ليس الابتكار في جوهره مسألة "تجربة وخطأ"، خاصة عندما تملك القدرة على تفسير اختيارات زبائنك.
لطالما كان الابتكار أولوية قصوى لدى قادة الأعمال، ومصدر إحباط كبير لهم في الوقت ذاته. ففي استطلاع أجرته مؤسسة ماكنزي، رأى 84% من الرؤساء التنفيذيين أن الابتكار مهم جداً لاستراتيجيات النمو الخاصة بهم، لكن نسبة صاعقة بلغت 94% منهم لم يكونوا راضين عن أداء مؤسساتهم فيما يخص الابتكار. وعليه فإن معظم الناس يتفقون على أن الغالبية الساحقة من الابتكارات ينقصها الطموح.
على الورق، لا يبدو ذلك منطقياً، فالشركات تعرف زبائنها الآن بشكل لم يكن متاحاً من قبل قط، وذلك بفضل ثورة البيانات الضخمة. إذ باتت الشركات الآن تجمع كميات وأنواعاً هائلة من المعلومات الخاصة بالزبائن وبسرعة غير مسبوقة، ومن ثم تُخضعها لتحليلات متطورة. كما طوّرت شركات عديدة عمليات منهجية ومضبوطة للابتكار وجلبت مواهب عالية المهارة لتشغيلها، ومعظم الشركات تحسب مخاطر الابتكار بحذر وتحدّ منها. ظاهرياً إذن يبدو وكأن الشركات قد أبدعت عمليات دقيقة وعلميةً، لكن واقع الأمر هو أنه لمعظم هذه الشركات، لا يزال الابتكار مسألة مؤلمة تعتمد على التجربة والخطأ.
أين الخلل يا ترى؟
المشكلة الجذرية تكمن في أن معظم بيانات الزبائن الضخمة التي تخلقها الشركات تعنى بشكل أساسي ببيان علاقات ترابطية بينهم: هذا الزبون يشبه ذاك، أو 68% من الزبائن يقولون إنهم يفضلون الخيار أ على الخيار ب. صحيحٌ أن اكتشاف الأنماط من خلال الأرقام أمرٌ مشوّق، إلا أن هذه الأنماط لا تعني فعلياً أن شيئاً ما قد سبّب آخر. ورغم أنه من المعروف أن الترابط لا يساوي السببية، فأغلب الظن أن معظم المدراء باتوا يميلون بأريحية إلى الاتكاء على علاقات ترابطية عند اتخاذ قراراتهم.
لماذا يعد هذا مضللاً؟ خذ مثلاً كلايتون كريستينسن، أحد الكتاب المشاركين في هذا المقال. عمره 64 عاماً. طوله متران تقريباً. ونمرة حذائه 50. أرسل هو وزوجته أولادهما إلى الجامعات. يذهب إلى عمله بسيارة ميني ڤان من نوع هوندا. لديه العديد من السمات، لكن أياً من هذا السمات لا يكفي لتفسير سبب خروجه وشرائه صحيفة النيويورك تايمز، فأسباب شرائه لها محددة أكثر بكثير. قد يشتريها لأنه يحتاج لقراءة شيء ما على متن الطائرة، أو لأنه يشجع فريق كرة سلة وقد حان موعد بطولة كرة السلة للرجال. ولذلك لن يستطيع المُسوقون الذين يجمعون المعلومات الديموغرافية أو النفسية عنه -ويبحثون عن علاقات تربطه بشرائح أخرى من المشترين- تحديد هذه الأسباب.
بعد عقود من رؤية شركات عظيمة تنهار، وصلنا إلى استنتاج بأن التركيز على العلاقات الترابطية -وعلى معرفة المزيد والمزيد عن الزبائن- قد قاد الشركات في طريق خاطئ. أما ما يلزم البحث عنه حقيقية فهو التقدم الذي يحاول الزبون إحرازه في ظرف معين، أي ما يسعى الزبون لإنجازه. هذا ما بتنا نسميه المهام اللازم إنجازها.
لدينا جميعاً العديد من المهام التي يجب إتمامها. بعضها صغير (كقضاء الوقت خلال الانتظار في الطابور)، وبعضها كبير (كإيجاد مهنة أكثر تحقيقاً للذات). بعضها يطرأ دون إنذار (كأن أبحث عن ملابس لحضور اجتماع عمل خارج المدينة بعد أن أضاعت شركة الطيران حقيبتي)، وبعضها متكرر بانتظام (كتحضير وجبةٍ صحية لتأخذها ابنتي للمدرسة). حين نشتري منتجاً ما، فنحن "نوظفه" ليساعدنا في إتمام مهمة. فإن أتم المهمة على وجه حسن، فسنميل لتوظيفه مجدداً حين تواجهنا المهمة ذاتها مرة أخرى. وإن أدّاها على نحو سيئ، فإننا "نتخلى عنه" ونبحث عن بديل. (نستخدم كلمة "منتج" هنا للدلالة عموماً على أي حل يمكن للشركات بيعه، بالطبع، كما أن القائمة الكاملة لـ"المهام المرشحة" عادة ما تتجاوز ما تقدمه الشركات وحسب).
