كيف تنجو من فخ الثقة المفرطة عند قيادة مشروع معين؟

6 دقيقة
الثقة
shutterstock.com/lauachireca
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: ثمة فكرة شائعة ولكن مغلوطة تشجع مدراء المشاريع الكبيرة على تنفيذ مشاريعهم بأسرع وتيرة ممكنة، معتقدين أن المكاسب ستكون أكبر من توقعاتهم. لكن تحليلاً تجريبياً دقيقاً، أجراه مؤلفا هذا المقال الخبيران في إدارة المشاريع والعلوم السلوكية على أكثر من ألفي مشروع كبير، كشف أن استراتيجية التعجل بالتنفيذ يكون مآلها الفشل في 80% من الأحيان. خذ مثلاً فرديناند ديليسيبس الذي بنى قناة السويس، إذ حاول بناء قناة بنما لكن محاولته انتهت بكارثة، ليس فقط بالنسبة للمستثمرين في المشروع بل بالنسبة لمن عملوا عليه ولسمعة فرديناند نفسه أيضاً.

الثقة شرط أساسي للنجاح، ونعلم جميعنا ذلك، فعندما يشكك القادة في قدرتهم على النجاح يحيدون عنه بالفعل. لكن الثقة بالنفس سلاح ذو حدين، فقد تعزز إحساس قادة المشاريع بقدرتهم على التغلب على أي تحدٍّ بسهولة فيهملون التخطيط المحكم ويشرعون بالعمل على الفور.

فهل يجب عليك الانقياد وراء إحساسك المفرط في الثقة؟ للإجابة عن هذا السؤال، لنأخذ قصة فرديناند ديليسيبس، الاسم الذي يجب على كل قائد مشروع أن يتذكره.

خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، فُتن فرديناند ديليسيبس، الذي كان دبلوماسياً فرنسياً في مصر، بفكرة إنشاء قناة عبر شبه جزيرة سيناء لربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. كانت هذه الفكرة حلماً راود الكثيرين على مر القرون، ففي مصر القديمة كانت ثمة قناة تربط البحر الأحمر بنهر النيل، لكن لم يحاول أحد قبل ديليسيبس تحقيق رؤية ربط البحرين الطموحة قط.

في عام 1854، وبعد تقاعد ديليسيبس من السلك الدبلوماسي، أقنع والي مصر محمد سعيد باشا بمنحه امتياز بناء القناة، وواجه العديد من التحديات السياسية والاقتصادية الكبيرة التي تعيّن عليه التغلب عليها، لكنه تعامل مع المشروع بحماس وإصرار كبيرين وحشد الدعم وتجاهل المنتقدين. كانت لدى ديليسيبس قناعة راسخة بأن لكل مشكلة حلاً، وأن الحلول غير الواضحة ستظهر عند الحاجة إليها، وكان البدء بالحفر الخطوة الأهم في نظره.

كان ديليسيبس واثقاً من نفسه إلى حد بعيد، ولم يكن لديه أي شك في أن القناة ستبنى بالفعل وتحقق نجاحاً هائلاً، ومنحه يقينه الذي لا يتزعزع القدرة على إقناع الآخرين بأفكاره وحملهم على تبنيها. في عام 1858 سعى إلى جذب مستثمرين عامين إلى شركة قناة السويس ونجح في إقناع 23 ألف شخص بالاستثمار فيها.

حُفرت القناة بأدوات بدائية جداً، وكان العمال الذين جندتهم الحكومة المصرية ينقلون التراب والصخور بالمعاول والمجارف والسلال. احتجت الحكومة البريطانية التي عارضت المشروع قائلة إن ظروف العمل كانت أقرب إلى العبودية، فتجاهل ديليسيبس هذه المخاوف قائلاً إن ممارسات العمل هذه شائعة في مصر.  استمرت أعمال الحفر في القناة، ولكن حين سقط أحد العمال، اسمه سعيد ويبلغ من العمر 40 عاماً فقط، متوفياً فجأة في أثناء عمليات الحفر، استجاب حاكم مصر الجديد لمخاوف الحكومة البريطانية وألغى التجنيد الإجباري للعمل في القناة. وبدا مشروع ديليسيبس حينها على وشك الانهيار.

