ثمة حقيقة مرة كشفتها جائحة كوفيد-19، وهي أن غياب النظرة الاستشرافية الاستراتيجية والمرونة التشغيلية واحتلالهما مرتبة متدنية على قائمة أولويات مجالس الإدارة وفرق القيادة يصيب الشركات بالهشاشة. فوجئت شركات كثيرة بارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في الولايات المتحدة، لكن سلسلة متاجر آتش إي بي (H-E-B) الإقليمية في تكساس تميّزت باستجابتها الاستثنائية؛ ففي منتصف يناير/كانون الثاني 2020، بدأت تستكشف الأوضاع عبر شبكة مورديها العالميين وتواصلت مع تجار التجزئة في الصين لمعرفة كيف بدت الأوضاع خلال الأسابيع الأولى من الجائحة هناك والدروس المستفادة من هذه التجربة الأليمة.
سرعان ما أدركت آتش إي بي أن الجائحة تتطلب استجابة شاملة. ولحسن الحظ، كان مدير التأهب لحالات الطوارئ في الشركة (نعم، هذا المنصب كان موجوداً في آتش إي بي) يتمتع بخبرة في إدارة الأزمات؛ إذ أشرف على خطط الطوارئ لضمان استمرار عمل المتاجر خلال الأعاصير لدعم المتسوقين، حتى إن الشركة كان لديها دليل إرشادي جاهز لإدارة الأزمات بحال تفشي الإنفلونزا أعدته بعد رصد إنفلونزا الخنازير في مدينة سيبولو بولاية تكساس عام 2009.
بعد بضعة أسابيع من رصد أول إصابة بكوفيد19- في الولايات المتحدة، باشرت الشركة محاكاة سيناريوهات عدة لدراسة أثر جائحة واسعة النطاق على موظفيها وسلسلة إمدادها وعملياتها التشغيلية عموماً؛ إذ بادرت إدارة سلسلة المتاجر منذ البداية إلى تقليص ساعات العمل اليومية لإتاحة مزيد من الوقت لتعبئة الرفوف التي كانت تفرغ من محتوياتها أحياناً مع نهاية اليوم. تمتلك شركة آتش إي بي مصانع لحوم خاصة بها، وسرعان ما تحولت إلى العمل على مدار الساعة لإنتاج 50 من أهم منتجاتها، ما مكّنها من تزويد متاجرها بكميات أكبر من اللحوم. ونظراً لنقص المعروض من البيض، تعاونت آتش إي بي مع أحد موزعي المشروبات لنقل البيض من مناطق جغرافية أوسع وتوصيله إلى متاجرها جنباً إلى جنب مع شحنات المشروبات المعتادة. وتؤكد المصادر كلها حفاظ موظفي آتش إي بي على التزامهم بالعمل الجاد على الرغم من الظروف الصعبة. ومع ازدياد أعداد المتسوقين بلا توقف، طلبت الشركة من موظفيها في الأقسام الإدارية المشاركة في العمل بالمتاجر والمستودعات، فلبّى 800 موظف النداء.
لم يكن تصدي شركة آتش إي بي لتداعيات الجائحة مجرد عمل بطولي في عالم الأعمال، بل يُجسد أيضاً ضرورة تكييف الاستراتيجيات مع تغيّر الظروف. خلال الأعوام الثلاثين الماضية، عشنا حقبة استثنائية من الاستقرار الاقتصادي الكلي، تميّزت إلى حدٍّ كبير بالاستقرار الجيوسياسي وانخفاض أسعار الفائدة عموماً ونمو أسواق الائتمان وارتفاع التضخم بنِسَب معتدلة. شهدت هذه الحقبة 5 توجهات جديدة في عالم الأعمال: العولمة، ووفرة رأس المال، وانخفاض تكلفة النقل، ووفرة العمالة، والابتكار القائم على التكنولوجيا الذي يكمن وراء ذلك كله. واستطاعت الشركات الناجحة التكيُّف مع هذه التوجهات، متبنية شعارات مثل ”التحرك السريع” و”التكيُّف أو الفناء”، ما مكّنها من تحقيق قيمة هائلة.