بُني هذا التصور على مدى عقدين في مساق يُدرّسه كريستنسن في كلية "هارفارد للأعمال". تطورت نظرية المهام التي يجب إتمامها كمكمّل لنظرية الابتكار المُزعزِع، التي تدور في جوهرها حول الحلول المبتكِرة التنافسية: إنها تفسر وتتنبأ بسلوك الشركات المهددَة بالزعزعة، وتساعدها على معرفة أي المتنافسين الجدد يشكل الخطر الأكبر.
لكن نظرية الزعزعة لا تخبرك كيف تخلق منتجات وخدمات يريد الزبائن شراءها. أما نظرية المهام التي يجب إتمامها فتفعل ذلك. فهي تحول فهمنا لقرارات الزبون بطريقة لا يمكن أن تماثلها أي كمية من البيانات، لأنها تنبع من الدافع السببي للشراء.
التركيز على معرفة المزيد والمزيد عن الزبائن قاد الشركات في طريق خاطئ.
العمل في مجال نقل الحياة من مكان لآخر
قبل عقد من الزمن، كُلّف بوب مويستا، وهو مستشار مختص في مجال الابتكار وصديق لنا، بالعمل على رفع مبيعات شقق جديدة لشركة إنشاءات في منطقة ديترويت. استهدفت الشركة مجموعة الأشخاص الراغبين في الانتقال إلى بيت أصغر: كشخص متقاعد يرغب في الخروج من بيت العائلة الكبير أو مطلّقَين يعيش أي منهما مع الأبناء. وكانت أسعار الشقق موجهة لجذب هذه الفئة، بأسعار تتراوح بين 120,000 و200,000 دولار، مع بعض التشطيبات الفاخرة لمنح إحساس بالرفاهية: أرضيات "مضادة للصرير"، وتسويات ذات طبقات ثلاثية للحماية من تسرب الماء، ومصاطب من الغرانيت وتجهيزات من الصلب المضاد للصدأ. كان هناك فريق من الموظفين الأكفاء متوفر ستة أيام في الأسبوع لأي مشترٍ محتمل قد يعبر الباب. وبحملة تسويقية سخية، انتشرت الإعلانات على صفحات أقسام العقارات في صحف الأحد.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
معدلات نجاح الابتكار حول العالم متدنية بشكل صادم، وهي على هذه الحالة منذ عقود.
المطلوب
المسوقون ومطورو المنتجات يركزون أكثر من اللازم على وصف الزبائن والعلاقات التي لا تسندها البيانات، ولا يركزون كفاية على ما يحاول الزبائن تحقيقه في ظرف ما.
الحل الفعال
المبتكرون الناجحون يحددون "المهام" التي لا تنجز على النحو الذي يرضي العملاء، ثم يصممون منتجات وتجارب وعمليات من أجل إنجاز هذه المهام على الوجه المطلوب.
حصدت إعلانات الشقق الكثير من المشاهدات، لكن قلة من الزيارات تحولت إلى مبيعات. قد تصبح أفضل ربما بنوافذ بارزة؟ أعجبت الفكرة بعض المشاركين في جلسة مجموعة تركيز، لذا اندفع المهندس المعماري لإضافة نوافذ بارزة (وكل التفاصيل الأخرى التي اقترحتها مجموعة التركيز) لعدد من الشقق المعروضة. لكن المبيعات لم تتحسن أيضاً.
أجرت الشركة تحليلاً للجدوى الاقتصادية لكل تلك التفاصيل في كل شقة، إلا أنها في الواقع لم يكن لديها فكرة عما يفرق بين الزبون المتردد والمشتري الجاد. كان من السهل تبرير سوء المبيعات: الطقس السيء، رداءة أداء موظفي المبيعات، الركود المرتقب، قلة الإجازات، موقع الشقق. لكن عوضاً عن دراسة هذه العوامل، اتخذ مويستا مقاربة غير معتادة: قرر أن يعرف من الأشخاص الذين اشتروا شققاً ما المهام التي كانوا يتوقعون من الشقق أداءها. "طلبت من الناس أن يرسموا تسلسلاً زمنياً لوصولهم إلى هذا القرار"، يستذكر مويستا. وقد كان أول ما اكتشفه عبر تجميع الأنماط المشتركة في المقابلات العديدة التي أجراها هو ما الذي لم يكن سبباً في الشراء. لم يكن هنالك تصنيف ديموغرافي أو نفسي واضح لمشتري البيوت الجديدة، حتى وإن كانوا جميعاً ينتمون لتلك الفئة التي ترغب بمنزل أصغر. كما لم تكن الشقة تمتاز بمجموعة محددة من المواصفات التي قدّرها المشترون لدرجةٍ ساهمت في اتخاذهم قرارَهم.