لكن إيمانه الراسخ بمشروعه أثمر في نهاية المطاف، إذ بادرت شركة فرنسية إلى تقديم آلات قوية جديدة لنقل مخلفات الحفر، وبالنتيجة تسارع التقدم في عمليات الحفر وافتتحت القناة رسمياً عام 1869.

تأخر الانتهاء من المشروع عدة سنوات وتجاوز الميزانية الأولية إلى حد كبير، وكانت حركة المرور عبر القناة أقل من التوقعات فولّدت صعوبات مالية، لكن التحول نحو استخدام البواخر كان يزداد مع الوقت، وازدادت معه حركة المرور عبر القناة. اشترت الحكومة البريطانية حصة في القناة إذ أدركت أهميتها الاستراتيجية للإمبراطورية البريطانية، وكان هذا الاستثمار الخطوة الأولى نحو العولمة التي نعرفها اليوم. أحدثت قناة السويس ثورة في التجارة العالمية واحتُفي بها على نطاق واسع باعتبارها إنجازاً تاريخياً غير مسبوق. ارتفعت أسهم شركة قناة السويس بحدة، وأصبح ديليسيبس بعد نجاح مشروعه عبقرياً في نظر الجميع؛ أدى قراره باتباع حدسه إلى نجاح كبير حقاً.

تتوافق نتيجة مشروع قناة السويس تماماً مع نظرية للمشاريع طورها الخبير الاقتصادي الشهير ألبرت هيرشمان بعد قرن من الزمن.

كتب هيرشمان: “يفاجئنا الإبداع دائماً، لا يمكننا الاعتماد عليه ولا نجرؤ على الإيمان به حتى يحدث”. كانت لرؤية هيرشمان نتائج مهمة. إذا كان شخص ما يخطط لمشروع كبير بدقة، وكان يدرك تماماً جميع التحديات والمخاطر المحتملة التي ستواجه المشروع، فمن المرجح أنه لن ينفذه على الإطلاق. لكن الناس يطلقون مشاريع كبيرة طوال الوقت، ما السبب؟  لأننا برأي هيرشمان نقلل من أهمية التحديات التي تنتظرنا بقدر ما نحط من شأن قدرتنا على الإبداع في حل تلك التحديات.

هذا التوازن الدقيق يؤدي إلى نتائج مرضية: على الرغم من جهلنا بمدى صعوبة التحديات التي تنتظرنا في أثناء تنفيذ المشروع نختار المضي به، وعلى الرغم من أننا نحط من شأن قدرتنا على الإبداع نفاجئ أنفسنا بالتوصل إلى حلول للمشاكل عند ظهورها. قد تستغرق المشاريع وقتاً أطول بكثير مما نتوقع، وقد تتجاوز تكلفتها التقديرات الأولية بكثير. مع ذلك فالمشاريع غالباً ما تحقق نتائج تتجاوز التوقعات.

أطلق هيرشمان على هذه الظاهرة مبدأ “اليد المخبأة” (hiding hand)، في إشارة إلى مفهوم آدم سميث المعروف باسم “اليد الخفية” (invisible hand). إنها فكرة مثيرة للاهتمام وتتعارض مع البديهة، وقد دافع العديد عنها، بمن فيهم مالكولم غلادويل في كتاباته في مجلة ذا نيويوركر.