أما اليوم فقد دخلنا عصراً جديداً تحكمه قواعد مختلفة؛ إذ نشهد مرحلة ما بعد العولمة وترشيد رأس المال والتوزع الجغرافي وتقلُّص القوى العاملة والاعتماد على الأتمتة. في الوقت نفسه، تتسارع الابتكارات القائمة على التكنولوجيا وتتضاعف آثارها. وفي هذه البيئة، سيفقد الحدس فائدته على الرغم من الجهود التي بذلها القادة لتعزيزه خلال العقود الماضية، وستتغير معالم الفرص والمخاطر تماماً.
إذا أراد القادة مواصلة خلق القيمة في عصر يحفل بالتقلبات، فلا بد أن يظل تركيزهم موجهاً نحو القدرة على التكيُّف؛ لكن عليهم أيضاً إحياء استراتيجيات تعزز الاستثمار في قدرتين أخريين فقدتا أهميتهما في السنوات الأخيرة: تحمُّل الصدمات و التنبؤ. في نهاية المطاف، يجب أن تتبنى كل شركة استراتيجية لتوزيع مواردها وطاقاتها ووقتها بين هذه القدرات الثلاث.
خلال الأعوام القليلة الماضية، أجرينا حوارات استراتيجية مع كبرى الشركات حول العالم، وتبيّن من خلالها أن الصيغ الاستراتيجية التقليدية لم تعد ملائمة للأحداث المزعزعة التي يشهدها هذا العصر. وبمقدور القادة استلهام الدروس من المستثمرين الماليين العالميين الذين لا تثقلهم أعباء إدارة الأعمال اليومية، ما يتيح لهم منظوراً أوسع للتحولات الاقتصادية الكبرى وتعديل محافظهم الاستثمارية وفقاً لها.
يبدأ تبنّي هذا المنظور بإجراء تقييم دقيق لمركزك الحالي. ما هي احتمالات التعرُّض للمخاطر أو تحقيق العوائد في استثماراتك الرئيسية ضمن محفظتك الاستثمارية الحالية؟ وما هي الجوانب التي تراهن فيها على ارتفاع القيمة والجوانب التي تتوقع تراجعها بسبب ضآلة الفرص؟ وهل هذه المراكز مدروسة ومتسقة مع توقعاتك للمستقبل، أم أنها تراكمت مع الزمن دون قصد؟ لمواصلة تحقيق النمو المستدام وسط حالة عدم اليقين، على قادة الأعمال صياغة استراتيجيات نمو محكمة وعملية في آن معاً.
نهج ثلاثي المحاور
يستلزم التعامل مع عصر يحفل بالتقلبات أن تجمع الشركات بين مهارات القدرة على التنبؤ والتكيُّف وقابلية تحمُّل الصدمات بما يتناسب مع ظروفها. ولنستعرض كل قدرة على حدة.
القدرة على التنبؤ. تتعلق هذه القدرة بصياغة تصورات حول مستقبل القطاع الذي تعمل فيه بدقة ويقين كافيين يمكّنانك من اغتنام الفرص لتحقيق ميزة تنافسية؛ فعلى سبيل المثال، قد يكون القادة غير قادرين على التنبؤ بتفاصيل المشهد الجيوسياسي كلها، لكن من المؤكد أنهم سيواجهون عالماً أكثر انقساماً ويشهد صراعات أكثر حدة، وهو واقع سيؤثر على بعض جوانب الاقتصاد الكلي. ومن هنا، على الشركات أن تعمل باستمرار على تطوير سيناريوهات مختلفة وتقييمها وفقاً لمستوى المخاطر والعوائد المتوقعة، ثم اختيار استراتيجية تتيح لها التكيُّف مع تغيرات السوق. وكلما زادت كثافة أصول الشركة أو زادت وتيرة المنافسة، ازدادت حاجتها إلى قدرات تنبؤية فعالة. على سبيل المثال، تحتاج شركات الأسهم الخاصة إلى قدرات تنبؤية متفوقة لصياغة أطروحات استثمارية دقيقة: لن يحقق استثمار معين معدل العائد المستهدف إلا إذا تحققت الشروط ”أ” و”ب” و”جـ” معاً، كما تحتاج غالبية شركات الطاقة إلى قدرات تنبؤية قوية، وكذلك بعض الشركات الرائدة في قطاع الاتصالات.
