سرعان ما انتقل إيلون ماسك، بعد تأسيسه لموقع باي بال وبيعه، إلى إطلاق مجموعة مشاريع ذات تطلعات مغيّرة للعالم حول كيفية توليد الطاقة ونقل الأشخاص والسلع والتفاعل مع الآلات واستكشاف نظامنا الشمسي، ولذلك فهو شخص ناجح بشكل استثنائي وبكلّ المقاييس. وتتطلع هذه المشاريع إلى رؤية موحّدة – تُعدّ أكثر من مجرد سعي جامح - من أجل مستقبل أكثر استدامة ومرونة للبشرية، ويتم تنفيذها من خلال مزيج من الهندسة المميزة والتفكير الإبداعي. ودون شك، يبقى النجاح النهائي لهذه المساعي سؤالاً مفتوحاً. لكن حتى الآن، تحدت هذه المشاريع التوقعات وألهمت الناس في جميع أنحاء العالم.
تُعرّف موهبة ماسك في ريادة الأعمال على أنها القدرة على تحويل الأفكار الأساسية والمفيدة إلى ابتكارات عمليّة، وهي أمر رائع بالفعل. ومع ذلك، هناك جانب آخر واضح لماسك، الذي تجلى مؤخراً - وفي كثير من الأحيان - بتفاعله الفعّال مع المستثمرين ووسائل الإعلام والموظفين ومنصات التواصل الاجتماعي واستصعابه البادي في تقبل الانتقاد. فمن شأن هذا النمط السلوكي، الذي يتناقض تناقضاً صارخاً مع الطبيعة الإنسانية لرؤيته من أجل التغيير الإيجابي، أن يقوّض صفاته القيادية، ما دفع محرر عمود في صحيفة نيويورك تايمز ليصف ماسك بأنه "دونالد ترامب لوادي السيليكون".
بالطبع، هناك تاريخ طويل لرواد الأعمال الناجحين والصناعيين وأصحاب المليارات العصاميين الذين تميزوا بمواهبهم وإنجازاتهم وشخصياتهم الغريبة أو الصعبة أو المتقلبة. وفي هذا الصدد، قضى هوارد هيوز معظم أيام حياته الأخيرة في عزلة تامة بدلاً من الانخراط مع الناس خوفاً من التعرض للجراثيم حصيلة لذلك. من جانبه، ركَّب جون بول جيتي هاتفاً مدفوعاً في منزله يعمل بالقطع النقدية المعدنية لتجنب التكلف على مكالمات ضيوفه الهاتفية، مع أنه كان أغنى رجل في العالم في ذلك الوقت. بينما طَرَدَ تيم أرمسترونج، خلال فترة توليه منصب الرئيس التنفيذي لشركة أيه أو إل (AOL)، مسؤولاً تنفيذياً في أثناء مكالمة جماعية مباشرة بعدما التقط صورة له أثناء الاجتماع ونشرها على موقع الشركة الإلكتروني، أما ستيف جوبز فكان معروفاً بتوبيخه للموظفين والموردين بلهجة فظة.
ومن هنا، تتجلّى الصورة النمطية لرواد الأعمال الناجحين بأنهم أشخاص صعاب المراس، وهي صفة راسخة لديهم، ما جعل الكثير من الناس يفترضون أنّ مثل هذه الصفات الصعبة هي السبب في نجاح رواد الأعمال، لكن في الواقع، من المرجح أن ينجح الموهوبون بشكل استثنائي مثل ماسك وهيوز وجوبز وجيتي وأرمسترونج، على الرغم من امتلاكهم لهذه السمات. بالنسبة لمعظمنا (الذين لا يمتلكون براعة هؤلاء الأشخاص)، فإنّ السماح لهذه الصفات الصعبة بالتحكم بنا، سيؤدي إلى عواقب وخيمة على حياتنا المهنية والشخصية.
وعلى الرغم من أن سلوكيات "الجانب المظلم" لا تسبب النجاح بحد ذاتها، إلا أن النجاح يؤدي إلى تفاقمها بكل تأكيد. فغالباً ما يعزّز النجاح الجانب المكروه في شخصيات الناس، ربما لأنّ السلطة تقلّل من دوافعهم للمحافظة على حُسن سمعتهم؛ فكلما زادت القوة والنفوذ لديك، قلّ اهتمامك في إرضاء الآخرين ومراقبة جانبك المظلم.
