاباً للحاسب الشخصي؛ وأوتو بيركس (Otto Berkes)، خبير البرمجة في دايريكت إكس؛ وتيد هيز (Ted Hase)، أحد المدراء في المجموعة المسؤولة عن العلاقات مع المطوّرين. ورغم أنّهم كانوا يعملون في أجزاء مختلفة من الشركة، إلا أنّهم كانوا يتشاركون برؤية جوهرية واحدة، ألا وهي: عالم تُعتبرُ فيه الألعاب بمثابة فنّ رفيع، ويكون فيه مطوّرو الألعاب هم الفنّانون، بينما توفّر لهم مايكروسوفت أقوى التكنولوجيات المتاحة لتمكّنهم من التعبير عن أنفسهم بحرية. وكان ذلك سيتطلّب منصّة إلكترونية مصمّمة صراحةً للفنّانين المتخصّصين بهذا النوع من الألعاب.
لو كان أحد ما قد اقترح هذه الفكرة في ورشة مخصّصة لمناقشة مختلف الأفكار، لكانت قد تعرّضت ربما للاستبعاد، أو لكانت قد طُرِحت بطريقة مائعة لتناسب الأسلوب الحالي في العمل. لكنّ الأمور لم تجرِ على هذا النحو. فقد اجتمع هؤلاء المبدعون، الخارجون عن إجماع زملائهم، مع بعضهم البعض لبضعة أسابيع. وقد تناوبوا على العمل ضمن مجموعات مؤلفة من شخصين (بلاكلي مع باخوس، وبيركس مع هيز)، وكفريق رباعي أيضاً. توطّدت العلاقة بين بلاكلي وباخوس إلى حدّ أنّ الآخرين بدؤوا يطلقون عليهم اسم "لوريل وهاردي"، تيمّناً بالثنائي الفنّي المشهور. وخلال الجلسات التي قضياها معاً، عمل باخوس من أجل تعزيز الجانب التجاري في مقترح بلاكلي. وفي كتاب من تأليف دين تاكاهاشي (Dean Takahashi) بعنوان: "فتح صندوق إكسبوكس: خفايا خطّة ميكروسوفت لإطلاق ثورة في مجال الترفيه" (Opening the Xbox: Inside Microsoft’s Plan to Unleash an Entertainment Revolution)، يتذكّر باخوس ما حصل قائلاً: "لقد أَعَدتُ صياغة المقترح ليكون أكثر تركيزاً. وقلت: "دعنا نفكّر في نوع الزبائن الذين نبني هذه الألعاب لهم، وكيف يمكننا استقطاب ناشري الألعاب لينضمّوا إلينا". وخلال هذه العملية، طوّر الرجال الأربعة مفاهيمهم الغامضة لتتحوّل إلى رؤية قويّة كانت قادرة في نهاية المطاف على تحمّل النقد القاسي الذي وجّهه الآخرون في مايكروسوفت، بمن فيهم بعض كبار المدراء التنفيذيين.
كيف يمكنك العثور على شريك مُحاور يشاركك رؤيتك العامّة؟ ليس بالضرورة أن تكون هناك علاقة سابقة تجمع بينكما، كما كان حال فاديل وروجرز. وليس بالضرورة أيضاً أن تعتمد الشركات على المصادفات السارّة (فبلاكلي كان قد عُيّنَ قبل بضعة أسابيع فقط قبل أن يبدأ بالتعاون مع باخوس والآخرين). ويمكن تحسين احتمالات النجاح من خلال اتّباع عملية سريعة تسمح للناس الذين يتشاركون في الرؤى المتشابهة بالعثور على بعضهم البعض، وبالاتفاق على العمل معاً لتشذيب أفكارهم. وبعد الخطوة الأولى، التي يمارس فيها الأفراد التأمّل بصورة مستقلة للتوصّل إلى الاتجاهات المحتملة، قم بدعوتهم إلى اجتماع، واطلب منهم أن يشرحوا وبإيجاز أفكارهم التي يمكن أن تُكتب على الحائط. بعد ذلك، اطلب من كلّ شخص منهم اختيار فكرة وضعها شخص آخر ويرغب هو باستكشافها. فإذا اختار أكثر من شخص واحد الاتجاه ذاته، اطلب منهم أن يختاروا اتجاهاً آخر، وإذا اقتضت الضرورة، أن يختاروا اتجاهاً ثالثاً. وهكذا تكون قد تكوّنت لديك مجموعات مؤلفة من شخصين.