استخدم هيرشمان عدة قصص مثيرة للاهتمام لإثبات نظريته، ولكن لم يتعمد أن تكون هذه القصص مجموعة شاملة. يمكننا إضافة مشروع قناة السويس إلى قائمة أمثلة هيرشمان إلى جانب استوديو التسجيل الشهير في نيويورك، إلكتريك ليدي (Electric Lady)، الذي أسسه الموسيقي جيمي هندريكس، ويمكن إضافة فيلم الفك المفترس لستيفن سبيلبرغ أيضاً، ودار الأوبرا المثيرة للإعجاب في سيدني على وجه الخصوص، التي شُيدت بالحد الأدنى من التخطيط وواجهت تأخيرات كثيرة وتجاوزت الميزانية الأولية بكثير، لكنها حققت في النهاية مكانة أسطورية وأصبحت معلماً بارزاً.

بالعودة إلى سؤالنا إذاً: هل يجب على قادة المشاريع أن ينقادوا وراء ثقتهم عندما تحثهم على بدء مشروع دون تخطيط واسع النطاق؟ قد يبدو من المغري استخلاص هذا الاستنتاج الذي يتفق مع وجهة نظر هيرشمان، ولكن أولاً، من المفيد النظر في مساعي فرديناند ديليسيبس اللاحقة بعد محاولته الناجحة في مصر؛

بعد أن أصبح ديليسيبس نجماً عالمياً، شرع في مشروع آخر جديد طال انتظاره، وهو ربط المحيطين الأطلسي والهادئ بشق قناة عبر برزخ بنما. تعامل ديليسيبس مع هذا المشروع الجديد بالحماس والثقة الكبيرة نفسيهما متجاهلاً النقاد ومسلحاً بإيمان لا يتزعزع بأنه سيجد طريقة للتغلب على التحديات التي تظهر مهما كانت، وصرّح مفتخراً: “أعلن بثقة أن البدء بإنشاء قناة بنما وإنجازها وصيانتها سيكون أسهل من قناة السويس”.

أدى هذا المشروع إلى ما يذكره التاريخ باسم “فضيحة قناة بنما” السيئة السمعة بسبب الفساد والتهم الجنائية والإفلاس. لكن هذه المآسي التي حلّت بالمشروع لم تكن الأسوأ، إذ ارتكب ديليسيبس خطأ كبيراً في تقدير حجم أعمال الحفر المطلوبة للمشروع، كما تجاهل احتمال هطل الأمطار الغزيرة والانهيارات الأرضية ولم يستعد لها على الرغم من تلقيه تحذيرات بشأنها. بالإضافة إلى ذلك، قلل ديليسيبس من خطورة انتشار الأمراض بدلاً من التخطيط للتعامل معها، ونتيجة لذلك، قتلت الملاريا والحمى الصفراء نحو 22 ألف عامل ومدير مشارك في المشروع.

توقف مشروع قناة بنما، وتدهورت سمعة ديليسيبس بشدة، وتوفي بعد سنوات قليلة. قناة بنما الحالية هي نتيجة مشروع لاحق أطلقه الأميركيون الذين تعلموا من أخطاء ديليسيبس وخططوا لمشروعهم بعناية.

نفذ المشروعين الشخص نفسه بثقته التي لا تتزعزع في قدرته على التنفيذ، ومع ذلك كانت نتائجهما مختلفة إلى حد كبير.   هناك قصص أخرى كثيرة مشابهة لكارثة بنما، إذ دفعت الثقة المفرطة فيها إلى التسرع بالبدء فانتهت بالفشل والخزي. إذاً ما الدروس التي علينا تعلمها من هذه القصص، خاصة في ضوء كل القصص الأخرى التي توحي بأن مفتاح النجاح يكمن في المبادرة إلى العمل الفوري.

لسنا بحاجة إلى مجرد قصص، بل إلى تحليل مناسب لمجموعة ضخمة من البيانات.