لكن تلك الحوارات كشفت دليلاً غير متوقع: طاولة السفرة. أخبر الزبائن المحتملون الشركة مراراً برغبتهم في غرفة معيشة كبيرة، وغرفة نوم ثانية كبيرة للزوار، ومنصة للفطور لجعله مسلياً وسهلاً، لكنهم لم يرغبوا بغرفة طعام رسمية. ومع ذلك، فقد تردد الحديث عن المائدة مراراً في حوارات مويستا مع المشترين الفعليين. "ظل الناس يقولون: في اللحظة التي وجدت فيها طريقة للتصرف بطاولة السفرة، أصبحت قادراً على الانتقال"، يقول مويستا. لم يفهم هو وزملاؤه لمَ كانت طاولة الطعام قضية كبيرة. في معظم الحالات، كانت هذه الموائد مستعملة لفترة طويلة وخارج الموضة، وفي أحسن الأحوال يمكن منحها لجمعية خيرية أو رميها في أقرب مكب.
لكن حين جلس مويستا إلى مائدته مع عائلته لعشاء عيد الميلاد، أدرك السر فجأة. لقد خطر على ذهنه كل حفلة عيد ميلاد احتفل بها حول هذه الطاولة، وكل مناسبة أخرى. إضافة لما شهدته من حل واجبات مدرسية عديدة مع الأولاد. إذاً لقد كانت المائدة تمثل الأسرة وتذكِر بها.
كوّن مويستا فرضية تقول إن ما كان يمنع المشترين من اتخاذ قرارهم بالانتقال، لم يكن ميزة فشلت شركة الإنشاءات في تقديمها، بل القلق الذي صاحب التخلي عن شيء ذي قيمة عميقة. وهكذا اتضح أن قرار امتلاك شقة بمئات الآلاف كان متعلقاً بموافقة أحد أفراد العائلة على احتضان قطعة أثاث رثة.
ساعد هذا الإدراك مويستا وفريقه على البدء في فهم الصراع الذي واجهه المشترون المحتملون. "كنت أفكر أننا نعمل في مجال بناء البيوت الجديدة"، يستذكر مويستا. "لكنني أدركت أننا نعمل في مجال نقل "نمط الحياة من مكان لآخر".
بهذا الفهم للمهمة التي يجب إتمامها، تم إجراء عشرات التعديلات الصغيرة المؤثرة على العروض المقدمة. على سبيل المثال، تمكن المهندس المعماري من خلق مساحة للمائدة في الشقق بتقليص مساحة غرفة النوم الثانية. ركزت الشركة كذلك على تخفيف القلق الذي يرافق الانتقال، إذ وفّرت خدماتٍ للنقل، وفرصة استئجار مساحات تخزين لسنتين، ومستودعاً داخل المبنى، لإتاحة أكبر وقت ممكن للمالكين لاتخاذ قراراتهم حول ما يريدون التخلص منه.
هذه الفطنة في معرفة المهام التي احتاج الزبائن إتمامها سمحت للشركة بالتفريق بين عروضها بطرق من غير المحتمل أن يستطيع المنافسون تقليدها، أو حتى فهمها. هذا المنظور الجديد غيّر كل شيء. فعلياً، رفعت الشركة الأسعار بـ 3,500 دولار، وهو ما شمل تغطية تكلفة النقل والتخزين، مع هامش ربح. بحلول 2007، حين انخفض معدل النموّ في سوق العقارات بنسبة 49% وكان السوق بأكمله على وشك الانهيار، نجح روّاد هذا المشروع بتحقيق نسبة نموّ في شركتهم بلغت 25%.
الإلمام بالمهام التي يجب إنجازها
الابتكارات الناجحة هي تلك التي تساعد المستهلكين على حل المشاكل، أي على أن يحرزوا التقدم الذي يحتاجونه، متجاوزين في الوقت نفسه أيّ توتر أو تكاسل يعيقان تحقيق ذلك. لكن من الضروري أن نوضح أن "المهام التي يجب إنجازها" ليست شعاراً براقاً صالحاً لأيّ استخدام. فالمهام مركّبة ومتعددة الأوجه، وتتطلب تعريفاً دقيقاً. وإليكم بعض المبادئ الأساسية التي يجدر تذكّرها:
"المهمة" هي كلمة عامّة للتعبير عمّا يسعى المرء لتحقيقه في ظرف معين. لكن هذا الهدف عادة ما يتضمن أكثر من مجرد واجب بسيط؛ فكّر بالتجربة التي يحاول الشخص بناءها. لقد كان ما بحث عنه مشترو الشقق هو الانتقال إلى حياة جديدة، في ظرف محدد يتعلّق بالبحث عن بيت أصغر، وهو ظرف يختلف تماماً عن ظرف شراء أوّل بيت.
هذه الظروف أهم من خصائص الزبون، أو مزايا المنتج، أو التقنيات أو الموضات الجديدة. قبل أن يفهم مطوّرو المشروع المهمة الضمنية وراء الشراء، كان يركزون على جعل الشقق مثالية. لكن حين نظروا للابتكار من خلال ظروف الزبون، بدت ساحة التنافس مختلفة بالكامل. فعلى سبيل المثال، لم تكن الشقق الجديدة تتنافس مع شقق جديدة أخرى، بل مع فكرة الانتقال من عدمه أساساً.