خذ على سبيل المثال شركة ريلاينس جيو (Reliance Jio) التي توقعت بدقة تحول سوق خدمات الهواتف المحمولة في الهند نحو انتشار الهواتف الذكية والاستهلاك العالي للبيانات؛ إذ أدركت الشركة في عام 2016 إمكانات التوسُّع في استخدام الهواتف الذكية على الرغم من وجود منافسين أقوياء ويتمتعون بأوضاع مالية جيدة، وتوقعت ارتفاع الطلب إذا توفرت الهواتف الذكية بأسعار ميسورة. ونتيجة لذلك طرحت سلسلة من الهواتف الذكية الاقتصادية، مستهدفة السوق العامة، حيث وفّرت للعملاء في الهند مزايا كانوا يرغبون بها لكنهم غالباً ما كانوا يجدونها باهظة التكلفة، كما أثبتت الشركة نظرتها الاستشرافية من خلال الاستثمار الاستراتيجي في بناء شبكة الجيل الرابع في مختلف أنحاء البلاد قبل أن تسبقها الشركات المنافسة. وبفضل نجاح شركة ريلاينس جيو في توفير خدمة إجراء المكالمات الصوتية ونقل البيانات بسرعة عالية وبأسعار ميسورة، حتى في المناطق الريفية التي لم تكن الشركات المنافسة تخدمها، تمكنت الشركة من إحداث ثورة في السوق والاستحواذ على حصة كبيرة منها، كما توقعت الشركة تزايد أهمية الخدمات الرقمية واستهلاك المحتوى عبر الأجهزة المحمولة، فطورت منظومة متكاملة من خدمات الأخبار والترفيه، ما عزز تميزها عن الشركات المنافسة.
القدرة على التكيُّف. القدرة على التكيف تعني أن تغيّر شركتك أعمالها بوتيرة أسرع من منافسيها. وقد طورت أغلبية الشركات هذه القدرة خلال حقبة الاستقرار الاقتصادي الكلي، لكنها تحتاج الآن إلى تعزيز جوانب أساسية منها لتحقيق النمو في عصر يحفل بالتقلبات. وعبر استيعاب مدى تعرُّض الشركات لمخاطر طويلة أو قصيرة الأجل، يمكن لفرق قيادتها رصد الإشارات المرتبطة بالقرارات الحاسمة التي قد تستدعي تغييراً في الاستراتيجية. المثير للدهشة أن المستثمرين الماليين غالباً ما يكونون أكثر حرصاً على رصد هذه الإشارات من الشركات نفسها، كما أن كثيراً من القادة لا يدركون الإشارات القادمة من الخطوط الأمامية ولا يستفيدون منها، على الرغم من أنهم الوحيدون القادرون على تمييزها.
تمثل القدرة على التكيُّف ضرورة للبقاء في القطاعات الناشئة الحيوية؛ إذ يمكن للشركات المرنة أحياناً الاعتماد على التكيُّف بدلاً من التوقع للتعامل مع التغيرات في البيئة. ويجب أن تتمكن الشركات الكبرى من توظيف قدرتها على التكيف لتحقيق مكاسب على نطاق واسع، لكن حجمها الكبير غالباً ما يخلق تعقيدات تصعّب رصد الإشارات المهمة، على الرغم من أنه يمثل الخطوة الأولى لتحديد المجالات التي تحتاج إلى تعزيز الجهود أو إطلاق ابتكارات جديدة أو الاكتفاء بتقليل الخسائر.
أظهر ساتيا ناديلا قدرة ملحوظة على التكيُّف عندما قرر توجيه شركة مايكروسوفت بالكامل نحو خدمات الحوسبة السحابية. عندما تولى منصب الرئيس التنفيذي للشركة عام 2014، لم يكن هذا القرار واضحاً للجميع، لكنه أدرك الإشارات التي تدل على ضرورة التكيُّف؛ فقد كانت منصة أمازون ويب سيرفيسز (AWS) التابعة لشركة أمازون تتجه بقوة نحو نموذج أعمال يرتكز على الخدمات السحابية وتكنولوجياتها الأساسية، في حين كانت شركات أخرى، مثل نتفليكس، تعيد رسم ملامح قطاعاتها بالاستفادة من خدماتها الرقمية.