وفقاً لنظرية هيرشمان، يجب أن ينتهي المشروع النموذجي بما يتجاوز الميزانية المقررة، لأن المدراء غالباً ما يقللون من أهمية التحديات المقبلة، لكن من شأن هذه المشاريع أيضاً تحقيق فوائد أكبر مما كان متوقعاً في البداية لأن مدراءها قد يستهينون بقدراتهم الإبداعية في مواجهة تلك التحديات أيضاً. علاوة على ذلك، توقع هيرشمان أن تتجاوز الفوائد الإضافية التكاليف الأولية المقدّرة.

لاختبار نظرية هيرشمان، أجرى كاس سنستين وبنت فلوبيير تحليلاً لنتائج 2,062 مشروعاً مختلفاً شملت السدود وخطوط السكك الحديدية والأنفاق والجسور والمباني. أُخذت البيانات من قاعدة بيانات فلوبيير الخاصة بالمشاريع واسعة النطاق، التي تحتوي على معلومات عن نحو 16 ألف مشروع في 104 دول متقدمة ونامية موزعة في القارات الست. تغطي قاعدة البيانات فترة تصل إلى نحو قرن من الزمن تمتد من عام 1927 إلى عام 2013. هذه البيانات الشاملة نادرة ويصعب الحصول عليها، فلا وكالة إحصائية أو خدمة بيانات توفر هذا النوع من البيانات. نتيجة لذلك، كان لا بد من استخراج البيانات نقطة تلو الأخرى من المصدر، وهي عملية تستغرق وقتاً طويلاً لدرجة أن المؤلف وزملاءه استغرقوا 20 عاماً لتجميع قاعدة البيانات. جُمعت البيانات من مصادر متنوعة، مثل تقارير المشاريع السنوية وحسابات التكلفة والمشتريات الداخلية وحسابات الإيرادات وتقارير مراجعي الحسابات والاستبيانات والمقابلات، وغيرها من الدراسات.

كشف تحليلنا لبيانات 2,062 مشروعاً أن نظرية هيرشمان خاطئة تماماً. على الرغم من أن المشاريع النموذجية تقلل من تقدير التكاليف، فهي تبالغ في تقدير الفوائد كما توقع خبراء الاقتصادي السلوكي، مثل دانيال كانيمان في كتابه “التفكير السريع والبطيء” (Thinking, Fast and Slow) وريتشارد ثالر في كتابه “أخطاء السلوك” (Misbehaving). من الجدير بالذكر أن كانيمان وثالر فازا بجائزة نوبل لعملهما في الاقتصاد السلوكي، وكانت إحدى النتائج الرئيسية التي توصلا إليها أن الناس يميلون عموماً إلى التفاؤل، وفي ضوء ذلك، سيكون من المستغرب حقاً أن نضع تقديرات متشائمة لفوائد المشاريع مثلما يقترح هيرشمان. في الواقع، غالباً ما تتجاوز المشاريع النموذجية تكاليفها المقدرة وتقدم فوائد أقل من المتوقع، وقد لوحظ هذا النمط في 80% من المشاريع في قاعدة بياناتنا؛ أي أن نحو 20% من المشاريع فقط تتماشى مع ما يعتقد هيرشمان أنه النمط السائد.

بالتأكيد، بصفتك قائداً للمشروع، من الضروري أن تكون واثقاً من قدرتك على تحمل مسؤوليات دورك، فلكل مشروع تحدياته وستكون ثقتك بنفسك عاملاً رئيسياً يدفعك للمثابرة وسط هذه التحديات. لكن عندما تغريك الثقة المفرطة بالاندفاع إلى العمل بسرعة، هل يجب أن تنصاع لها؟

ربما. قد يحالفك الحظ مثلما حالف الحظ فرديناند ديليسيبس في مصر، ولكن تذكر أن فرصة نجاحك هي 1 إلى 5 فقط. يزيد إهمال التخطيط الدقيق احتمالية الفشل، ويجدر بك أن تضع في اعتبارك أن مسارك المهني قد ينتهي بالطريقة نفسها التي انتهى بها المسار المهني لفرديناند ديليسيبس.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .