"نحن لا نعمل إلا مع الحالمين". هذه الكلمة قالها عرّاب رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 الأمير محمد بن سلمان حينما أعلن قبل بضعة أشهر عن إطلاق مشروع "نيوم" كمدينة يفوق فيها تعداد الروبوتات عدد البشر.
هذا المشروع هو جزء من رؤية كبيرة بدأتها المملكة بامتياز بتدشينها لبرنامج التحول الوطني العام 2016 وإعلانها عن رؤية المملكة لعام 2030، والرؤية (Vision) كما هو معروف، هي الوجهة النهائية التي نسعى لبلوغها أو الأمل الذي نبتغيه إن جاز التعبير، والآلية لذلك تكون من خلال برنامج التحول الطموح.
يتضمن ذلك البرنامج رؤية اقتصادية وإدارية جديدة. ويتمثل الهدف النهائي منها تحسين حياة المواطن وتعزيز الاقتصاد ورفع كفاءة الأداء الحكومي. التوجه مثلاً نحو مزيد من الخصخصة وتوسيع مشاركة القطاع الخاص في معظم القطاعات الخدماتية ومنها الصحة والتعليم والنقل، وانتهاج أسلوب قياس إنتاجية الوزارات من خلال مؤشرات أداء مسبقة (KPIs)، والتركيز على تطوير نظم الحوكمة والقيادة في قطاعات الدولة المختلفة، إنّ هذه الأمور كلها إيجابية جداً ونحن الآن أمام واجب أخلاقي لدعم برنامج التحول الوطني كلّ بما لديه.
ولأن الخصخصة أو التخصيص من أكثر المحاور التي يدور النقاش حولها، وهو حالها بالفعل في أدبيات الاقتصاد الكلي، إذ ما فتئت أن تكون نقطة شد وجذب وجدل. أقول بداية إنّ الخصخصة قد تكون مبادرة منفردة في قطاع معين، وقد تكون خياراً استراتيجياً شاملاً كما حصل في بريطانيا أيام حكومة حزب المحافظين بقيادة مارغريت تاتشر في الفترة (1979-1990) التي تبنت الخصخصة كمنهج متكامل لإنقاذ الاقتصاد البريطاني في ذلك الوقت من انهيار حقيقي، بسبب تداخل دور الدولة والبيروقراطية الحكومية، وكان لذلك الفضل في تماسك الاقتصاد البريطاني وثباته. وإنّ القطاع الوحيد الذي لم يخضع للخصخصة الفعلية في بريطانيا هو فخر البريطانيين جميعاً منذ إنشاءه عام 1948 وحتى اليوم: الخدمات الصحية الوطنية (NHS) التي يراجعها مليون مريض كل يوم، وبالرغم من هذا الطلب الهائل، تأتي بريطانيا في المركز الأول في معظم المؤشرات الصحية مثل الجودة، وشمولية التغطية، والكفاءة، متقدمة على 11 دولة أوروبية وكذلك أميركا وكندا. تهمنا بالطبع مثل هذه الأخبار لأننا يمكن أن نستفيد منها في تطوير نظامنا الصحي وعمل التحول المطلوب بالطريقة الصحيحة التي تقودنا في النهاية إلى توفير رعاية صحية تتميز بثلاثية التغطية الشاملة لكل السكان (Universal Access)، والجودة (َQuality) والتكلفة المعقولة (Cost).
أمثلة حول العالم
إنّ نظرة خاطفة للنظام الصحي البريطاني تظهر أنه يقوم على توفير الرعاية الصحية المجانية لكل السكان. إذ لا يدفع المريض فاتورة مقابل علاجه وإنما يراجع طبيبه للرعاية الأولية ثم يمضي إلى بيته وتتولى الحكومة دفع الفاتورة لاحقاً. التمويل يتأتى من النظام الضريبي العام (General Taxation System) والدول تحتاج إلى قدر هائل من الخبرات المتراكمة لبناء نظام ضريبي وتحصيلي فعال، وفي المقابل، هناك التزام جماعي بدفع الضرائب لأن الناس يعرفون تماماً أنّ كل ما يتمتعون به من خدمات جيدة (صحية وغير صحية) هو ناتج هذا الالتزام الجماعي بدفع الضرائب المستحقة. وعندما تتطلب حالة المريض في بريطانيا الإحالة إلى مستشفى يتولى طبيب الرعاية الأولية أمر الإحالة برمته ويتابع المريض حتى خروجه من المستشفى وعودته إليها ثانية. هو إذاً نظام صحي يقوم على مبدأ: أنّ الرعاية الصحية الأولية هي أساس أسلوب تقديم الرعاية الصحية (Healthcare Delivery) وليس المستشفيات كما هو الحال عندنا. هذا الأسلوب هو في الواقع ما تدعو إليه باستمرار منظمة الصحة العالمية (WHO).
كل الأنظمة الصحية التي لم تشكل الرعاية الأولية حجر الزاوية في بنائها تعاني بطريقة أو بأخرى. مثال ثان يتمثل في دولة صغيرة مثل كوبا التي تتفوق على دولة بحجم أميركا وهي على حدودها في معظم المؤشرات الصحية (Country Health Profile). كوبا مثال على نظام صحي قائم على الرعاية الأولية. إذ أنّ طبيب الحي هناك طبيب مؤهل يعرف كل قاطني الحي ويعرفونه ولديه ملف لكل واحد منهم وربما زارهم في بيوتهم إذا لم يتمكنوا من المجيء إليه. المركز الصحي وسط البيوت ووسط الناس ووسط أوجاعهم وآلامهم. لا توجد هوة تفصل طبيب المركز الصحي عن بقية الناس. عندما سئل أفيدس دونابيديان في آخر حياته عن تعريف الجودة – وهو الخبير العالمي في الجودة الصحية وصاحب نظرية أنّ الجودة تتحقق بالعمل على تحسين المدخلات والعمليات والنتائج – كان جوابه مفاجئاً: "المزيد من الحب". الطبيب يحب عمله والممرضة تتفاني في خدمة المريض والكل يحب بلده ويبتغي رفعته وبهذا تتحقق الجودة العالية. هذا رأي البروفيسور دونابيدين.
التطبيق في السعودية
هل يمكننا في المملكة الاستفادة من قصص النجاح تلك؟ نعم وبكل تأكيد، ولكن من دون إغفال حقيقة هامة وهي أنّ ما طبقته بريطانيا أو غيرها ونجحت فيه قد لا ينجح بالضرورة في السعودية. تجارب الدول والأنظمة الأخرى ولا سيما في المجال الصحي أو الاقتصادي ليست دائماً قابلة للزراعة والاستنساخ في دول وأنظمة أخرى. التاريخ والجغرافيا وثقافة المجتمع مختلفة والحلول مختلفة أيضاً، لكن الشيء الذي لا يتغير هو المبادئ الرئيسية:
المبدأ الأول: أنّ الرعاية الصحية الجيدة حق لكل أفراد المجتمع توفره الحكومات بطرق مختلفة وتنفق عليه بالقدر الذي تستطيعه وليست سلعة كمالية. الدولة الوحيدة التي لا تنظر إلى الرعاية الصحية باعتبارها ميزة وليست حقاً للإنسان هي الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ربما هو السبب في أنه لا يزال لديها أكثر من 45 مليون مواطن لا يستطيعون الحصول على العلاج عند حاجتهم إليه إلا بأن يدفعوا من جيوبهم، وهو أحد الأسباب كذلك لكون النظام الصحي الأميركي أغلى نظام في العالم من حيث الإنفاق على الصحة ومعدلات الهدر فيها (30%- 40%). لا تحضرني دولة من دول العالم استطاعت أن تتكسب من وراء القطاع الصحي أو تحقق أرباحاً تعود بها على الخزينة. الكل ينفق والنفقات في تصاعد.
المبدأ الثاني: هو أنّ الرعاية الأولية، وليس المستشفيات هي الأساس الصحيح لبناء نظام صحي فعال.
المبدأ الثالث: الذي وجدته عبر اطلاعي على كثير من تجارب الأنظمة الصحية العالمية، هو أنّ أي إعادة بناء للنظام الصحي (Healthcare System Reform) يجب أن تنطلق من الأسفل إلى الأعلى وليس العكس، وبمشاركة الجميع وليس داخل غرف مغلقة. الاستماع جيداً للمشاكل والتحديات التي تواجه خط الدفاع الأول، وهو الطبيب والممرضة وفني الأشعة والإداري وعامل النظافة وأمين المستودع هو الأساس في تشخيص المشكلة بالشكل الصحيح ووضع الحلول المنطقية لها. هؤلاء الناس هم الأكثر قدرة على إعطاء راسم السياسات الصحية الجواب الصحيح للسؤال: أين نحن الآن؟ ثم على راسم السياسات الصحية أن يحدد بعد ذلك أين نريد أن نكون بعد 5 سنوات أو 10؟ أؤكد هنا أنّ معظم الأنظمة الصحية التي خاضت تجربة إعادة البناء لم تنجح بالشكل الذي توقعته، والبعض منها فشل، وكان السبب المشترك دائماً هو الاستعجال في تحليل الوضع الراهن وتشخيص المشكلة، ولذلك جاءت كل الحلول والمبادرات اللاحقة بمزيد من الأخطاء والتخبط.
وقائع وأرقام
إنّ النظام الصحي السعودي صمم في بداياته ليكون مستنداً على الرعاية الصحية الأولية التي تقدم الخدمات الأساسية، ولكن في مرحلة التنفيذ أصبح التركيز منصباً على المستشفيات التي تقدم خدمات الرعاية الصحية المتخصصة. دائماً ما كانت المستشفيات عالية الكلفة في جميع مراحلها (التصميم- الإنشاء- التشغيل- والصيانة)، وتتميز بصعوبة توفير الكوادر البشرية المطلوبة لأنها كوادر عالية التأهيل. في المقابل، تتميز الرعاية الصحية الأولية بأنها أقل تكلفة لأنها تعالج الأمراض البسيطة التي تشكل معظم قائمة الأمراض التي تصيب الإنسان، وهي أقرب جغرافياً من المستفيدين منها لأنها في كل حي وعند كل تجمع سكاني، وهي تكتشف الأمراض وتعالجها مبكراً لأنها تقوم على مبدأ التوعية والوقاية، وهي لا تتطلب أطباء وممرضات ذوي تخصصات معقدة ونادرة. لا يتطلب الأمر أكثر من ثلاث سنوات لتأهيل طبيب أسرة جيد يغطي معظم احتياجات المركز الصحي. كان المفترض أن تقتصر المستشفيات على تقديم الرعاية الطبية المتقدمة مثل العمليات الجراحية التي تتطلب تخديراٌ عاماً أو الفحوصات المعقدة التي تستدعي معدات تقنية متطورة مثل أشعة الرنين المغناطيسي وغيرها. ولكنك لو ذهبت إلى أي مستشفى في السعودية وأخذت عينة من مرضى أقسام الطوارئ فسوف تجد أنّ ما لا يقل عن 50% منهم لا تستدعي حالاتهم سوى طبيب رعاية أولية مؤهل. ما تأثيرات هذا على النظام الصحي؟ إنّ تأثيراته هي المزيد من الضغط على أسرة المستشفيات والمزيد من الانتظار والمزيد من التكاليف، والمحصلة مريض غير راض تماماً عما قدم إليه لأنه كان يتوقع الأفضل، ونظام أصابه الإرهاق جراء أعباء مادية عالية لا تنفك تتصاعد من عام لآخر.
في المملكة العربية السعودية تصل نسبة النمو السكاني السنوي إلى حوالي 3% وهي نسبة عالية معناها حوالي 900,000 نسمة في كل عام. الأمراض المزمنة لم تتراجع (داء السكري مثلاً ربما أصاب خمس السكان) وحوادث السيارات تخلف المئات من الوفيات والآلاف من المصابين والعاجزين في كل عام، وأعداد السكان الذين يتجاوزون سن الستين في تصاعد (سيصل الرقم إلى مليونين تقريباً في عام 2019) ومعهم تتصاعد وتيرة الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع الضغط وأمراض القلب والشرايين وهي كلها مكلفة للغاية. لا تستطيع أية دولة في العالم مهما بلغ غناها أن تتحمل تلك التكاليف بلا نهاية، وإذا لم نمض قدماً وبسرعة في برنامج التحول الصحي الوطني (مع ملاحظة أننا متأخرون) فسوف نصل عاجلاً أم آجلاً إلى مرحلة سيكون من الصعب جداً على الحكومة وحدها الوفاء بكل تلك النفقات الباهظة.
يؤكد خبراء الرعاية الصحية أنّ كل نظام يعطيك من النتائج وفقاً للتصميم الذي قام عليه. يقوم تصميم الأنظمة الصحية على 6 ركائز أساسية هي: الحوكمة والقيادة، الموارد البشرية، أسلوب التمويل والدفع، المعلومات، الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية، وأسلوب تقديم الرعاية الصحية. من أهم مزايا النظام الصحي التي يختلف بها عن الأنظمة الأخرى (مثل النظام الاقتصادي أو التعليمي) هي أنّ تلك الركائز الست التي تشكله متداخلة مع بعضها بشكل معقد. إذا كان هناك على سبيل المثال خلل في القيادة والحوكمة (Governance & leadership) بمعنى خلل في طريقة إدارة ومراقبة أداء النظام الصحي من خلال قياديين تم تأهيلهم وتدريبهم فسوف ينعكس هذا على باقي الركائز. وبالمثل، فإنّ التصميم الخاطئ لحاجة النظام الصحي من الكوادر البشرية من حيث الكم والكيف سوف ينعكس سلباً على أسلوب تقديم الرعاية الصحية وعلى جودة الأداء. لا تستطيع فصل المكونات عن بعضها أو التركيز على بعضها وإهمال البعض الآخر.
يقوم الوضع الراهن للنظام الصحي السعودي على أنّ المستشفيات وليس مراكز الرعاية الأولية هي المرتكز في تقديم الرعاية الصحية وعليها ينصب الاستثمار، وعلى مبدأ علاج المرض بعد وقوعه وليس منع حدوثه في الأساس، وأسلوب تمويل النظام الصحي مصمم على أنّ الدولة تتحمل بالكامل تكاليف رعاية صحية مجانية اعتماداً على مواردها الطبيعية وهي موارد غير دائمة ومتذبذبة بطبيعتها، والدفع للمستشفيات يتم وفق عدد الأسرة وأعداد القوى العاملة بدلاً من الدفع مقابل الأداء (Pay for Performance) وتقديم الحوافز لمن يستحقها فقط، وهناك شح في آليات قياس الأداء (Performance Measurement) من خلال المؤشرات والأرقام ثم بناء الاستراتيجيات وفقاً لها، وليس هناك فصل بين مقدم الخدمة وممولها ومن يراقب جودتها حتى لا تتضارب المصالح ثم تقل الشفافية ويزداد الهدر وبالتالي تقل الكفاءة. وبوجود كل هذه الثغرات من الصعب تحقيق تغيير ملحوظ في أداء النظام الصحي، لكن الأخبار الجيدة هنا هي أنّ برنامج التحول الصحي الذي تقوده وزارة الصحة حالياً قادر على علاج معظم مواطن الخلل إذا ما تم تنفيذه بالشكل الصحيح. اعتقد أنّ الأمر لا يحتاج سوى ثلة من التكنوقراط ومعهم قليل من الحالمين وهواة الإبداع. رؤية المملكة عام 2030 نفسها يتصدرها الحالمون بغد مختلف!
أسرار التحول الناجح
- مشاريع التحول الصحي في معظم دول العالم التي حاولت ذلك انتهت إلى الفشل. القاسم المشترك الأكبر بين كل تلك الدول كان عدم التخطيط الجيد والدقيق المعتمد على الأرقام والبيانات والهرولة نحو التغيير قبل تهيئة البيئة المناسبة له.
- كما هو الحال في أية خطة استراتيجية، فإنّ خطة التحول الصحي في أي بلد تحتاج إلى أن تبدأ من الأسفل إلى الأعلى وليس العكس. الأطباء والممرضات والفنيون وموظفو الاستقبال وعمال المواعيد وعمال الصيانة وعمال المطعم وعمال النظافة هم أكثر الناس قدرةً على تحديد المشكلة واقتراح الحل. بقاء المخطط الاستراتيجي أو قائد التغيير الصحي في برج عاجي بعيداً عن الواقع لن يؤدي إلا إلى خطة جيدة على الورق، لا يمكن تطبيقها على الواقع!