أحد أهم المبادئ في الإقدام على المخاطر بشكل عقلاني هو الريبة بشأن الوعود والتوقعات. إلا أنّه يصعب الالتزام بهذا الأمر في الحياة العملية. فنحن محاطون دوماً بأشخاص (وشركات) يبالغون بعرض ما لديهم من مهارات أو معارف أو مواصفات، وكثيراً ما نرتكب نحن أيضاً هذا الأمر.
تُعرف هذه العادة بالمبالغة في الادعاء، وتشير الأبحاث إلى أنّ هذا السلوك يرتبط بالطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى قدراتهم. ووجدت مجموعة من الدراسات أنّ امتلاك أحد الأشخاص خبرة في موضوع ما قد يفضي به إلى المبالغة في تقدير معرفته به. ولذا حين يعتقد شخص ما بأنّ لديه إلماماً عميقاً بموضوع معين، كالتمويل على سبيل المثال، فإنه يميل إلى المبالغة في الادعاء، حيث يؤكّد مثلاً أنه يعرف مصطلحات يسأل عنها الباحثون، حتى لو كانت هذه المصطلحات مختلقة من قبل الباحث. فبدل الاعتراف بأنهم لا يعرفون ما هو ذلك الشيء (عند سؤالهم مثلاً عن مصطلح لا معنى له مثل الائتمان الضماني التفاوتي)، فإنهم يدعون أنهم على علم بهذا المصطلح، مع أنه مختلق ولا أساس له، سواء كان في مجال التمويل أو كان اسماً لأداة أو جهاز طبي أو حتى لو كان يدل على حركة في لعبة الشطرنج.
ومن الضروري التنبه لهذا السلوك لعدة أسباب. فنحن اليوم نتعامل مع قدر كبير من المعلومات، وهذا الأمر يحصل على وتيرة سريعة لا تتيح لنا الوقت الكافي للتأمل فيها والتركيز بشأنها. ولأنّ الحوارات تحدث بسرعة فإنّ الضغط يزداد لتقديم إجابات مباشرة ونتائج فورية. وهذا ما يدفعنا إلى المبالغة في الادعاء، وهذا بشكل من الأشكال ما يجعلنا نسمح لمبالغات الآخرين أن تؤثّر على خياراتنا (سواء كان ذلك يتعلق بتصديق مرشح رئاسي يدعي أنّه سيُعيد العظمة لأميركا، أو وكيل عقارات يصرّ على أنّ العقار الذي يعرضه لن تتراجع قيمته، أو مدير صندوق تحوط يعد بأنه يحقق الأرباح دوماً للمستثمرين).
وقد تعرّضت قبل فترة قصيرة إلى موقف من شأنه أن يوضّح لنا قضية المبالغة في الادعاء والتي نجد لها مظهراً على كافة الأصعدة. فبعد أن شهد أحد صناديق التحوّط ربعاً مالياً كارثياً كتب مدراء الصندوق للعملاء يخبرونهم أنهم كانوا قد وزعوا 70 في المئة من أموال الصندوق على خمسة فقط من أسواق الأسهم. وأوضح المدراء بأنه قد حصل انخفاض كبير في الأسعار، ما منحهم فرصة نادرة لزيادة التركيز مؤقتاً على المجالات الأقوى، وأنهم واثقون من أنها ستحقق زيادة قريبة وكبيرة في قيمها. وقد وصفوا هذا الوضع للعملاء بأنه مخاطرة أقل وفرصة أعلى لتحقيق الأرباح.
لقد كان مدراء تلك الصناديق الاستثمارية يبذلون كل ما بوسعهم كي يعوضوا خسائرهم ويستعيدوا ثقة عملائهم. ولكن ما أرادوا القيام به هو أشبه بقيام لاعب بوكر بزيادة الرهن على ما يعتقد أنها أوراق لعب رابحة. وهؤلاء المدراء يعتقدون أنّ بحوزتهم أسهماً محققة الربح. صحيح أنّ من يملك الأوراق المتميزة سيكسب الرهان، ولكن الذي يؤدي أعماله وفق القانون لا يمكن أن يدعي أنها بحوزته.
وبناء على خبرتي في مجال إدارة الصناديق الاستثمارية، فإنّ الخطوة التي سيقدم عليها أولئك المدراء تنطوي على خطورة كبيرة، وهي مثال صارخ على المبالغة في الادعاء التي يجب أن تثير الشك لدى أي شخص يسمعها. ومن المعروف والثابت أنّ معدل التقلب في مؤشر الأسهم سيكون أقل من التقلب المحتمل في كل سهم على حدة. ولذلك فإنّ الادعاء بالقول إنّ محفظة مركزة ستكون نسبة المخاطرة فيها أقل لا يمكن أن يكون صحيحاً. كما أنه من المستبعد إلى حد كبير أن يكون عملاء الصندوق، سواء كانوا أفراداً أو شركات أو مؤسسات خيرية راغبين في زيادة نسبة المخاطرة.