أدرك ناديلا منذ البداية أهمية التركيز على منصة الحوسبة السحابية، مايكروسوفت أزور (Microsoft Azure)، التي تتيح للشركات إنشاء التطبيقات ونشرها وإدارتها، كما توفر لمطوري البرمجيات مجموعة واسعة من الأدوات والموارد الفعالة. وكانت خدمة أوفيس 365 (Office 365) جزءاً محورياً من هذا التحول الاستراتيجي. وعلى الرغم من التطور الكبير لنماذج عمل الشركة في قطاعي أجهزة الكمبيوتر المكتبية وقطاع المؤسسات وضخامة قواعد مستخدميها، اختار ناديلا التحول نحو الحوسبة السحابية، ما استلزم ضخ استثمارات جديدة هائلة في هندسة المنتجات والبنية التكنولوجية المتقدمة. أدى هذا التحول إلى دخول الشركة في مواجهة منافسات شرسة جديدة وفرض عليها تحديات مختلفة، لكن استباق السوق كان خطوة ناجحة لمايكروسوفت؛ إذ تأتي الآن أكثر من نصف إيراداتها من الخدمات والمنتجات السحابية، بعد أن كانت تشكل نحو الثلث في عام 2020، لتصل إلى 31.8 مليار دولار في الربع الأول من السنة المالية 2024، كما أن الاشتراكات السحابية بخدمة أوفيس 365 توفّر إيرادات متكررة أكثر استقراراً مقارنة بنموذج العمل السابق لمايكروسوفت. وهكذا استطاعت مايكروسوفت التنويع والتوسع في قطاعات جديدة، مثل الرعاية الصحية والماليات والتصنيع، حيث تستضيف منصة مايكروسوفت أزور تكنولوجيات متقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وإنترنت الأشياء.
القدرة على تحمُّل الصدمات. تستطيع الشركات التي تمتلك قدرة فائقة على التحمُّل تجاوز الصدمات بصورة أفضل من منافسيها. وعلى الرغم من معرفة الشركات بالعديد من الصدمات التي يجب أن تستعد لها أو ربما أغلبها، فغالباً ما يهمل القادة اختبار قدرة استراتيجياتهم ونماذج عملهم على امتصاص هذه الصدمات والتعامل معها. وخلال العقود الثلاثة الماضية من الاستقرار الاقتصادي الكلي، كانت الشركات تتمتع بحماية فعالة نسبياً من آثار الصدمات، ما جعلها تميل إلى التركيز على تعظيم الأرباح القصيرة الأجل بدلاً من الاستثمار في تعزيز قدرتها على تحمُّل الصدمات. وهناك العديد من الأسباب لهذه الظاهرة، منها أن تعزيز القدرة على التحمل قد يؤثر سلباً على الكفاءة؛ لأن الاستثمار في تعزيز القدرات الاحتياطية وسلاسل الإمداد البديلة وتوفير مخزون استراتيجي يستلزم وقتاً ومالاً، وهي أمور ضرورية لتحمل الصدمات.
تبنّت شركة ساوث ويست إيرلاينز نهجاً مميزاً لتعزيز قابليتها لتحمل الصدمات؛ إذ تستهدف التحوط لما لا يقل عن %50 من تكاليف الوقود سنوياً. لم يغيّر هذا البرنامج المخاطر الأساسية التي تواجهها شركة ساوث ويست، لكنه يساعدها على الحد من المخاطر الناجمة عن تقلبات أسعار وقود الطائرات، وذلك من خلال استخدام أدوات مالية مثل العقود الآجلة وخيارات الأسهم لتثبيت الأسعار طيلة فترات زمنية محددة. ومع ذلك، قد تواجه الشركة خسائر في برنامج التحوط عند انخفاض أسعار النفط، مثلما حدث بين عامي 2015 و2017.
نقطة البداية المناسبة
كيف تستعد فرق القيادة للعصر الجديد؟ لم تعد البيئة الحالية مناسبة للتحركات المحدودة أو عقلية التجربة والتعلُّم، بل تتطلب نهجاً استراتيجياً قائماً على استثمارات جريئة في 3 قدرات رئيسية: التنبؤ والتكيُّف وتحمُّل الصدمات. ولمعرفة أفضل طريقة لتوزيع الموارد بين هذه القدرات، يمكن اتباع الخطوات التالية:
تحديد المخاطر والفرص المحتملة. تستطيع الشركات التعلم من نموذج صناديق التحوّط لتبسيط فهمها لمخاطرها المحتملة، سواء كانت لديها استثمارات استراتيجية (أي استثمرت مبالغ أكبر وبأسلوب أكثر استراتيجية) أو استثمارات قصيرة المدى (أي استثمرت مبالغ أقل أو لم تنفِّذ أي استثمارات إطلاقاً بسبب محدودية الفرص). ولتحديد الاستثمارات الاستراتيجية، عادةً ما تحلّل الشركات تركيز الإيرادات والتكاليف المباشرة والمورّدين في أعمالها الحالية.
لنفترض أن هناك شركة للمعدات الزراعية تُدعى ”بلادنا للمعدات الزراعية”. عند فحص توزيع الإيرادات بين شرائح عملائها الأساسية وقنوات البيع في مختلف المناطق، قد تدرك الشركة سريعاً أن لديها استثماراً استراتيجياً في البرازيل التي تمثل سوقاً رئيسية لمعدّاتها. وعند النظر إلى المخاطر والفرص المحتملة من منظور الطلب، قد تلاحظ الشركة أنها تمتلك استثماراً استراتيجياً في الصين أيضاً، نظراً لأهمية هذه السوق بالنسبة للمزارعين البرازيليين الذين يستخدمون معداتها لإنتاج فول الصويا الذي يصدِّرون معظمه إلى الصين لاستخدامه في إنتاج أعلاف الماشية.
على الرغم من معرفة الشركات بالعديد من الصدمات التي يجب أن تستعد لها، فغالباً ما يهمل القادة اختبار قدرة استراتيجياتهم ونماذج عملهم على امتصاص هذه الصدمات والتعامل معها.
يتضمن تحديد المخاطر والفرص المحتملة أيضاً تحديد المجالات التي تمتلك فيها الشركة استثمارات قصيرة الأمد، ومن ثم تنفيذ استثمارات استراتيجية أصغر حجماً أو الامتناع عن تنفيذها مطلقاً. على سبيل المثال، قد ترى شركة ”بلادنا للمعدات الزراعية” أن الابتكار في خدمات تحليلات البيانات للمزارعين يتقدّم ببطء شديد بحيث لا يمكن أن يصبح مجالاً سريع النمو ضمن أعمالها في المستقبل المنظور. سيؤدي هذا التحليل إلى رسم صورة متكاملة للمخاطر المحتملة توضح آلية تحقيق الشركة للأرباح حالياً لمساهميها والمسار الذي ينبغي اتباعه في المستقبل لتحقيق هذه الغاية.
تخيُّل سيناريوهات مختلفة. غالباً ما تكشف عملية التخطيط الأولية عن عشرات المخاطر والفرص المحتملة، لكن عادةً ما يستحق 8 أو 10 منها فقط نقاشاً استراتيجياً بسبب حالة عدم اليقين المحيطة بها وإمكانية تأثيرها بقوة على الأداء المالي؛ لذلك عليك أن تحدد مجموعة من المتغيرات المضبوطة والقابلة للإدارة، وتسأل نفسك: ما هي السيناريوهات الأكثر تطرفاً لكنها تظل ممكنة؟ (إذا لم تؤدِّ أي من السيناريوهات التي وضعتها إلى تغيير القرارات التي ستتخذها، فهذا يعني أنها ليست متطرفة بما يكفي). انطلاقاً من هذه السيناريوهات، يمكن للشركات تصنيف أنشطتها إلى 3 فئات: تحركات ”مضمونة” (وهي تلك التي يمكن اتخاذها بثقة عالية وتناسب مختلف السيناريوهات)، والخيارات والتحوطات (للتخفيف من المخاطر واغتنام الفرص الجديدة الناجمة عن التغيرات في الوسط المحيط)، والقرارات الاستراتيجية الكبرى (وهي التحركات التي ستعيد تموضع الشركة في المستقبل). على سبيل المثال، طوّرت كبرى شركات تصنيع السيارات سيناريوهات تفصيلية حول القيادة الذاتية التحكُّم، ما وفّر أساساً لوضع استراتيجيات خاصة طويلة الأجل، مع تحديد الخيارات المتاحة في حال انتشرت المركبات الذاتية التحكُّم قبل الموعد المتوقَّع.