الابتكار الجيّد يحل مشاكل لم يكن لها سوى حلول رديئة، أو لم يكن لها حلول على الإطلاق. كان المشترون المرتقبون يبحثون عن حياة أبسط دون تعقيدات ملكية المنزل. لكنهم اعتقدوا أنه من أجل تحقيق ذلك، كان عليهم تحمل ضغط بيع منازلهم الحالية، والخوض في خيارات مرهقة حول ما يجب الاحتفاظ به. أو، في المقابل، بإمكانهم البقاء حيث هم، حتى لو كانت عيوب هذا الخيار ستظهر أكثر فأكثر مع تقدمهم في السن. ولكن حين برز خيار ثالث يلبي كل المعايير، تحول هؤلاء المتسوقون إلى مشترين.
المهام لا تتعلق أبداً بأداء الوظيفة وحدها، بل لها أبعاد اجتماعية وعاطفية مؤثرة. فخلق مساحة في الشقق لطاولات السفرة خفف من وطأة قلق حقيقي عانى منه المشترون المحتملون، فقد بات بوسعهم نقل الطاولة معهم إن لم يجدوا لها بيتاً جديداً. وتوفير مساحات تخزين لسنتين ومستودع داخل المبنى منحهم فرصة المعالجة الهادئة لعواطفهم، يتيح لهم فرصة اتخاذ قرار متأنٍّ بشأن ما سيحتفظون به وما سيتخلصون منه. وهكذا كان تخفيف وطأة الضغط الذي عاشوه قد شكّل فارقاً أساسياً.
هذه المبادئ مشروحة هنا في سياقات تعاملات الشركة مع الزبائن، لكن فهم المهامّ الواجب إنجازها لا يقلّ أهمّية في التعاملات بين مؤسسات الأعمال على سبيل المثال، انظر القائمة الجانبية "إنجاز المهامّ للعملاء على مستوى الشركات".
العروض القائمة على المهامّ
إنّ الفهم العميق للمهمّة يتيح لك القدرة على الابتكار دون تخمين التنازلات التي قد يقدم عليها عملاؤك. إنّ هذا نوع من أسرار المهنة.
في أكثر من 20,000 منتج جديد خضع للتقييم في تقرير نيلسن للابتكار المتميّز (2012-2016) كان هناك 92 منتجاً فقط حقق 50 مليون دولار أمريكي من المبيعات في العام الأول، ثم مبيعات مستدامة في العام الثاني، من دون احتساب التوسّعات ضيّقة النطاق في خطّ الإنتاج. (تادي هول هو رئيس لجنة كتابة تقرير نيلسن.) ظاهرياً قد تبدو قائمة المنتجات التي حققت الأرباح العالية عشوائية- مثل قهوة ديلايت المثلجة (Delight Iced Coffee)، ومنتجات هيرشي ريسز مينيز (Hershey’s Reese’s Minis) وتايدي كاتس لايت ويت (Tidy Cats LightWeight) ولكن ثمة أمر مشترك بينها. فوفق تقرير نيلسن، كلّ واحد من هذه المنتجات تميّز في مجال محدّد لم تتقن أداءه الشركات الأخرى. فمنتجات قهوة ديلايت تتيح للناس الاستماع بمشروبات القهوة الباردة وهم في منازلهم. أما شركة تايدي كاتس فقد وفّرت على ملايين أصحاب القطط عناء حمل صناديق ثقيلة من التربة الخاصّة بفضلات القطط من رفوف المحلّات إلى صناديق السيارة ثم على سلالم البيوت.
الوظائف ليست مقتصرة على دور العامل في أداء المهام، لكنها مرتبطة أيضاً بجوانب اجتماعية وعاطفية.
ويمكن أن تتساءل عن الطريقة التي حققت بها شركة "هيرشي" نجاحاً مفاجئاً، بما قد يبدو مجرّد نسخة أخرى من حلوى زبدة الفستق التي تصنع منذ عقود؟ لقد بدأ الباحثون في الشركة باستكشاف الظروف التي ستجعل المتحمسين لمنتجات "ريسيز" يتخلّون عن شكل المنتج الحالي. وقد نجحوا في تحديد مجموعة من المواقف لتناول المنتج: أثناء قيادة السيارة، أو الوقوف في محطة قطار مزدحمة، أو ممارسة ألعاب الفيديو، حيث كان الشكل الأصلي كبيراً ويسبب الكثير من الإرباك، أمّا القطع الصغيرة المغلفة واحدة واحدة، فقد كان مجرد فتحها معضلة (إذ يلزم استخدام كلتا اليدين لفتحها). كما أن منظر رقاقات التغليف التي تتجمّع لدى فتح المنتج كان يتسبب بشعور من الندم بعد أكلها، فتقول: كيف أكلت كل هذا!! ثمّ حين ركّزت الشركة على مهمّة إنتاج نسخ أصغر من منتج "ريسيز" قررت إنتاج "ريسيز مينيز". فتمّ الاستغناء في هذا المنتج الجديد عن التغليف برقاقات الألمنيوم حتى لا تتسبب بشعور الندم بعد أكله، كما أنّها تأتي بكيس مسطح القاعدة يمكن إعادة إغلاقه، ويمكن للمستهلك بكل يسر أن يمدّ يده إليه ليتناول قطعة صغيرة. لقد كانت النتائج مذهلة: إذ بلغ حجم المبيعات 235 مليون دولار أمريكي في أوّل سنتين، وهكذا ولدت فئة متميّزة جديدة من منتجات الشركة.
