من مدينة الزقازيق المصرية، خرج فاروق الباز إلى العالمية، ليصبح أحد أيقونات وكالة ناسا للفضاء، ويرتبط اسمه باسم الفريق الذي عمل على إطلاق أول رحلة فضاء من الأرض إلى القمر. بلغ الباز هذا العام الثمانين من العمر، ومازال يقدم إلى العالم وإلى بلده مصر الكثير، عالماً جيولوجياً سابراً لأغوار الأرض والفضاء على حد سواء. فكيف يرى فاروق الباز ميزات فريق العمل النسائي؟
هارفارد بزنس ريفيو: ارتبط اسمك بأول رحلة للفضاء (أبولو) وأول استكشاف للنفط البحري في خليج السويس.. وغيرها الكثير، فما الذي قدمته لك هذه التجارب وما الذي قدمته لها؟
بشكل عام، أستطيع القول إنني كنت أحاول أن أعلم نفسي من كل التجارب التي مررت بها، دائماً ما كان هنالك شيء خفي سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لزملائي، ومن هنا، بدأنا بطرح الأسئلة، ومحاولة العثور على إجابات، وكنا عندما نتحصّل على معلومة معينة، نتشاركها مع الآخرين. والدي كان أستاذاً في الأزهر وكان دائماً ما يقول "من يعلم فعليه أن يعلّم الناس وإلا فلا نفع في علمه"، وهذه الكلمة بقيت في مخيلتي على الدوام، الإنسان يجب أن يتعلم ويتعرف كي يصبح لحياته معنى رونقاً، وحين تتعلم شيء جديد عليك أن تعلّمه للناس.
ذكرت مؤخراً، أن معظم الفريق الذي شارك في رحلة أبولو كان من الشباب، وأنك تعلّمت درساً من تلك الرحلة بأن الشباب يمكن أن يكون قيادياً، رغم قلة الخبرة، كيف يمكن أن نفهم هذا الدرس في ظل وجود رؤية عند كثير من المؤسسات والحكومات تعتبر أن الشباب غير قادر على تولي مهمات استراتيجية كبيرة وخطيرة؟
فاروق: هذه نقطة مهمة جداً في نظري، لأنني وفي عزّ الترتيبات لأول هبوط للإنسان على سطح القمر، وكان عمري آنذاك 29 سنة، وكان ذلك متزامناً مع رحلة أبولو 11، حين كان الرواد لديهم ما يسمى "sleep cycles" أي نائمين في طريقهم إلى القمر، كانت السفينة وكل شيء فيها يعمل بشكل منتظم، وكان الأشخاص في مركز ناسا في هيوستن يعملون بجدّ، فقلت لبعض زملائي يومها: "تعالوا نحسب معدّل أعمار الأشخاص الذين نظّموا هذه الرحلة"، لأنهم كانوا صغاراً في العمر بحسب ملاحظتي، فمشينا في طرقات مركز إدارة الرحلات الفضائية، وجمعنا الأعمار كلها وظهر أن متوسط العمر كان حوالي 26 عاماً. يومها تعجبّنا من أن المسؤولين عن كل ما هو مهم في هذه الرحلة الفضائية التاريخية، وكذلك المسؤولين عن حركة المكوك، وكل تفصيل فيها يبلغ متوسّط أعمارهم 26 سنة. لماذا هذه الأعمار؟ أنا فكرت فيها واكتشفت أنهم شباب تخرجوا حديثاً من جامعاتهم ويريدون إثبات أنفسهم ويريدون أن يظهروا أنهم قادرون على القيام بهكذا أعمال، ويعملون في سبيل شهرة الولايات المتحدة الأميركية. كان لديهم نشاط كبير آنذاك.
عملت ميدانياً في اكتشاف الأرض والفضاء، ومن ناحية أخرى، كنت محاضراً، أين وجدت نفسك أكثر؟
كنت أحب جميع المهام التي أقوم بها، فالعمل الميداني يؤهل الإنسان على القيام بأبحاث جيدة، وهذه الأبحاث بالتالي تؤهله لأن يدرّس الطلبة بشغف ويقدم لهم المعلومة، وبالتالي كل مهامي تكمل بعضها.