تخصيص رأس المال. تكشف هذه الخطوة عن الاستثمارات التي ينبغي على الشركات تنفيذها لتعزيز القدرة على التكيُّف وقابلية تحمُّل الصدمات، مع تذكير القادة بأن بناء القدرة على تحمُّل الصدمات قد يكون مرتفع التكلفة. يشكل تصنيف التحركات ”المضمونة” والخيارات والتحوطات والقرارات الاستراتيجية الكبرى الأساس لوضع استراتيجيات تخصيص رأس المال. على سبيل المثال، أدى ازدهار الذكاء الاصطناعي التوليدي في الآونة الأخيرة إلى توليد قناعة لدى بعض الشركات بضرورة إعادة تشكيل استراتيجياتها وزيادة استثماراتها ”المضمونة” بدرجة كبيرة في تطبيقات محددة لقدرتها على إحداث تحول جذري في الإنتاجية الداخلية. وغالباً ما تركز القرارات الاستراتيجية الكبرى على عمليات الدمج والاستحواذ، سواء بهدف تعزيز السيطرة على سوق واعدة عبر تعزيز قدرتها على اغتنام الفرص الجذابة -مثلما فعلت مايكروسوفت باستحواذها على شركة أكتيفيجن بليزارد (Activision Blizzard)- أو لتوسيع نطاق الأعمال في سوق جديدة تماماً، حيث ترغب الشركة في الانتقال من الاستثمارات قصيرة المدى إلى الاستثمارات الاستراتيجية (مثلما فعلت أمازون عند دخولها القوي إلى قطاع التجزئة للمواد الغذائية عبر استحواذها على سلسلة متاجر هول فودز (Whole Foods) الأميركية).
رصد الإشارات. في عصر يحفل بالتقلبات المتزايدة، من الضروري أيضاً تطوير قدرة على مراقبة الاضطرابات المحتملة والفرص الواعدة. قد يأتي بعض هذه الإشارات من تغيّرات في البيئة الاقتصادية الكلية، مثل حدوث تحولات في أسواق العمل ورأس المال أو ظهور تكنولوجيات مزعزعة تؤثر في مختلف القطاعات أو التعرُّض للتقلبات الاقتصادية الدورية. في المقابل، قد يرتبط بعض الإشارات بقطاع معين، مثل دخول منافسين جدد أو ظهور بدائل للمنتجات والخدمات، بينما قد يرتبط البعض الآخر بالشركة نفسها، مثل احتياجات العمالة. لذلك عليك أن تسأل نفسك: ما مدى كفاءة نظامنا الحالي في مراقبة هذه الاتجاهات؟ من المسؤول عن ذلك، وما هي المعلومات الرئيسية التي نحصل عليها من مختلف المصادر والأطراف المعنية، وكيف نضمن أن يؤدي أي تغير في هذه المعلومات إلى تحركات سريعة وقائمة على قناعة؟ هنا يأتي دور استكشاف فرص الاندماج والاستحواذ: ما هي عمليات الاستحواذ المحتملة التي يمكن أن تساعد شركتك على التكيف مع التغيرات في الأعمال وتحقيق التوازن بين مختلف المخاطر والفرص المحتملة؟ على سبيل المثال، أدى الارتفاع الكبير في الطلب على خدمات توصيل الطعام خلال جائحة فيروس كورونا المستجد عام 2020 إلى استحواذ شركة أوبر على شركة بوستميتس (Postmates)، ما وسّع نطاق أعمالها من خدمات النقل إلى توصيل الوجبات.
لا يمكن الادعاء بأن ثمة مبادرة تطويرية محدَّدة كفيلة بتعديل استراتيجية شركتك مع دخولنا عصراً يحفل بالتقلبات، بل يتمثل الحل في إرساء منهجية تعتمد على الوعي والتجربة والتنفيذ، ما يساعدك على الموازنة بين الأولويات المتضاربة وتوزيع الموارد بفعالية على القدرات الثلاث الأساسية: التنبؤ والتكيُّف وتحمُّل الصدمات. يرتكز هذا النهج على التنفيذ، ما يمثل جوهر كل استراتيجية ناجحة؛ فهو يساعدك على التنبؤ بأكثر الفرص المحتملة ربحية، وتكييف محفظتك الاستثمارية وفقاً لها، وحماية أعمالك من الصدمات غير المتوقعة التي قد تحوّل هذه الفرص إلى أعباء. هذه هي الصيغة الجديدة للنمو في عالم يحفل بالتقلبات.