ّ تحديد المهام الواجب إنجازها
تحليل المهام لا يتطلب منك أن تهمل البيانات والأبحاث التي جمعتها. فتحليل الشخصيات والأبحاث الإثنوغرافية ومجموعات التركيز ولجان العملاء والتحليل التنافسي وغيرها، قد تشكل نقاط بداية مناسبة تماماً لاستنباط بعض الإشارات المهمة. وفيما يلي خمسة أسئلة تساعدك على استكشاف المهام التي يحتاج عملاؤك مساعدة بخصوصها.
هل لديك مهمة يلزم إنجازها؟
قد يكون من الغريب في عالم مهووس بالبيانات، أن يـكـون بـعـض أعظم المبتكرين قد حققوا نجاحاتهم بشيء أكثر بقليل من البداهة لتوجيه جهودهم. لقد فـكـرت بليزنت رولاند بصناعة دمى أميركان غيرل أثناء بحثها عن هدايا تساعدها في تعزيز الروابط التي تجمعها مع بنات أخيها. وشيلا مارسيلو أنشأت موقع care.com ليقدم خدمة "التنسيق" لتبادل خدمات رعاية الطفل، أو رعاية كبار السن، أو حتى رعاية الحيوانات الأليفة، وذلك بعد معاناتها الشخصية لرعاية أفراد عائلتها. والآن وبعد أقــل مـن عشر سنوات بلغ عـدد الأعضاء المسجلين في الموقع 10 مليون عضو من 16 دولة وبلغت أرباحه قرابة 140 مليون دولار أميركي.
أين تجد حالة انعدام الاستهلاك؟ بوسعك أن تتعلم من أولئك الذين لا يستخدمون منتجاتك بقدر ما تتعلم ممن يستخدمونها. فحالة انعدام الاستهلاك تشكل الأرضية الأكثر خصوبة لاستكشاف الفرص الجديدة، تماماً كما حصل في جامعة ساذرن نيوهامشير حين شرعت في التواصل مع الطلبة الأكبر سناً.
ما الأساليب غير المباشرة التي يخترعها الناس لإنجاز شيء ما؟ لو لاحظت أن العملاء يحاولون جاهدين الحصول على شيء ما من خلال بعض الطرق غير المباشرة فعليك أن تتنبه جيداً. فقد يكون العميل غير راض أبداً عن الحلول المتوفرة لديه، أو أنه يلتفت إلـى مجموعة واعـــدة مـن مؤسسات الأعمال الجديدة الأخرى. حين لاحظت شركة "إينتويت" أن أصحاب الشركات الصغيرة كانوا يستخدمون أداة كويكن (Quicken) المصممة للأفراد- لإدارة حسابات هذه الشركات، فإنها أدركت أن الشركات الصغيرة تمثل سوقاً جديدة ضخمة.
ما المهام التي يود الناس تجنبها؟
هنالك العديد من المهام في الحياة اليومية التي بالكاد نـود القيام بها ونحاول تجنبها، وهـي تعرف باسم "المهام ّ السلبية". لقد قرر أحد خريجي كلية هارفارد للأعمال ريـك كريغر وبعض الشركاء بإنشاء شركة كويس ميدإكس (QuickMedx) وهي الشركة التي سبقت إنشاء سيفيز مينيت كلينكز، وذلك بعد أن (CVS MinuteClinics) أمضى كريغر بضع ساعات وهو ينتظر في غرفة الطوارئ كي يحصل ابنه على فحص لالتهاب الحلق. ففي مينيت كلينكز يمكن معاينة المريض الذي يدخل بشكل فوري، ويمكن للممرضات الـعـامـلات فـي هــذه الـعـيـادة وصف الأدوية للأمراض البسيطة كالحساسية أو التهاب الأذن أو الحلق.
ما الاستخدامات غير المألوفة التي أوجدها العملاء في المنتجات؟
لقد كــان أكـبـر نـجـاح على مستوى المنتجات الاستهلاكية المغلفة مؤخراً نتيجة استخدامات غير مألوفة لبعض المنتجات الموجودة أصلا في السوق. خــذ مـثـلاً دواء (NyQuil) والــذي يستخدم منذ عقود لعلاج الـزكـام، ولكن تبين أن بعض المستهلكين كانوا يجرعون ملعقتين منه أحيانا لمساعدتهم عـلـى الـــنـــوم، حــتــى لــو لــم يـكـونـوا مرضى. وحين لاحظت الشركة هذا الاستخدام العجيب للدواء، قررت إنتاج (ZzzQuil) والذي يوفر لمن يتناوله نوماً هانئاً من دون المكونات الأخرى التي لا يحتاجونها.
تشكيل تجارب العملاء. يعدّ تحديد وفهم المهمّة المزعم أداؤها خطوتين أساسيتين في تطوير المنتجات التي يريدها المستهلك، خاصة تلك التي يدفعون مبالغ كبيرة لقاء الحصول عليها. من الضروري كذلك تشكيل المجموعة المناسبة من التجارب مع عملية الشراء واستخدام المنتج، ومن ثمّ دمج هذه الخبرات في عمليات الشركة.
حين تقوم شركة ما بذلك فسيكون عسيراً على المنافسين مسايرتها فيما تفعل. من الأمثلة على ذلك الدمى التي تنتجها شركة (أميركان غيرل). إن لم يكن لديك بنت صغيرة، فلن تستطيع ربّما أن تفهم كيف يمكن لشخص أن يدفع أكثر من مئة دولار مقابل دمية، وأن يدفع مئات أخرى لملابس هذه الدمية والكتب والإكسسوارات الخاصّة بها. ولكن الشركة قد باعت بالفعل أكثر من 29 مليون دمية، محققةً أكثر من 500 مليون دولار من المبيعات سنوياً.
فما الأمر المميّز إلى هذا الحدّ في دمى أميركان غيرل؟ حسناً، في الواقع الأمر ليس متعلقاً بالدمية نفسها. صحيح أن هنالك أشكالاً وألواناً عديدة لها، وهي دمى جميلةٌ ومتينة وظريفة، ولكنّها ليست مذهلة ولا خارقة. ومع ذلك فإنها تسيطر على السوق منذ حوالي 30 عاماً. حين ترى منتجاً أو خدمة لم يتمكّن أي أحد آخر من تقديم مثيل لها، فإنّ هذا المنتج يتوقّف عادة عن كونه في ذاته مصدر الميزة التنافسيّة على المدى الطويل.
لم تحز شركة أميركان غيرل على السيطرة في السوق لفترة طويلة لمجرّد أنّها تبيع دمية، بل أحرزت ذلك لأنّها تبيع تجربة بأكملها. فكل دمية تمثّل زماناً ومكاناً مختلفين في التاريخ الأمريكي، وتأتي مع كتب تروي قصّة كل دمية من هذه الدمى. فالدمية للبنت الصغيرة هي فرصة غنيّة للعيش في قصص خياليّة والتواصل مع الصديقات اللواتي لديهنّ دمى أخرى، ونسج ذكريات حميميّة مع أمهاتهنّ وجدّاتهنّ أيضاً. أمّا بالنسبة للوالدين-من يشتري الدمية- فإنّ هذه الدمية تحفز البنت على أن تكون جزءاً في حوارٍ طويل بين أجيال سبقتها من البنات، حول كفاح المرأة وقوّتها والقيم والتقاليد التي لديها.
لقد كانت السيدة بليزنت رولاند، مؤسسة شركة أميركان غيرل تشتري هدايا عيد الميلاد لبنات أختها حين خطرت لها هذه الفكرة. كانت لا تريد أن تقدّم للبنات دمية باربي ذات الإيحاءات الجنسية المفرطة، ولا تلك الدمى الإسفنجية الصغيرة التي لا تناسب أعمارهنّ. إنّ هذه الدمى-والعوالم التي تمثّلها- تعكس فهم رولاند الدقيق للمهمّة التي تؤديها الدمية للبنت الصغيرة قبل سنّ المراهقة، ألا وهي مساعدتها على التعبير عن مشاعرها والشعور بالهويّة والذات، والتعرف على خلفيتها الثقافية والعرقية، بالإضافة إلى منحها الشعور بالقدرة على تجاوز التحديات في حياتها.
هنالك عشرات من الدمى التي أنتجتها شركة أميركان غيرل والتي تمثّل نطاقاً واسعاً من الشخصيّات. لديهم مثلاً دمية كايا، وهي بنت صغيرة من إحدى قبائل السكّان الأصليين في أمريكا في الشمال الغربيّ في القرن الثامن عشر. تتحدّث قصتها عن شخصيتها القيادية وتعاطفها وشجاعتها وولائها. وهنالك كريستن لارسون، وهي بنت لاجئة من أصول سويدية تستقر في مينيسوتا وتواجه بعض المحن والتحديات، ولكنها في النهاية تتغلب عليها. وغيرها الكثير من الشخصيات. ولعل جزءاً كبير من الإعجاب بهذا النوع من الدمى عائد إلى تلك الكتب ذات الأسلوب المتميّز في السرد التاريخيّ الدقيق بخصوص كل شخصيّة من الشخصيات.
لقد فكّرت رولاند وفريق العمل لديها في كل الخبرات اللازمة لأداء هذه المهمّة. لم تُعرض هذه الدمى للبيع في محلات الألعاب التقليدية، وإنّما كانت ترسل إلى البيوت بعد طلبها عبر البريد، أو الذهاب لشرائها من فروع أميركان غيرل، والتي كانت في البداية موجودة في بضعة أماكن وحسب في المناطق المأهولة. يوجد لدى فروع أميركان غيرل "مستشفى الدمى" حيث يتم تصليح شعر الدميّة أو أطرافها المكسورة. كما يوجد في بعض هذه الفروع مطاعم، حيث يمكن للوالدين تناول أطعمة مناسبة للأطفال بحضور الدمية- بالإضافة إلى مساحات يمكن فيها تنظيم حفلات أعياد الميلاد للصغار. وهكذا صار الذهاب إلى أحد فروع أميركان غيرل نزهة متكاملة ومتميّزة، تكون الدمية فيها محوراً لذكريات عائلية لا تُنسى.
لقد تمّ التنبّه إلى كل صغيرة وكبيرة من التفاصيل دون إهمال أي شيء. خذ مثلاً الصندوق ذا اللون الأحمر والوردي الذي توضع به الدمية. تذكر رولاند النقاش حول خيار تغليف الدمية بشريط من الكرتون الرفيع، وقد اقترح المصممون الاستغناء عنه لأنّ تكلفته تبلغ سِنتين ويحتاج 27 ثانية في عملية التغليف. أمّا رولاند فرفضت هذه الفكرة تماماً، وقالت: "أنتم لا تفهمون الأمر. ما الذي يجب فعله ليكون هذا الأمر مميزاً للبنت الصغيرة؟ أنا لا أريدها أن ترى دمية بغلاف مضغوط وهي تخرج من الصندوق. حين يكون على هذه الصغيرة أن تنتظر لحظة وحسب لنزع الشريط وفتح الورقة تحت غطاء الصندوق، فإنّ هذا سيزيد من حماستها لفتحه. ليس الأمر شبيهاً بالسير إلى أحد محلات الألعاب وتناول لعبة باربي هكذا من على أحد الرفوف."
لقد حاولت بعض الشركات في الآونة الأخيرة، مثل شركة تويز آر أص، وشركة وولمارت، وحتى ديزني، تحدّي ذلك النجاح الذي حققته دمية أميركان غيرل، وإنتاج دمى شبيهة وبيعها بسعر ضئيل مقارنة بها. ومع أن مبيعات أميركان غيرل، والتي تملّكتها شركة ماتيل (Mattel) قد واجهت شيئاً من التراجع في المبيعات في السنتين الأخيرتين، إلا أنّه ما من منافس حتّى الآن قد تمكّن من زحزحتها عن مكانتها المسيطرة في السوق. ما السبب يا ترى؟ تعتقد رولاند أن المنافسين يرون أنفسهم في "عالم صناعة الدمى"، أمّا هي فلم يغب عنها سرّ الإعجاب الأثير بدمية أميركان غيرل والذي يكمن في التجارب والقصص والروابط التي تمثّلها هذه الدمية.
ضبط العمليات. القطعة الأخيرة من الأحجية هي العمليات- كيف تقوم الشركة بتحقيق التكامل بين عملياتها لدعم المهمّة اللازم إنجازها. عادة ما يكون من الصعب تصوّر العمليات، ولكنّها في غاية الأهمّية، فهي كما أخبرنا إدغار شاين من جامعة ماسشوستس جزء أساسيّ من ثقافة الشركة غير المعلنة. فهم يخبرون الناس داخل الشركة: "هذا أكثر الأمور أهمّية لنا." فتركيز العمليات على مهمّة ما يكون بمثابة توجيه واضح لجميع العاملين في الفريق. إنّها طريقة فعالة رغم بساطتها للحرص على ألا تهمل الشركة الجوانب التي لولاها لما حققت النجاح.
من الأمثلة الجيدة على هذا جامعة ساذرن نيوهامشير، والتي صُنّفت في مجلّة يو أس نيوز (وغيرها من المطبوعات) كواحدة من أكثر الجامعات ابتكاراً في أمريكا. لقد كان معدل النموّ السنويّ المركّب في هذه الجامعة 34% على مدار ستّ سنوات، وقد اقتربت إيراداتها السنويّة في نهاية السنة المالية في 2016 من 535 مليون دولار أمريكي.
وعلى غرار العديد من المؤسسات الأكاديمية المشابهة، فإنّ جامعة ساذرن نيوهامشِير قد واجهت تحدّياً في إحدى الفترات يتمثّل في إيجاد الطريقة التي تميّزها عن سواها وتضمن استمرارها. لقد اعتمدت الإستراتيجية الأساسية للجامعة لفترة طويلة على استقطاب الفئة التقليدية من الطلاب في سن الثامنة عشرة والذين تخرجوا لتوّهم من الثانويّة ليبدؤوا مسيرة التعليم الجامعي. لذلك كان التسويق والتواصل مع المجتمع يتمّان على نحو عامّ، حيث الجميع مستهدف، وكذلك كانت السياسات ونماذج تقديم الخدمة التي اعتمدت عليها الجامعة.