بدأنا العمل في مجال الفضاء عبر الحصول على صور من مركبات غير مأهولة، واختيار مواقع الهبوط على القمر، كان ذلك سيتم من خلال لجنة كنت أنا سكرتيرها في العام 1967. كان علينا أن ندرس مواقع الهبوط لكي نؤمن هبوطاً سليماً للمركبات، وهذه الصور أخذناها من (Lunar Orbiter) وهي 5 سفن غير مأهولة مهمتها تصوير الزوايا والأماكن، كان لدينا الكثير من الصور وكنا نعتمد على اختيار مواقع الهبوط بناء على تفسيرنا للصور. وبعد إثبات أن تفسيرنا وكلامنا صحيح، كنت أنتظر أن نأخذ صورة للأرض من الفضاء ونستطيع شرح تضاريس الأرض بطريقة أفضل. تم اختياري مسؤولاً عن التصوير في رحلة بعد مشروع أبولو في العام 1975، وكانت مهمتي التخطيط لرحلة (apollo soyuz) وكنت مسؤولاً عن تدريب الرواد وتصوير الأرض من الفضاء، وحين رأيت صوراً لمناطق كنت أعرفها كصحراء مصر، بدأت فهم تضاريس كثيرة عن صحراء مصر عبر صور أبولو سيوز (apollo soyuz) لم أكن لا أنا ولا زملائي نفهمها، ونتج عنها أننا اكتشفنا أن هناك دلتا للنيل غير الدلتا التي نعرفها جنوب غرب الدلتا الحالية منذ أكثر من مليون سنة، عندها اتجهنا للمكان واكتشفنا أن كلامنا صحيح، ورأينا بقايا صخور لا تأتي بها إلا الأنهار وتترسب على شكل دلتا.
هل من حكمة أو درس استخلصته من هذه التجارب؟
كل ما كنا نراه كان يزيد من فهم مكانتنا والتغيير الذي يحصل مع الزمن، نحن نتغير وتضاريس الأرض تتغير أيضاً، وفهمنا للكون كان مرتبطاً بعملنا، إن ما حدث معي غيّر من نظرتي للحياة، وكل هذه التجارب شجعتني لأعلّم ما اكتسبته لغيري.
لديك شغف واضح باستكشاف الصحراء، كما أنك ترأس المجمع العربي لبحوث الصحراء، لماذا كل هذا الشغف؟
لأنها المكان التي لا نعلم عنه كما نعلم عن باقي تضاريس الأرض، وبلدي فيها جزء كبير من الصحراء، هذا الموضوع استفزني لأن أحداً لا يعرف عن الصحراء، وتوصلت بفضل الأبحاث إلى اكتشاف 20% من الصحاري. كان مهماً معرفة الأماكن التي تحتضن المياه الجوفية وأيضاً الأماكن الصالحة للزراعة، وهذا كان مهماً جداً بالنسبة للبشرية.
إذا رغبت بتسمية مراحل في حياتك كنقاط تحول فما هي أهم ثلاثة مراحل غيرت حياتك وكيف؟
أكبر نقطة تحول في حياتي كانت عام 1965، عندما كنت حديث التخرج كدكتور في الجويولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية وعدت إلى مصر للعمل، ففوجئت أن وزارة التعليم قررت إلزامي بالعمل مدرساً لمادة الكيمياء في المعهد العالي في السويس، يومها رفضت ذلك لأنني حاصل على دكتوراه في الجيولوجيا وليس في الكيمياء. ومع إصرار الوزارة قررت الذهاب إلى القاهرة لمقابلة الوزير، فرفض الوزير مقابلتي طيلة ثلاثة أشهر، حيث كنت آتي يومياً إلى مكتبه من التاسعة صباحاً حتى الثانية والنصف من بعد الظهر في محاولة للقاءه لكنه يرفض. كنت مستعداً للقبول لو أقنعوني، لكن ذلك لم يحدث.