ادعى المدراء أنّ هذا الإجراء سيفضي إلى تحقيق عائدات أعلى. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أي مدير يدعي بشكل قاطع أنّ استثمار معظم أموال الصندوق في بضع شركات سيزيد من أدائه، فإنه لا بدّ أن يكون شخصاً لا ينطق عن الهوى ولا يخطئ في حكمه أبداً (وهذا أمر مستبعد). إنّ محفظة الاستثمار المركزة لن تجدي نفعاً في حال انهار السوق بأكمله. وبالمثل فإنّ أي حدث كارثي، كانفجار في مصنع أو منصة لاستخراج النفط، قد يصيب أي شركة. والفكرة هنا هي أنّه كلما قلت الأسماء في المحفظة ستزداد الخطورة حين تنخفض القيمة لدى أي من الشركات التي تم الاستثمار فيها. ولا شكّ في أنّ العملاء الذين يقبلون هذه الادعاءات سيواجهون مخاطر مالية أكبر في حال حدث أي من هذه السيناريوهات.
إنّ ما نراه هنا من مبالغة في الادعاء يعرض العملاء لمخاطرة مالية حقيقية. وكان حرياً بمدراء تلك المحافظ الاستثمارية أن يعترفوا بأنهم ارتكبوا خطأ، وأن يتقبلوا الخسارة، وأن يعيدوا توزيع المبالغ المتبقية على العملاء، وأن يحافظوا على تنويع الاستثمار في القطاعات وأسواق الأسهم المختلفة التي يعتقدون أنها ستحقق الأرباح.
ويبدو أنّ المبالغة في الادعاء ظاهرة شائعة في كل مكان. فتجد مثلاً رئيساً تنفيذياً لشركة تعمل في مجال التقنية الحيوية يدعي أنّ اختبارات الشركة قادرة على التعرف على الأنواع المختلفة من الأمراض باستخدام قطرة دم واحدة، ثم ترى مديرة في مجال التسويق تصر على أنها قادرة على مضاعفة مبيعاتها مقارنة بالربع المنصرم من السنة، أو مدرب كرة قدم يخبر لاعبيه أنهم بالتأكيد أفضل من لاعبي الفريق المقابل.
أهم ما في الأمر هو امتلاك القدرة على التفريق بين الادعاءات الصريحة التي قد تكون صحيحة وتلك التي يكون الهدف منها خلق حالة من الحماسة أو الإغراء بخصوص أمر ما لجعل الطرف المقابل يصدقه ويتعلق به. إنّ الادعاءات الخاصة بالتسويق والدعاية تحيط بنا من كل جانب، وعلى الرغم من أننا نتجاهل الكثير منها، إلا أنه من الضروري أيضاً أن نحافظ على هذا النوع من الشك مع أولئك الذين يبالغون في ادّعاءاتهم ومع ذلك نميل إلى تصديقهم.
ومن أجل تجنّب الإقدام على خيارات خاطئة نتيجة المبالغة في الادعاء، عليك أن تمتلك نوعاً من الشك في الحالات الآتية:
- إن كان ما سمعته يبدو ممتازاً إلى حد يصعب تصديقه.
- إن شعرت أنّ الشخص يحاول أن يمنعك من طرح الأسئلة.
- إن طرحت بعض الأسئلة ولم يتمكن الطرف الآخر من الإجابة عليها أو شعرت أنك لا تفهم الإجابات التي قدمها.
فلا تُقدم على أي قرار إلا حين تشعر بالارتياح والثقة بكافة المعلومات التي تلقيتها. ففي حالة صندوق التحوّط الذي ذكرته في ما سبق كنت سأسأل بشكل محدد عن المدة التي سيقضيها مدير الصندوق في الاعتماد على الاستراتيجية الجديدة قبل العودة إلى التخصيصات القديمة، وما العائدات التي يتوقع تحقيقها خلال تلك الفترة، والكيفية التي سيحاسب بها العملاء مدير الصندوق في الفترات المالية المقبلة. فإن كانت الإجابات غامضة أو جدالية سأطالب باسترداد نقودي. وهنالك العديد من المواقف التي يلزمك التعامل فيها مع أشخاص يبالغون في الادعاء، وعليك أن تتبنى أسلوب الشك في مواجهة ما لديهم.