الحلقات الراديكالية
في الخطوة الثالثة، يجري إخضاع هذه الفرضيات الواعدة إلى نقد أعمق من خلال مناقشتها ضمن مجموعة مؤلفة من 10 أشخاص إلى 20 شخصاً، ممّن تصوّروا اتجاهات جديدة أخرى. وأنا أطلق على هذه المجموعة اسم "الحلقة الراديكالية" (Radical Circle). وليس هدف هذه المجموعة هو أن تقرّر أي الفرضيات صائب وأيّها خاطئ؛ وإنّما الغرض منها هو أن تحكم على سبب اختلاف هذه الفرضيات وأوجه الاختلاف بينها، وما هي الآراء الثاقبة الأساسية التي ربما تكون قد تعرّضت للتجاهل، وما إذا كان هناك مقترح قيمة أقوى حتّى من جميع تلك الفرضيات يمكن العثور عليه.
يمكن إقامة هذا التمرين على شكل ورشة عمل مكثّفة تمتدّ على مدار يومين أو ثلاثة أيّام، أو على مدار أربعة أسابيع حتّى. لكنّ هذه الورشة يجب أن تُقام بطريقة متأنّية، بحيث تعطي نتائج بنّاءة وليست هدّامة. فالصدامات التي تحصل يجب أن تدفع الناس إلى التعمّق، وتحديد المزيد من المجالات التي تسمح بالابتكار، ولا يجب أن تكون معيقة للتفكير، أو أن تعرّض الأفكار الجيّدة للخطر.
ويجب أن تشمل الحلقة أناساً من خلفيات متنوّعة، ويحملون آراء متفاوتة، ويتمتّعون بشخصيات متباينة، تماماً كما هو حال الأشخاص التسعة عشر في تجربة شركة فوكس. ففي مايكروسوفت، انضمّ ستة مدراء تقريباً إلى بلاكلي، وباخوس، وبيركس، وهيز لرسم المسار الذي ستّتخذه أجهزة الألعاب الإلكترونية في الشركة. وقد كان كل من بلاكلي وباخوس يحملان أكثر الرؤى راديكالية، والتي تقوم على الفكرة التالية: التخلّي عن ويندوز، وعدم جعل صانعي الألعاب يدفعون رسوم رخصة ويندوز لقاء كل نسخة تُباع من الألعاب. وقد أراد نائب رئيس قسم الأجهزة في مايكروسوفت صنع شيء متوافق مع ويندوز. أمّا جيمس آلارد (James “J” Allard)، وهو من الشخصيات المحترمة ضمن الشركة، وكان قد نجح في الماضي في قيادة عمليات تحوّل كبيرة، بما في ذلك تبنّي مايكروسوفت للإنترنت في أواسط تسعينيات القرن العشرين، فقد اتّخذ موقفاً في الوسط بين هذين الرأيين.
بوسعكم المحافظة على إيجابية العملية وعلى طابعها الإبداعي من خلال جعل الحلقة الراديكالية تركّز في بادئ الأمر على الاتجاه الذي يعتقد الجميع بأنّ الشركة "لا" يجب أن تذهب فيه، وعلى تحديد من هم أعداؤها. ففي غالب الأحيان يمكن لأعضاء هذه المجموعة أن يتّفقوا بسهولة أكبر على الأشياء التي لا يحبّونها، أكثر من اتفاقهم على الأشياء التي يحبّونها، في حين أنّ العدو المشترك يشكّلُ حافزاً قويّاً للتجمّع والتعبير عن اتجاه جديد. ورغم أنّ أعضاء الحلقة الراديكالية في مايكروسوفت كان لديهم رؤى مختلفة، إلا أنّهم اتفقوا في الرأي على وجود عدوّين، هما شركة سوني وجهاز الألعاب الذي صنعته "بلاي ستيشن 2"، إضافة إلى استراتيجية مايكروسوفت ذاتها بانتهاج مقاربة عامّة في الألعاب تعتمد على الحاسب الشخصي، وليس على جهاز مستقل للألعاب. (وقد أطلق الفريق على مشروع إكسبوكس اسم مشروع منتصف الطريق (Project Midway) تيمّناً بالمعركة البحرية التي دارت رحاها بين البحريتين الأمريكية واليابانية وشكّلت نقطة تحوّل في الحرب العالمية الثانية).
بعد ذلك يجب إجراء مقارنة بين الرؤى المختلفة، ومحاولة الجمع بينها، على أن يشمل ذلك رؤيتين اثنتين في كلّ مرّة. هل هناك نقاط مشتركة تتقاطع فيها هذه الرؤى؟ هل هناك عناصر قويّة ضمن الرؤى الفردية لم تخطر في بال الآخرين؟ ففي فوكس، مثلاً، وبعد أن كان 19 شخصاً قد طوّروا فرضياتهم بصورة مستقلّة، اجتمعوا معاً في ورشة عمل امتدّت على مدار ثلاثة أيام. وقد انبثقت الاستراتيجية التي تبنّتها الشركة في نهاية المطاف من مزيج من الاتجاهين غير المترابطين اللذين تطرّقنا إليهما أعلاه، ألا وهما: الدور الفعّال لغرف النوم، والمفروشات المنزلية التي توفّر إمكانيات للتواصل الاجتماعي. وقد دعيت الاستراتيجية باسم "غرفة النوم والمعيشة"، وهي عبارة عن مساحة مركزية وسط المنزل يمكن لكبار السن أن يقضوا فيها وقتاً ممتعاً مع أقاربهم وأصدقائهم. وكان أحد المنتجات قد أطلق في العام 2012، وهو عبارة عن سرير يشمل رفّاً كبيراً للكتب، ومساحة تسمح للزوّار بوضع أحذيتهم عليها، وشاشة قابلة للانثناء لعرض الأفلام. وحتّى تاريخ كتابة هذا المقال، كانت فوكس قد باعت ما يقارب 3,600 سرير من هذه الأسرّة في بولونيا وفي الدول المجاورة، وكان معدّل النمو السنوي في مبيعات هذه الوحدات هو 88%.
كما وضعت شركة ألفا روميو للسيّارات أيضاً رؤية خاصّة بها. فهذه العلامة التجارية تمتلك تاريخاً أسطوريّاً، حيث كانت أوّل سيّارة تربح سباق الفورميولا وان، وقد أنتجت عدداً من النماذج الشهيرة من قبيل سيّارة سبايدر دويتو (Spider Duetto) المكشوفة التي قادها الممثل داستن هوفمان في فيلم (The Graduate). لكنّ الشركة عانت لعقدين من الزمن في المنافسة في شريحة السيّارات الفارهة جدّاً، والتي كانت تهيمن عليها الشركات الألمانية. ولمواجهة هذا التحدّي، أطلقت شركة ألفا روميو مشروعاً مُبتكراً في العام 2010 شمل حلقة راديكالية، من النوع الموصوف أعلاه، ضمّت 20 شخصاً. وكان أحد المقترحات المقدّمة يتمثّل بالانتقال من المفهوم السائد بأنّ الناس يشترون سيّارة فارهة جدّاً لكي يستعرضوا ثروتهم أمام الآخرين (باعتبار أنّ السيّارة هي من السلع الفاخرة) إلى مفهوم السيّارات الفارهة بوصفها طريقة يعبّر بها الناس عن شغفهم بقيادة السيّارات. وكان هناك مفهوم آخر وهو أن رشاقة السيّارة وسرعة تجاوبها مع أوامر السائق – وليس المحرّك القوي جدّاً والسرعة القصوى العالية – تُعتبرُ عناصر أساسية جدّاً ضمن مقترح القيمة.
جمع الفريق بين الفكرتين معاً، واقترح بأن تركّز الشركة على صنع سيّارات تتجاوب مع احتياجات السائقين الماهرين والشغوفين. وقد استعمل أحد أعضاء اللجنة تشبيهاً مفيداً، حيث قارن بين صناعة السيّارات الفارهة ودليل ميشلان ريد (Michelin Red Guide)، الذي يقدّم توصيات بخصوص المطاعم الفاخرة إلى السيّاح غير الخبراء. لكنّ الرؤية التي انبثقت شُبِّهت بدليل لونلي بلانيت (Lonely Planet)، الذي يستعمله المسافرون الشغوفون والخبراء للعثور على المطاعم الواقعة على الطريق الذين يمضون فيه خلال رحلاتهم.
وقد تُرجمت الاستراتيجية الناتجة عن المفهوم المجرّد المطروح إلى سيّارة ألفا روميو C4، التي أطلقت عام 2013. فمقارنة مع العديد من السيّارات الرياضية الأخرى الموجودة في السوق، تُعتبرُ هذه السيّارة أزهد ثمناً، وهي تمتلك محرّكاً صغيراً، ووزنها خفيف، حيث يعود الفضل في ذلك جزئياً إلى الاستعمال الواسع لألياف الكربون وإلى إزالة بعض التجهيزات منها. (فعلى سبيل المثال، لا تضمّ السيّارة نظاماً للتوجيه المساعد). لكنّ نسبة عزمها إلى وزنها قريبة من تلك الموجودة في السيّارات الرياضية الأغلى ثمناً مثل فيراري. وقد حقّق هذا المفهوم نجاحاً باهراً، فخلال بضعة أسابيع من إطلاق السيّارة في السوق، كان الزبائن قد حجزوا العام الأوّل من الإنتاج كاملاً.
الاستعانة بأشخاص من الخارج
قد يتوافق أعضاء الحلقة الراديكالية على اتجاه واحد جديد محتمل، أو على مجموعة من الاتجاهات الجديدة المحتملة، والتي يجب أن تخضع للنقد من قبل أشخاص خارجيين، وهنا نكون أمام الخطوة الرابعة. ولنتذكّر أنّه خلافاً لمقاربات الابتكار المفتوح القائمة على استدراج الأفكار، فإنّ إشراك الأشخاص الخارجيين هنا لا يهدف إلى توليد أفكار جديدة. وإنّما تتمثّل الغاية من هذه الخطوة في طرح الأسئلة الوجيهة – أي تحدّي الاتجاه المُبتكر الذي تقترحونه لمساعدتكم في تعزيزه. إنّ قائمة الأشخاص الخارجيين يجب أن تشمل إضافة إلى المستخدمين المستهدفين، عدداً من الخبراء من حقول واسعة وشاملة يمتلكون آراء جديدة. وأنا أطلق على هؤلاء الخبراء اسم "المُفسِّرين"، بسبب قدرتهم على إيجاد المعنى في توجّهات قد لا تخطر على بال مستعملي المُنتَج.
بعد أن درست ألفا روميو ملفات أكثر من مئة مرشّح، لجأت إلى 14 مفسّراً لتجربة السفر. وقد جاء معظمهم من خارج الشبكات المعتادة لقطاع السيّارات. فقد كان من بينهم، على سبيل المثال، صانع للسلع الجلدية، والرئيس التنفيذي لمنتجع فاخر، ومصنّع لأجهزة لياقة بدنية، ومخرج مسرحي كان قد انتهى للتوّ من كتابة عمل لاذع تطرّق فيه إلى الكيفية التي ينظر بها الأثرياء في العصر الحديث إلى أنفسهم. وقد أطلعهم فريق ألفا روميو على الفرضيات التي تشكّل أساساً لهذه الرؤية الجديدة، ومن ثمّ اجتمعوا معهم لمناقشة هذه الافتراضات وتحدّيها.
وعلى المنوال ذاته، عندما كانت شركة فيليبس إلكترونيكس تطوّر تطبيقها الذي حمل اسم (Ambient Experience)، والذي شكّل فتحاً في مجال الرعاية الصحية حيث كان يهدف إلى التخفيف من حالة القلق التي غالباً ما تصيب المرضى عندما يخضعون لفحوصات بواسطة أجهزة التصوير الطبي، استعانت بمجموعة واسعة من المُفسِّرين، سواء من أفراد الشريحة المستهدفة عادة (الأطباء، ومدراء المستشفيات، ومهندسي الأجهزة الطبية، وخبراء التسويق) أو بأشخاص من مجالات غير معتادة (الهندسة المعمارية، علم النفس، والتصميم الداخلي المعاصر، وتكنولوجيا (LED) في الإضاءة، وأجهزة إسقاط الفيديو، وتصميم التفاعل (Interaction Design)، والبرمجيات والأجهزة التفاعلية). وقد قام أحد المختصّين بعلم نفس الأطفال بتشذيب رؤية فيليبس من خلال معالجة موضوع القلق ليس فقط خلال الفحص، وإنّما أيضاً في غرف الانتظار قبيل التصوير. وفي مشروع فوكس للأسرّة، نصح أحد المختصّين بالعلاج بالمياه المعدنية وبالروائح العطرية بعدم تصميم السرير لكبار السن صراحة، وإنما اقترح جعله جذّاباً لجميع أنماط الزبائن. ولم تسهم هذه الفكرة في توسيع المبيعات إلى شرائح سوقية أخرى فحسب، بل زادت من جاذبية السرير في نظر كبار السن. وفي مقالي الذي يحمل عنوان "تصميم منتجات خارقة" (Designing Breakthrough Products) الذي نشر في عدد أكتوبر (تشرين الأول) من مجلّة هارفارد بزنس ريفيو في 2011)، أصف كيف يمكن العثور على مُفسِّرين جيّدين.
تُعتبرُ الأدوات الكلاسيكية الخاصّة بتحليل الاستراتيجيات مثل تقنية لوحة الاستراتيجية (Strategy Canvas)، التي طوّرها كيم وماوبورغن، وكذلك تقنية فحص النموذج التجاري التي وضعها كل من ألكسندر أوسترولدر (Alexander Osterwalder) وإيف بينيور (Yves Pigneur)، وسيلة أخرى لتحدّي الاتجاهات الجديدة. ومن الممكن أيضاً الاستفادة من الكمّيات الضخمة من البيانات المتاحة على شبكة الإنترنت، والتي تخصّ، على سبيل المثال، الخيارات المفضّلة لدى الزبائن. وبإمكانكم دراسة فكرة تشكيل فريقين متخصّصين بتحليل البيانات، يكون أحدهما مسؤولاً عن العثور على البيانات التي تدعم الفرضيات الخاصّة بالاتجاه الجديد، في حين يكون الفريق الآخر مسؤولاً عن العثور على البيانات التي تناقض تلك الفرضيات، بعد ذلك بوسعكم أن تقرّروا أيّ النتائج جذّابة ومقنعة أكثر.
عند البحث عن حلول جديدة للمشاكل الحالية، قد يشكّل النقد عائقاً أمام عملية توليد الأفكار. ولكن إذا ما طُبِّق النقد بشكل مناسب لاستكشاف المشاكل الجديدة وإعادة تعريف القيمة، فإنّه يكون محرّكاً للابتكار. وإذا ما تمكّنت الشركة من العثور على اتجاه جديد، فإنّها ستكون قادرة على استيعاب الكمّ الهائل من الأفكار الخاصّة بالعروض والنماذج التجارية، وستتمكّن من التعرّف على بضعة أفكار ستكون كافية لإحداث الفرق المنشود.