خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في 10 مايو/أيار من عام 1940، شنت ألمانيا النازية هجوماً على هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وفرنسا معتمدة على تكتيك حربي يُسمى "الحرب الخاطفة" (Blitzkrieg)، وهو باختصار تكتيك يقوم على الاستخدام الواسع للمدرعات والدبابات لاختراق الخطوط الدفاعية للعدو تحت غطاء مدفعي وجوي وتنسيق محكم، تليها فرق المشاة التي تؤمن المواقع المُخترقة، ونجحت في التغلب على الجيوش الفرنسية والبريطانية المساندة في ظرف نحو 6 أسابيع فقط، حيث استسلمت فرنسا في 25 يونيو/حزيران من السنة نفسها.
استُخدم خلال هذه المعركة لأول مرة مفهوم "رؤوس الحربة المدرعة" (Armoured Spearhead)، وهي تشكيلة من العربات المدرعة أغلبها دبابات تبادر لاختراق صفوف العدو في الوقت والمكان الذي لا يتوقعه، واشتهرت آنذاك الفرقة المدرعة السابعة بقيادة الجنرال "إرفين رومل" التي كان يُطلق عليها "فرقة الشبح" نظراً لصعوبة تتبعها وتوقع حركاتها واعتمادها على عنصر المفاجأة.
أهم شيء تميّزت بها رؤوس الحربة المدرّعة هو عقلية المبادرة التي جسدها الجنرال "هاينز جودريان" الملقب بـ"رائد الحرب الخاطفة" بقوله: "عندما يكون الوضع غامضاً، لا تتردد في الهجوم"، ومصطلح "رأس الحربة" في مجال الأعمال يُستخدم عادة عند الحديث عن إدارة التغيير في المؤسسات، سواء لتغيير عقلية سائدة سلبية بين الموظفين، أو لتبني عقلية جديدة قائمة على التكنولوجيا الحديثة، أو غير ذلك من أوجه التغيير والتحوّل، وهو يصف الموظفين الذين يبادرون أو يستبقون التغيير الإيجابي من تلقاء أنفسهم، وهم نفسهم الموظفون الذين يكثر عليهم الطلب حيث تؤكد الدراسات أن الموظفين "رؤوس الحربة" يأخذون زمام المبادرة بأنفسهم ويتسمون بأنهم أفضل أداءً وأكثر مساهمة وابتكاراً من غيرهم.
يُقصد بالمبادرة في بيئة العمل تجاوز المسؤوليات المحددة في الوصف الوظيفي وتنفيذ مهام أخرى غير متوقعة بهدف تحقيق إنجازات متوافقة مع رؤية الشركة، وذلك معناه تحديد ما يجب القيام به واتخاذ القرار بمحض إرادتك دون أن يطلب منك أي شخص آخر القيام بذلك، على أن يكون الدافع الرئيس وراء ذلك شخصياً لكن يصب في مصلحة التحسين والتغيير الإيجابي الذي يمس الكل.
فيما يلي، بعض النصائح التي تساعدك لتصبح "رأس الحربة" في مؤسستك:
1. التعلم المستمر: لا يخفى على أحد أن من يقاوم التغيير سينتهي به الأمر خارج السوق، لا سيما في بيئة تتطور فيها التكنولوجيا بوتيرة متسارعة، لذلك وقبل الشروع في التعلم، يجب تبني عقلية التعلم مدى الحياة التي تطرق لها الكاتب "جون هاغيل" حيث لخص شغف "رؤوس الحربة" في التعلم بهذه العناصر الثلاثة:
- التزام طويل الأمد بتحقيق أثر في مجال معين.
- الشعور بالحماس عند مواجهة تحديات مفاجئة، والنظر للعقبات على أنها فرصة للتعلم.
- عند مواجهة تحدي جديد، البحث عمن يمكنهم المساعدة والتواصل معهم بهدف الحصول على أجوبة أفضل.
2. تعرف إلى زملائك في العمل: حاول التعرف على نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم وعادات العمل لديهم بصفة عامة وتفضيلاتهم. يتيح لك ذلك تعاوناً فعالاً عندما تبادر إلى التغيير، بحيث تكيّف أسلوبك في طلب المساعدة أو التعاون حسب خصائص الزميل وكفاءته، ثم إن ذلك قد يسهم في حصولك على مشورة قيّمة. أوردت الأستاذة والخبيرة "دوري كلارك" في هذا المقال 6 طرق لإقناع الآخرين بالتعاون معك، وأطلقت عليها "رأسمال التعاون"، أهمها التطوع بالجهد والتحكم في مجال التخصص والتمتع بالخبرة.
3. بادر لحل المشكلات دون أن يطلب منك أحد ذلك: "رأس الحربة" لا ينتظر من الآخرين حل المشكلة التي تواجههم كفريق، وإنما يبادر لطرح حلول دون الخوف من الفشل، وتعد مهارة حل المشكلات من أهم المهارات التي يتمتع بها هذا النوع من الموظفين، ويؤكد أستاذ كلية هارفارد "رانجاي غولاتي" في هذا الفيديو على عدم التسرع والشروع في طرح الحلول دون تشخيص دقيق يحيط بكل جوانب المشكلة، وهو ما يسميه "التفكير التشخيصي"، ثم إنّ "أسلوب الاقتطاع" في حل المشكلات يعد طريقة مبتكرة للنظر إلى المشكلة قبل البحث عن حلول لها.
4. اطرح الأسئلة الصحيحة: يُظهر طرح الأسئلة الفضول والاهتمام، وهي ميزة لدى "رؤوس الحربة" يسعون من خلالها لفهم سبب أداء المهمات بطريقة معينة دون غيرها، وتوجد العديد من أنواع الأسئلة التي تتيح تحقيق الهدف، بل العديد من تصنيفات الأسئلة المختلفة التي ابتكرها الباحثون، لخصها الخبيران "توم بولمان" و"نيثي ماري توماس" في مقالهما المنشور في هارفارد بزنس ريفيو إلى 4 أنواع رئيسية من الأسئلة هي:
أسئلة الاستيضاح: تساعدنا على فهم أفضل لما قيل، إذ إنه خلال العديد من المحادثات، تجد أن الناس يتحدثون مباشرة وراء بعضهم البعض، وبالتالي فإن طرح أسئلة استيضاحية يمكن أن يكشف النوايا الحقيقية من وراء ما قيل.
أسئلة الربط: تُستعمل لاستكشاف الجوانب المترابطة في مشكلة معينة والتي يجري تجاهلها أثناء الحديث. ومن الأمثلة على هذا النوع من الأسئلة "ما الاستعمالات الأخرى لهذه التكنولوجيا؟".
أسئلة التعمق: هي أسئلة تستعمل للغوص عميقاً وسبر أغوار المواضيع بالتفصيل. ونحن نطرح هذه الأسئلة لنعرف كيف تم التوصل إلى إجابة معينة، ولتحدي بعض الافتراضات الحالية، ولفهم الأسباب الجذرية العميقة للمشكلات.
أسئلة التوسع: هي نوع من الأسئلة التي تطرح القضايا من منظور واسع، وتسلط الضوء على الصورة الكبرى، وتساعدنا على إلقاء نظرة من بعيد أو من الأعلى.
قبل تولي زمام المبادرة
إن كنت تسعى لأن تكون أحد رؤوس الحربة في شركتك، يجب أن تأخذ في الحسبان بعض العوامل التي قد تسهم في نجاح مبادرات التغيير الإيجابية أو تؤدي لفشلها، وقد لخصت الأستاذتان "ينغ وانغ" و"شارون باركر" في مقالهما بعنوان "متى تتولى زمام المبادرة في العمل ومتى ينبغي ألا تفعل؟" هذه العوامل فيما يلي:
إدارة الذات: أن تكون مبادراً هو أمر يتطلب قدراً كبيراً من الوقت والجهد، لذلك من المهم أن تدرك أنّ بعض المشكلات ليست ضمن اختصاصك لتقوم بحلها، كما أن تحمل الكثير جداً من المبادرات أو تولي مبادرات كبيرة للغاية قد يؤدي بسهولة إلى الإرهاق المهنيّ.
مراعاة الآخرين: التغيّرات التي تُجريها على عملك تؤثر غالباً على فِرق العمل الأخرى. ومع ذلك، فإنّ الكثير من الموظفين المبادرين لا يهتمون إطلاقاً بالكيفية التي قد يؤثر بها سلوكهم الاستباقي على الآخرين.
التوافق مع أهداف المؤسسة: إن لم تكن الفكرة متوافقة مع استراتيجية المؤسسة الرئيسية أو رسالتها، فمن المرجح أن تكون هذه الفكرة مجرد مضيعة للوقت والموارد.
نختم بمقولة للكاتب الشهير "نابليون هيل" الذي أكد على أهمية روح المبادرة من خلال قوله: "يأخذ الأشخاص الناجحون زمام المبادرة من تلقاء أنفسهم، لكنهم يعرفون إلى أين يتجهون قبل أن يبدؤوا".