وفي ذلك الوقت كان هنالك أربع جامعات تدرس الجيولوجيا في أميركا واحدة منها تلك التي حصلت على الدكتوراه منها، وكان كل رؤساء أقسام الجيولوجيا في تلك الجامعات الأربع يريدونني، لأنني كنت أول من حصل على الدكتوراه في الجيولوجيا الاقتصادية في تلك الفترة، فكان قرار عودتي لأميركا أكبر نقطة تحول في حياتي.
هل غادرت مصر بعد هذه الحادثة؟
نعم، أولاً عملت بشكل غير شرعي (illegally) في شركة نفط، وبذلك اكتشفت النفط في خليج السويس، وبعدها أرسلتني الشركة لتلقي التدريبات في باريس، وبعدها تركت مصر.
هل كنت ملزماً بالتدريس في مصر لأنك كنت طالباً ضمن بعثة؟
نعم.
هل تمت ملاحقتك طلباً للمال الذي تم دفعه من أجل المنحة؟
قمت بدفع المبلغ كاملاً، لأن هذا حق، بعد أن بدأت بالعمل، كنت أرسل جزءاً من المال، على شكل دفعات، حتى انتهيت من تسديد المبلغ بشكل كامل.
وماذا عن التحول الثاني؟
الفرصة الأولى لي للعمل كجيولوجي كانت في ناسا، تقدمت للعمل يومها وقبلوني وهناك أثبتّ نفسي، وكان ذلك في العام 1967.
التحول الثالث، عندما عملت في أبولو، وعندما أكملت دراستي وبدأت العمل في مجال الأبحاث، وبعدها دعاني رئيس جامعة بوسطن لإنشاء مركز أبحاث حول الصور الفضائية في العام 1986.
ما هي منهجيتك في إدارة فريق عملك؟ وما أهمية تكامل فريق العمل لتحقيق النجاح في مجال الفلك والجيولوجيا؟
تعلمت إدارة الفريق من منهجية ناسا، ومن أهم الأمور التي تعلمتها، أنني إذا كنت أدير فريقاً، واقترح أحد أعضاء الفريق أمراً ما، عليّ ألا أرفض اقتراحه، حتى لو كنت متأكداً من أنه غير نافع، بل على العكس، عليّ أن أدفعه وأشجعه للقيام بما يريد، ليكتشف بنفسه الخطأ إن كان مخطئاً، ولأنني أعتقد دوماً أن هذه التجارب أو الأفكار حتى لو كانت فاشلة، ولكنها ستساعد أعضاء الفريق على تقديم الاقتراحات المستقبلية والتي من يمكن أن تكون مفيدة في يوم ما.
هل كنت تتقصّد أن يكون معظم فريق عملك من النساء، أو كان ذلك مصادفة؟
كانت بداية انتباهي إلى هذه الناحية، في العام 1972، حين التقطنا حوالي 3 آلاف صورة للقمر، وكنا نريد نشرها وتقديم شروحات عنها في كتاب، فقمت بالإعلان في الجامعات أنني أريد طلاباً وباحثين جيولوجيين يساعدون في تنظيم هذه الصور، يومها تقدّم 30 شخصاً للقيام بهذه المهمة. وجمعتهم في غرفة واحدة، ثم طلبت منهم جميعاً طلباً واحداً كان هو الاختبار، فقد أعطيتهم صورة من النصف الخلفي من القمر، وهي صورة لم يرها أحد من قبل، وأعطيتهم ثلاث ساعات لتفسير ما يرونه في الصورة، وبعدها جمعت الإجابات واخترت أفضل 12 إجابة من بينهم، وتبين لي أن أصحاب الإجابات الأفضل كانوا عبارة عن عشر إناث وذكرين فقط. بعد ذلك، بدأت ألاحظ أن الإناث أكثر إنتاجية في هذا المجال من الذكور، خاصة أن الإناث كن يتعلمن من أخطائهن وكنّ يتقبّلن الملاحظات، على خلاف الذكور. وما أقوله على كل حال تؤيده دراسات هارفارد والتي نشرتموها في هارفارد بزنس ريفيو.
عملت مستشاراً لرئيسين للجمهورية المصرية (أنور السادات والحالي عبد الفتاح السيسي) على أي أساس تقبل عادة الخوض في مثل هذه التجارب التي تبعدك عن دورك العلمي؟
كنت مقتنعاً بفكرة السادات بغزو الصحراء، وكان ذلك مهماً من حيث اكتشافها، قبل السماح للناس بالسكن فيها، وقد شاركني السادات في زيارتي الاستكشافية في الصحراء، وقضى معي 12 يوماً فيها محاولاً التعرف على ما اكتشفته بنفسي.
بقيت لمدة طويلة أزور الصحراء، محاولاً اكتشافها، وقد قام السادات بتعييني مستشاراً علمياً، بعد أن رأى النتائج الإيجابية.
أما مع السيسي، فقد أوجد مجموعة من 10 أشخاص تعمل في هذا المجال، وأنا حالياً أعمل بصفتي عضواً في لجنة الاستشاريين هذه، وبالتالي فإن الوضع مختلف الآن، وما أقوم به عادة هو أنني أقدم أفكاري ومقترحاتي وهذا واجبي من باب النصيحة، وعلى السلطات الرسمية أن ترى جدوى التطبيق لكنني أخلي مسؤوليتي بتقديم الاستشارة التي أراها صائبة.
ما هو الوقت الذي تقضيه في العمل يومياً؟ وماهو برنامجك اليومي من حيث الاستيقاظ والنوم والرياضة والطعام؟ هل هناك نشاطات أو هوايات أخرى تحب القيام بها؟
أنا أمشي كثيراً، أنا أسكن في بوسطن ولا أملك سيارة، وبالتالي، فأنا أمشي ساعتين على الأقل يومياً.
كما أن القراءة بالنسبة لي مهمة جداً، عندما كنت أعمل مع ناسا، كنت أعمل في النهار، وأقرأ في الليل. زوجتي مهتمة بالأدب والتاريخ، وأنا بدوري أشاركها حب المطالعة.
هل يمكن أن تذكر لنا آخر ثلاثة كتب قرأتهم؟
الكتاب الأول هو عن مقدمة ابن خلدون، لروبرت إيروين، وهو كتاب بالإنجليزية، تطرق لشخصية إبن خلدون نفسه وعن عظمته وفكره، أما الكتاب الثاني، فهو سقوط الدولة العثمانية، للمؤلف جين روجان، وفيه تكلم عن العثمانيين قبل عهد أتاتورك، وعن منطقة البلقان، وعن العرب في ذلك الوقت، ورأيت أنه كتاب مهم جداً، أما الكتاب الأخير، فكان بعنوان الوهم الأخضر لبروين حبيب، وهي إعلامية وناشطة صديقة لي، والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات التي كانت تنشرها في الصحف، وعملت إلى جانبها عندما كنا أعضاء في إحدى لجان اللغة العربية سابقاً.
ما هدف التنوع في قراءاتك؟ هل هو مفيد بالنسبة لعملك؟
نعم، التنوع مهم جداً، لأن علينا أن نمتلك فكرة عن كل ما هو مختلف عن مجالاتنا.
بماذا تنصح الشباب الذين يعتبرونك قدوة لهم؟
لا تقف عن جمع العلم والمعرفة على الإطلاق. منذ فترة كنت أستلم الدكتوراه الفخرية من جامعة عين شمس، ويومها قلت للطلاب إن الشهادة الجامعية مهما كان نوعها، تعني شيئاً واحداً، أنك كنت في مرحلة من التعليم تحتاج إلى من يعلمك، أما بعد تحصيلك الشهادة، فقد بات باستطاعتك تعليم نفسك.
اقرأ أيضاً: