شئنا أم أبينا، تعيد الأسواق تشكيل حياتنا. لكن قوامها هذه الأيام لم يعد الاتفاقيات التجارية، بل وحدات المعلومات الأساسية التي يدعوها البعض "منصات"، لكنني أسميها "الأسواق الصغيرة"، لأنه وصف أدق لطبيعتها. فما هو سر النجاح في إدارة المنصات؟
بينما تعيد الأسواق الصغيرة تشكيل حياتنا، تقدم كذلك ضغوطات جديدة أو تزيد من حدة ضغوطات قديمة. هنا نعرض كيف يمكن للقادة إدارة هذه الضغوطات وتأسيس أسواقهم الصغيرة لتحقيق نجاح طويل المدى.
كيفية تحقيق النجاح في إدارة المنصات
اجعلها سوقاً لا مكاناً للتسوق فحسب
أماكن التسوق هي منصات يمكن للتجار عرض منتجاتهم وعروضهم فيها كأنها بازارات، لكن الأسواق الحقيقية مختلفة، إذ يحدد العرض والطلب تسعير المنتجات، ما يجعلها عملية متغيرة. "السعر المتغير" في تطبيق "أوبر" (Uber) مثال بسيط على ذلك، كما أنه يلقي الضوء على نقاط أخرى. فتطبيق "أوبر" ليس سوقاً حقيقيةً تماماً لأن الخوارزميات تحسب الأسعار بناءً على تنبؤات للعرض والطلب. أما الأسواق الحقيقية، فتحقق الكفاءة القصوى، حيث تعرض على المشترين أقل سعر، وتعرض على التجار أعلى طلب، كما أنها تقلل تكاليف البحث على جميع المشاركين في العملية. وهنا تكمن الميزة الحقيقة للأسواق: مكتسبات الكفاءة للجميع.
اجعلها شبكة لا سوقاً فحسب
ليست الأسواق بالحل الأمثل في جميع الحالات، فهي الأفضل فيما يتعلق بالسلع التبادلية كفول الصويا والسندات ورحلات السيارة. أما عند تعيين محاسب أو محامٍ أو طبيب، فمن الأرجح ألا تكون الأسعار التنافسية هي العامل الوحيد لأن الخدمات عالية القيمة ليست سلعاً. فلا تنشئ سوقاً في هذه الصناعات، بل ابنِ شبكات يمكن لأفرادها مقارنة الخدمات المتشابهة غير المتماثلة وفقاً للأبعاد العديدة للجودة. يمكن للشبكات أيضاً إنشاء اقتصادات كالأسواق، وتكون أكثر كفاءة فيها عندما تختلف الأشياء. فكر في الأصدقاء على "فيسبوك" أو المرشحين الجدد للوظائف على "لينكد إن".
ضع الإنصاف في مقام أعلى من الربح على المدى القصير
مع ازدهار الأسواق الصغيرة وتحقيقها نجاحاً مفاجئاً، هناك ميل طبيعي لإساءة استخدام سلطتها الجديدة. فالعديد من الأسواق الصغيرة اليوم صارت بالفعل ضمن المحتكرين في المستقبل، بل وتتصرف في بعض الحالات بهذا المنطق: انظر إلى أخطاء العلاقات العامة المستمرة في "أوبر". من مزايا المعاملة العادلة لكلا الجانبين في سوقك الصغيرة أنك على الأرجح ستجد حباً واحتراماً من المستخدمين، ولن يكون تعاملهم معك اضطراراً لشرٍ لا بد لهم منه. بمعنى آخر "علامة تجارية معروفة". لكن الفائدة الحقيقية هي تحقيق بيئة عمل أكثر حيوية وازدهاراً. أما المنصات التي تجعل مشتريها ومورديها يتلهفون على الربح ربع السنوي، فهذه المنصات تستهلك نموها في المستقبل وتكتسب منافسين وبذلك يكون انهيارها محققاً، أو على الأقل ستثير الغضب وانعدام الثقة وتقيد إمكاناتها.
