يُظهر الكثير من الأبحاث أن النساء القياديات، عليهن أن يتعاملن مع الآخرين بلطف وكياسة بقدر أكبر بكثير من نظرائهن الرجال؛ وهو ما يتوقعه المجتمع عادة من تعامل النساء مع القيادة وأعرافها، فضلاً عن أنّ عليهن التمتع بالكفاءة والصرامة؛ وهو ما يتوقعه المجتمع تقليدياً من الرجال والقادة.
والمشكلة هي أن هذه الصفات غالباً ما تُعد متضاربة وهو ما يضع النساء القياديات أمام معضلة صعبة. وصفت كارلي فيورينا الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة "هيوليت-باكارد" (آتش بي) (HP) الأمر على هذا النحو: "في غرف الدردشة في مختلف أنحاء وادي السيليكون، منذ الوقت الذي وصلتُ فيه إلى شركة "آتش بي" وبعد أن تركتُها بفترة طويلة، كان يُشار إليّ تارة بلقب الجميلة الحمقاء وأخرى بلقب المُتسلطة - لقد كنتُ تارة شديدة اللين وأخرى بمنتهى القسوة والغرور، في الوقت نفسه".
كيفيية تغيير التوقعات المجتمعية المعنية بالنساء القائدات
وللخروج من هذا المأزق يجب تغيير التوقعات المجتمعية حول اعتبار القائد امرأة وما يلزمها للقيادة. ولكن إلى أن نصل إلى هناك، ما زال على المديرات التنفيذيات أن يبحرن بأمان عبر هذه الأمواج المتلاطمة.
أردنا معرفة كيف تفعل النساء الناجحات ذلك، من خلال تعاطيهن مع تفاصيل عملهن اليومي. لذلك أجرينا مقابلات مكثفة مع 64 من كبار القيادات النسائية (جميعهن على مستوى نائب الرئيس أو أعلى) من 51 شركة ومؤسسة مختلفة في الولايات المتحدة، بما في ذلك: رئيسات تنفيذيات ومديرات عامات ومديرات تنفيذيات عبر مختلف المهام، وفي مختلف قطاعات الأعمال. ووجدنا أن هناك أربع مفارقات كلها تنبع من حاجة هؤلاء النساء لأن يكنّ قاسيات ولطيفات في الوقت نفسه. كما حددنا خمس استراتيجيات يستخدمنها لإدارة هذه المفارقات.
اقرأ أيضاً: هل النساء أكثر جرأة من الرجال في القيادة؟
أربع صفات لتحقيق التوازن
المفارقة الأولى: متطلِبة ولكن مهتمة. أخبرتنا المديرات التنفيذيات اللواتي شملتهن دراستنا أنه يجب عليهن أن يطلبن أداء عالياً من الآخرين، مع إظهار الاهتمام بأمرهم في الوقت ذاته. على سبيل المثال، روت لنا نورما*، وهي مديرة تنفيذية للموارد البشرية في الخدمات المالية، كيف أدت مثابرتها في مشروع سابق إلى تحقيق نتائج ناجحة في المشروع، ولكنها حصلت أيضاً على بعض التعليقات السلبية، حيث قالت: "أتذكر برنامجاً صممته وشكك الجميع به، كنتُ أعرف في أعماق قلبي وحدسي أنه سينجح. لذا واصلت المضي قدماً، وحقق نجاحاً كبيراً جداً، لقد تلقيت تعليقات بأنني الجأ إلى التخويف ومن هذا القبيل. هل كنتُ سأحصل على تعليقات مماثلة لو كنتُ رجلاً؟".
المفارقة الثانية: متحكّمة ولكن متعاونة. تكمن المفارقة هنا بين التأكيد على كفاءة الفرد والاعتراف بضعف الفرد وطلب مساعدة الآخرين وتعاونهم. فمن ناحية، تعلمت القيادات النسائية كيف يُظهرن نقاط قوتهن كمتحكِّمات، لأنه بدون القيام بذلك يخاطرن بأن يُنظر إليهن على أنهن غير جديرات بالمصداقية، لاسيما في بداية توليهن دوراً جديداً في الشركة. لقد تعلمن كيف يظهرن القوة ويتحدثن بصوت أعلى ويتصرفن بحسم.
من ناحية أخرى، ولتجنب أن يُنظر إليهن على أنهن متعجرفات، سرعان ما تعلمت القيادات النسائية كيف يعترفن بنقاط ضعفهن ويعملن مع الآخرين. فعلى سبيل المثال، قالت كاملة وهي مديرة عامة في مجال التصنيع: "لقد فهمت ميلي نحو توجيه الأوامر، كان علي أن أتعاطى مع الأمر وربما أن أخفف من ذلك وأن أعمل بتَرَو أكبر؛ أُبطىء الوتيرة لكي يتسنى لي أن أتقدم بسرعة، ولكي يتقرب الناس إلي ويفهموا أننا نعمل في صف واحد".
المفارقة الثالثة: الترويج لأهدافهن وخدمة الآخرين. تنطوي المفارقة الثالثة على تلبية احتياجات الفرد وأهدافه وكذلك احتياجات الآخرين وأهدافهم. وإنّ التركيز بشكل كبير على جانب واحد يمكن أن تنشأ عنه مشكلة جدية. على سبيل المثال، أخبرتنا نبيلة، وهي مديرة تنفيذية استراتيجية في شركة محاسبة، كيف كانت تشارك معرفتها مع الآخرين، لتشعر في وقت لاحق بأنها تعرضت للاستغلال عندما لم يبادلوها الأمر نفسه. وعلى النقيض من ذلك، كادت مريم، وهي مديرة عامة للخدمات الصحية، تفقد منصبها في فريق القيادة لأنها كانت تُعد عدوانية للغاية في التفاوض مع المعنيين في الشركة من أجل الترويج لأهدافها الخاصة.
المفارقة الرابعة: الحفاظ على الهيبة وإظهار الود. في بعض الأحيان، رأينا المشاركات في الدراسة يكافحن من أجل إثبات كونهن قياديات يتميزن عن زملائهن وأعضاء الفريق، مع تطوير علاقات وثيقة معهم في الوقت نفسه. ولكسب احترام الباقين، أبقت القيادات النسائية على هَيْبتهن أمام الآخرين وحافظن على حضور قيادي غير شخصي وُصف بأنه احترافي وموضوعي وجاد. وفي الوقت نفسه، لاحظن أنهن قد يولِّدن الانطباع عند الآخرين بأنهن عنيدات وأنانيات، وغير مباليات، مما يجعل من الصعب كسب الثقة والالتزام.
ولجسر هذه الهوة، عملت الكثيرات بوضوح وحزم على إظهار الجانب الإنساني الحميم من شخصيتهن، ومن ثم بات يُنظر إليهن بدلاً من ذلك على أنه يسهل مخاطبتهن وعاطفيات واجتماعيات ويسهل التواصل معهن وودودات وغير متكلفات ويسهل التعامل معهن. شرحت لنا ديمة، الرئيسة التنفيذية لمنظمة غير ربحية، كيف فعلت هذا من خلال مسألة بسيطة مثل الملابس، حيث قالت: "أحاول دائماً ارتداء ملابس رسمية أكثر قليلا من الموظفين، ما عدا يوم الجمعة عندما أرتدي ملابس غير رسمية تماماً لكي أقول للباقين إنني لست جامدة ومنغلقة. نحن نمرح عموماً، ولكن هناك القليل من الهَيبة التي أحاول الحفاظ عليها، وأريد أن يرى الناس أنني إنسانة منصفة ولا أفضل شخصاً على آخر".
اقرأ أيضاً: بحث: النساء تسجل نقاطاً أعلى من الرجال في معظم المهارات القيادية
استراتيجيات لإدارة التوتر
يتبين من خلال ما توصلنا إليه أن الإبحار بنجاح بين هذه المفارقات يتطلب من القيادات النسائية أن تدركها أولاً، وأن تفكك عناصر التوتر المختلفة الملتفة حول بعضها في مزيج من اللطف والقوة. ومن ثم، يمكنهن تطوير مجموعة من الاستراتيجيات وتخصيصها لتنفيذها، وبالتالي تعزيز كفاءتهن ومرونتهن. لقد حددنا لذلك خمس استراتيجيات:
التكيف مع الوضع. أخبرتنا معظم المشارِكات في دراستنا أنهن يتعاملن بلطف وصرامة تِبعاً للمواقف المختلفة ومجموعات الأفراد المختلفة التي يتعاطين معها. فعلى سبيل المثال، للحفاظ على الهيبة أمام الآخرين مع ترك مجال للتقرب والتودد في الوقت نفسه، تقول رشيدة في هذا الصدد، وهي مديرة عامة في شركة صناعية: "أتقصد عدم الجلوس على رأس الطاولة في أوقات معينة. يعتمد ذلك على طبيعة الاجتماع وبيئة العمل. أرغب أحياناً في الإشارة إلى أنني مجرد عضو في الفريق اليوم، وفي أحيان أخرى أريد أن أكون واضحة تماماً بأنني هنا لاتخاذ قرار، ومن ثمَ أتخذ وضعية مختلفة بعض الشيء".
التدرَج بالأمر. الاستراتيجية الأخرى هي أن تكون القيادة النسائية لطيفة (أو تبدي الاهتمام والتعاون) في بداية الأمر ثم تنتقل إلى أسلوب الصرامة (أو تكون متطلِبة وتوجه الآخرين). في البداية، تقومين ببناء العلاقات، وترسخين الثقة وتجعلين الناس يشاركون في العمل، ثم تنتقلين إلى انتهاج سلوك أو لغة أصعب للخروج من الوضع الراهن أو تحقيق الأهداف.
على سبيل المثال، شرحت بارعة، وهي مديرة عامة في إحدى شركات الخدمات المالية فلسفتها في العمل مع الآخرين بقولها: "أعتقد أن الأمر يتعلق ببناء تلك العلاقة اليومية التي يكون فيها الناس مستعدين لبذل كل جهد ممكن لمساعدتك في إنجاز مهمة ما". وبالمثل، تحدثت رانية، وهي مسؤولة تنفيذية عن تطوير منتجات جديدة في قطاع التصنيع، عن حادثة دفعتها للتخلي عن مشروع كان بعض أقرانها متمسكين به. تمكنت من القيام بذلك دون إثارة شعور بالاستياء تجاهها لأنها استثمرت الكثير من الوقت في تطوير علاقات تعاونية قوية كانت مفيدة في ما بعد، إذ كما قالت: "يمكنك العمل من خلال بعض الديناميات المكتبية، [وتشرح للآخرين]: أنا لا أحاول أن أقلل من قيمة عملكم. كل ما أسعى إليه بالفعل هو العمل من أجل تحسين أداء الشركة".
البحث عن استراتيجية المكسب للجميع. ركز العديد من النساء اللاتي تحدثنا إليهن على تحديد الفرص التي يصح فيها استخدام اللطف والحزم في وقت واحد، وهو ما يطلقن عليه أحياناً استراتيجية المكسب للجميع. على سبيل المثال، وصفت دُرِّية، وهي مديرة عامة للخدمات الصحية، طريقة تفكيرها، قائلة: "إن أهم شيء هو فهم ما هي القيم والصفات وأهداف ذاك الشخص الذي تحاولين التأثير عليه. لذا، عملتُ على الدوام على معرفة ما الذي أسعى إلى تحقيقه وأربطه بشيء أعرف أنهم يريدون تحقيقه".
التشدد إزاء المهام والرفق بالأشخاص.
من خلال هذه الاستراتيجية، ركّزت القيادات النسائية على التعامل برفق مع الناس والتشدد إزاء إنجاز المهام في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، قالت سامية، وهي مشرّعة في إحدى الlالمؤسسات الحكومية، متحدثة عن تجربتها: "تعلمتُ أنني يمكن أن أختلف بشدة حول قضية ما مع أحدهم، ولكننا نعود أصدقاء ما إن نخرج من الغرفة. لقد أدركت بالفعل أهمية القدرة على الفصل بين الأمرين".
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل فريق العمل أذكى؟ المزيد من النساء بين أفراده
وشاركت دينا، وهي مديرة تنفيذية استراتيجية في مؤسسة مالية، مثالاً آخر شرحت به كيف عندما قدّم أحد الزملاء اقتراحاً غير مُرض، لجأت إلى أسلوب ليّن لإيصال رسالة قاسية، إذ قالت: "أردت أن أكون صريحة بما فيه الكفاية، فقلت له: هذا مثير للاهتمام، هل يمكننا إجراء المزيد من الأبحاث حوله؟ هل يمكننا أن نختبر هذا الأمر أمام الشركات الأخرى؟ فبهذه الطريقة يمكنك إيصال فكرتك دون أن تضطر إلى القول: اسمع، أعتقد أن هذا الطرح غبي حقاً، ولن نفعل ذلك. حيث سأكون أكثر فعالية كقيادية إذا صغت إجابتي على شكل سؤال".
إعادة تعريف الأمور. وجدنا أن القياديات عملن أيضاً على إعادة تعريف ما يعنيه أن يكنَّ لطيفات وحازمات في الوقت نفسه. لقد ركزن على الربط بين السلوكين وتعزيز المواقف الإيجابية المتصلة بهما. لقد احتاج الأمر إلى إعادة صياغة سلوكيات قد تُعد نقاط ضعف لتصبح نقاط قوة.
على سبيل المثال، وصفت القيادات النسائية إظهار الضعف على أنه يعكس ثقة داخلية بالنفس، أي الشعور الكافي بالأمان للكشف عن نواحي التقصير والضعف لديهن بشكل مريح. وقالت فريدة، وهي رئيسة قسم في شركة صناعية: "أشعر بثقة تامة عندما أقول: ’لا أعرف الإجابة لكنني حريصة على أن أعرف‘، أو ’لا أعرف الإجابة ولكني أعرف أن لدي القدرة على معرفتها‘".
ويقوم نهج آخر على اتباع سلوكيات معزِّزة قد يجدها البعض تهديداً لهم كونها تنم عن اهتمام صادق. على سبيل المثال، تحدثت لارا وجمانة ونورما عن إبداء ردود فعل سلبية أو التعبير عن الاختلاف في الرأي كمحاولة لمساعدة الآخرين.
على المدى الطويل، يجب على المؤسسات والمجتمع إحداث تغيير منهجي للتخفيف من حدة التوقعات المتضاربة بالنسبة إلى النساء والعوائق الإضافية التي تشكل تحدياً لدورهن القيادي. ولكن ما دامت المديرات التنفيذيات يواجهن تلك المعضلة المتعلقة بتعامل النساء مع القيادة، فهن بحاجة إلى إيجاد طرق للتعامل معها.
*تم تغيير جميع الأسماء
اقرأ أيضاً: بحث: المستثمرون يعاقبون رائدات الأعمال على سلوكياتهن