إنّ وادي السيليكون، مع الخرافة القائلة أن رجل أعمال واحد يمكنه زعزعة الصناعات القائمة بسبب ابتكاراته، هو عرضة بشكل خاص لهذه الديناميكيات. وبالتأكيد، يمكن لثقة رائد الأعمال العالية أن تُلهم محبيه وتحفزهم، وتشير الأبحاث إلى أن الشعور بشيء بسيط من النرجسية ليس شائعاً بين القادة ذوي الأداء العالي فحسب، بل مفيداً أيضاً. ولكن هناك مشكلتان في هذا الأمر: المشكلة الأولى هي اختفاء هذه الفوائد في الأوقات الصعبة والمعقدة، أما الثانية فتتمثل بالعدد الكبير من القادة الذين يُظهرون المزيد من النرجسية بمجرد تحقيقهم لنجاح كبير. وما يمكن اعتباره في البداية قوة - وهو التفكير بشكل مختلف والاستعداد لتحدي العُرف الإجتماعي - يمكن أن يصبح نقطة ضعف بمجرد إزالة جميع الضوابط الخاصة بسلوك الفرد، وسرعان ما يصبح هذا السلوك هزيمة للذات. وعلى وجه الخصوص، ثمة أربعة عوامل نفسية من شأنها أن تشكل خطراً على رواد الأعمال وعرقلتهم وهم على وشك تحقيق نجاح طال انتظاره، وهي كالتالي:
- الثقة العمياء: يمكن للنجاح الاستثنائي أن يؤدي إلى الغرور وتضليل الذات. فبغض النظر عن مدى تحقيق الناس للإنجازات، قد يأتي الوقت لتتجاوز فيه نظرتهم الذاتية إنجازاتهم، ما يجعلهم غير مدركين لحدودهم وفرحين بأنفسهم دون مبرر. ما يؤدي إلى ثقة الشخص المفرطة في قدراته، أو ما وصفه اليونانيون القدماء بالعجرفة: وهي تعاظم النفس الذي يسيء للآلهة، والتي يترتب عليها عقاب الآلهة على شكل تحقير.
- النرجسية: يخلق النجاح صورة مفعمة بالإطراء للنفس، والتي يمكن في كثير من الأحيان أن تتضخم في وسائل الإعلام، ما يؤدي إلى شهرة ثانوية، أو إلى النجومية كما هي الحال مع اشخاص مثل جوبز وماسك. ويمكن أن يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى تعزيز النرجسية لدى الإنسان، حيث يحاول الأفراد الناجحون حماية صورتهم المغرية من الرياح العاتية والعيوب الحتمية. وعند استجواب النرجسيين أو تحديهم، عادة ما يتفاعلون بعدوانية ويضاعفون ردهم عن طريق تقديم ادعاءات أقوى. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن النرجسية توجد في الغالب جنباً إلى جنب مع الكاريزما والفتن، ما دفع سيغموند فرويد إلى الإيحاء بأننا مرتبطون بطريقة ما لنُعجب بالأشخاص المعجبين بأنفسهم، أي غالباً ما نُظهر الحب والإعجاب العلنيّيَن لقادتنا وقدواتنا كبديل للتعبير عن حب النفس. ومع ذلك، تشير الأبحاث الحديثة إلى أنه كلما زاد اتصالنا بالقادة النرجسيين، عرفناهم بحق، وقللنا من تقييمهم الإيجابي.
- العزلة: من الصعب قول الحقيقة للأشخاص الذين يمتلكون السلطة، لاسيما عند مواجهة الأفراد المؤثرين والواعدين الذين تؤدي موافقتهم إلى منافع ملموسة وغير ملموسة للآخرين. ويخلق النجاح نقصاً في ردود الفعل والأحداث السلبية، وزيادة في الإطراء والخنوع. فكلما ازدادت مكانتك وقوتك، ازدادت هيبتك بين الآخرين، وأحطت نفسك بأشخاص يتوددون إليك؛ يحوّلون نظرتك المتضخمة لذاتك إلى نبوءة تحقق ذاتها. ولذلك، لن يكون لدى المدراء التنفيذيين، الذين يستجيبون بشكل سيئ للأحداث السلبية، والذين يعتبرون أنفسهم متفوقين، سوى حافزاً قليلاً لإنشاء فريق قوي ومستقل يجرؤ على تقديم ملاحظات نزيهة ومهمة للغاية. ويتفاقم كل هذا بزيادة الشعور بالوحدة والعزلة، والتي يمكن أن تتفوق على قدرة الفرد على الحصول على تصور دقيق لما يحدث.
- انخفاض الحاجة لضبط النفس: إنّ زيادة العزل من عواقب الفشل تعد واحدة من عوامل جذب النجاح، حيث تسمح الحرية والاستقلالية، في أحسن الأحوال، بأن يصبح الإنسان أكثر ارتياحاً وأجدر بالثقة. ومع ذلك، فإن هذه السلوكيات يمكن أن تقع تحت ظلمة الانحرافات والمضايقات المعادية للمجتمع عندما تترك دون رادع. وبدوره، يؤدي انخفاض الحاجة إلى ضبط النفس لانخفاض الإنتاجية وجودة العلاقات بين الأشخاص. وغالباً ما يُفهم أنّ الانتفاض بوجه النقاد في المواقف التي يُفضَل فيها بقاء الإنسان صامتاً على أنه فشل في ضبط النفس.
يودّ الكثير منا أن يكون ناجحاً إلى حد كبير، لكن في مرحلة ما من هذا النجاح، سيكون عليك مواجهة هذه التحديات النفسية الأربعة. والجيد في الأمر أنه مقارنة بأنواع المشاكل التجارية أو الهندسية أو الجيوسياسية التي يواجهها القادة الناجحون، فإنّ السيطرة على جانب "مستر هايد" في شخصيتك، أي الرجل الشرير الذي يكره الجميع بمجرد أن يراهم، هي مشكلة بسيطة نسبياً، ولكنها تتطلب الحد الأدنى من الوعي الذاتي وتصفية حساب عاطفية والعمل الذي من المرجح أن يتعارض مع القواعد السائدة. وهناك ثلاثة أشياء محددة يمكن للقادة التركيز عليها في هذه الحالة:
- تعزيز التواضع: إنّ الأمور الصعبة تبقى كذلك، ولا حرَجَ في الاعتراف بذلك، على سبيل المثال، يعتبر الاستثمار في المشاريع نشاط صعب، لهذا السبب، تحتفظ شركة "بيسمر فنتشر بارتنرز" (Bessemer Venture Partners)، أقدم شركة رأسمالية للمشاريع الاستثمارية في الولايات المتحدة، بمحفظة استثمارية تفاضلية؛ وهي قائمة بالاستثمارات التي كان من الممكن بل كان يجب على الشركة القيام بها ولكنها لم تفعل. في الواقع، يشير بحث أستاذ جامعة جنوب كاليفورنيا فيليب تيتلوك إلى أن التنبؤ الأفضل يأتي من التواضع الكافي وتتبع أداء الفرد وأخطائه.
- قبول الضوابط والموازين: لعلّ أكثر نصيحة مناقضة للحدس هي قبول بعض القيود على قوتنا الذاتية، وافتراض أنّ تلك القيود مفروضة من خلال قرار سديد من أفراد مؤهلين، ما يخلق الظروف المناسبة لتحديها. إن التخطيط للصراع والحد من سلطتنا يعد وسيلة لإعادة خلق القدرة على التحكم في النفس والاستقرار الذي تحققه.
- القابلية الفعلية للتمرن: يزعم العديد من الأفراد أنهم يلتمسون ردود فعل سلبية بشكل نشط، لكن في واقع الأمر، تكون مقاومتهم لمثل هذه التعليقات خفية ولكنها ملحوظة، تغذيها العواطف الشخصية بقدر الحاجة الحقيقية لإظهار الثقة كقائد. ولذلك، فإن الخطوة الأولى نحو أن تكون قابلاً للتمرن هو إنشاء ثقة ومساحة خاصة مع مجموعة من الأفراد الذين تحترم آراءهم. وينبغي لهؤلاء الأفراد أن يكون لديهم المعرفة والخبرة اليومية في الأمور التي تحتاج إلى تقييم، وإنّ وجود فريق تنفيذي موثوق هو أفضل طريقة لتحقيق ذلك.
النجاح الاستثنائي لا يأتي دون تكلفة؛ فما يبدو في البداية وكأنه دلال ومكافأة يمكن أن يصبح الفخ الخاص به، يَعزل الناس في كون يزداد صغراً من صنعهم، فلا يمكن تحقيق أي شيء عظيم من مثل هذه المنصة الصغيرة.
ربما يكون الحل الأبسط هو أن نتذكر أننا لم نصل إلى ما نحن فيه بمفردنا. فعندما نمجّد النموذج الأصلي للفرد الاستثنائي الذي يبني الواقع من الحلم، يمكن لذلك أن يخلق الظروف لجعل النجاح الوظيفي حافزاً خطيراً للسلوكيات المزعجة. وبدلاً من ذلك، يجب أن نتذكر كلايف ستابلز لويس حين قال: "ليس التواضع أن تقلل من شأنك، بل أن تقلل التفكير في شأنك".