طبّق إدارة المخاطر
لا يتوقف إنشاء سوق صغيرة مزدهرة على توصيل التجار بالمشترين فحسب، بل وتقليل ما سأسميه "المخاطر الاجتماعية": العمل مع غرباء تماماً. فشراؤك سنداً من بائع مجهول شيء، ومجيئه إلى منزلك أو دخوله سيارتك شيء آخر. لذا لا تقتصر الابتكارات العظيمة في الأسواق الصغيرة على العلاقات فحسب، بل تشمل المخاطرة كذلك، إذ يجب عليها أن تجد سُبُلاً لتقليل المخاطر غير المألوفة الكامنة في التجارة المجزأة القائمة على المعاملات والتجارة مع أشخاص لا يعرف المستخدم عنهم شيئاً وقد يكتشف أنهم غير طبيعيين (أو أسوأ). بإمكانها أن تقدم معلومات ومؤشرات حول الجودة وما إلى ذلك من الأمور المساعدة على تقليل مخاطر الغرباء.
أنشئ علاقات
أفضل وأقوى وسيلة لتقليل المخاطر هي الوسيلة الأقدم والأبسط أيضاً: اعمل مع أشخاص تثق بهم. لقد وجدت حِرَفياً على "تاسك رابيت" (TaskRabbit)، ومع أنه يمكنني حجز شخص آخر عندما أواجه مشكلة في أعمال السباكة، أفضل اختيار مازن مرة أخرى لمعرفتي أنني أستطيع الوثوق به. لذا ستكون الأسواق الصغيرة الأكثر ازدهاراً واستمراراً هي التي ستتمكن من تعزيز الديناميات الاجتماعية الطبيعية لإدارة المخاطر وخفض تكاليف البحث وتقديم صفقة أفضل للجميع. فالعلاقات تغلب المعاملات التجارية كل مرة لأنها ببساطة اقتصادية أكثر.
لا تدع الخوارزميات تحلّ محل القيادة
تسود الخوارزميات العالم الجديد الشجاع للأسواق الصغيرة، حيث تصدر الأوامر وتتابع الأداء، وتضمن التسليم والجودة والموثوقية. لكن علينا الاعتراف: لا تصنع الخوارزميات مدراء أكْفاء. هناك اضطرابات واضحة، بدءاً من محاولات سائقي "أوبر" تكوين اتحاد لهم، والقصص المرعبة التي نسمعها باستمرار عن "إير بي إن بي" (Airbnb)، وما إلى ذلك. المشكلة ليست في حاجة الأسواق الصغيرة إلى التعلم من أخطاء وسائل التواصل الاجتماعي والاستثمار في ضمان الجودة (من خلال ما يفعلونه) فحسب، بل في حقيقة أن الخوارزميات بحاجة إلى إدارة بشرية (أما زلت تذكر البشر؟) أيضاً. لا لأنها تخطئ، بل لأنها لا تخطئ.
عندما تكون الخوارزميات مبرمجة لتحقيق كفاءة هائلة
تصير مهمة القائد الحكيم معرفة متى لا تكون هذه الكفاءة الهدف الصحيح. غالباً ما نفكر أن بإمكان الخوارزميات استبدال القادة، لكن العكس هو الصحيح. فالخوارزميات تزيد من أهمية القادة، والأسواق الصغيرة بحاجة إلى قادة بإمكانهم التحقق من أن الخوارزميات ليست آلة تسحق الإمكانات البشرية، ولكنها سلم يوفر للأشخاص وسيلة للارتقاء.
هنا يكمن الفشل الذي تواجهه الأسواق الصغيرة اليوم
إذا كانت حِرفياً على "تاسك رابيت" أو سائقاً في "أوبر"، ما الفرصة المتاحة أمامك كي تصبح مديراً؟ دون سلالم الارتقاء، لن تحقق المؤسسات أي نمو حقيقي أبداً. قد تحقق اليوم ربحاً بالتأكيد، لكن ماذا عن أدائها على المدى البعيد؟ كانت هناك أرباح قصيرة الأجل من الإصلاحيات وعمالة الأطفال والعمل على مدار الأسبوع، لكننا قررنا القضاء على هذه المشكلات،
واخترنا نحن البشر أن يكون لعملنا معنى وهدف. نريد قادة تُلهم وترفع المعنويات وتوسع من إمكاناتنا. وإذا فشلت الأسواق الصغيرة في الوفاء بهذا المعيار، فيما يلي حقيقة بسيطة حول النجاح في إدارة المنصات: سيُنظر إلى هذه الأسواق كنظير رقمي ممل لمتاجر التجزئة الكبرى أكثر من النظر إليها كمقدمات شيّقة للاقتصاد الجديد الأكثر مرونة.