كان في جامعة ساذرن نيوهامشير برنامج أكاديمي للتعليم "عن بعد" وصفه رئيس الجامعة بول لبلانك بأنّه "عملية مغمورة في بقعة منزوية في حرم الجامعة الرئيسي". ومع ذلك كان هذا البرنامج يجذب بشكل مستمر أعداداً من الطلبة الراغبين في استئناف تعليمهم الجامعيّ. ورغم انطلاق هذا البرنامج قبل عشر سنوات، إلا أنّه كان بمثابة مشروع هامشيّ، ولم تخصّص له الجامعة أية موارد تقريباً.
من الناحية الرسمية لم يكن ثمّة فرق بين طالب يلتحق بالبرنامج العاديّ، وآخر يلتحق ببرنامج التعليم عن بعد، فلو كان لدينا طالب في الخامسة والثلاثين من العمر وآخر في الثامنة عشرة، ويريدان الحصول على شهادة أكاديمية في المحاسبة، فإنّهما سيدرسان الموادّ نفسها، أليس كذلك؟ لكنّ رئيس الجامعة وفريقه رأوا أن المهمّة التي كان طلاب التعلّم عن بعد يستخدمون الجامعة لأدائها، تختلف اختلافاً كليّاً عن المهمّة التي كان يسعى وراءها الطلاب الشباب في البرنامج العاديّ. كان متوسّط أعمار الطلبة الملتحقين في برنامج التعلّم عن بعد ثلاثين عاماً، وكانوا يجمعون بين العمل والاعتناء بالعائلة بالإضافة إلى التعليم، وكثيراً ما تكون عليهم قروضٌ ترتّبت عليهم من تجربة جامعية سابقة. هؤلاء الطلبة لا يكترثون بالأنشطة الاجتماعية أو الحياة في حرم الجامعة. كل ما يسعون إليه هو برنامج دراسة جامعيّة تتوفّر فيه أربعة أمور: التيسير، وخدمة العميل، والمؤهّلات المعتمدة، وسرعة إتمام الدراسة. وقد أدرك فريق إدارة الجامعة الفرصة العظيمة التي يمثّلها ذلك.
ّ أداء المهام للعملاء على مستوى الشركات
ديس ترينر هو مؤسس مشارك في شركة إنتركم، التي تطور برمجيات تساعد الشركات على التواصل مع العملاء من خلال مواقعهم الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية والبريد الإلكتروني وفيسبوك ماسنجر. وقد تبنت شركة إنتركم والتي بلغ عدد عملائها حتى الآن 10,000عميل وحققت نمواً وصل إلى أربعة أضعاف عام 2015 نظرة تعتمد على المهام التي سيتم إنجازها في سياق توضيح إستراتيجيتها في العام 2011، حين كانت لا تزال في مرحلة مبكرة من إنشائها. وقد تحدث ترينر عن تلك التجربة مع ديرك فان بيفر ولورا داي من منتدى كلية هارفارد للأعمال للنمو والابتكار. وننقل لكم بشيء من التصرف الحوار الذي دار بينهم.
المنتدى: كيف تعرفت على منهجية " المهام" في الابتكار وبناء الإستراتيجيات؟
ترينر: تقريباً بالصدفة! ففي العام 2011 كان يعمل لدى إنتركم أربعة مهندسين فقط مع شيء من دعم رأس المال المخاطر. وقد طلب مني أن أتحدث عن إدارة الشركات الناشئة في مؤتمر ما، وقد افتتح كلاي كريستنستن المؤتمر وذكر شيئا عن "إتمام المهام".
وما السبب الذي جعلك تهتم بهذا الأمر؟
كنا في تلك الفترة تائهين نوعاً ما. كنا نعرف أننا نستهدف مساعدة شركات الإنترنت في التواصل مع عملائها على مستوى شخصي. كما كنا ندرك أن السمات التي نقدمها قيمة، ولكننا لم نعرف حقيقة من كان يستخدم خدماتنا، هل هم قسم دعم العملاء؟ أم التسويق؟ أم قسم أبحاث السوق؟ كما لم نكن نعرف تماماً هدف استخدامهم لخدماتنا.
وكيف كنت تتعامل مع هذه الأسئلة حتى ذلك الوقت؟
كنا نعتمد على منهجية تصنيفات العملاء القائمة أنماط شخصيات، ولكنها لم تكن تجدي نفعاً. لقد كان لدينا الكثير من "العملاء الاعتياديين" الذين لا وجود لرابط بينهم سوى بعض التقسيمات الديموغرافية والمسميات الوظيفية. ولأننا لم نفهم تماماً سبب استخدام الناس لمنصتنا، فإننا كنا نفرض تسعيرة موحدة للولوج إليها بأكملها. وحين فهمت الفرق بين "العميل" و"المشاكل التي يبحث العميل عن حل لها" لمع الأمر فوراً في ذهني، فاستدعيت المؤسس الشريك ماكابي وقلت له: "سننشئ شركة محورها أداء مهمة ما".
وكيف اكتشفت المهمة المناسبة التي تودون أداءها؟
تواصلنا مع الاستشاري في مجال الابتكار بوب مويستا، وهو صاحب خبرة عملية طويلة في هذا المجال. لقد قام بوب وفريقه بإجراء مقابلات مع نوعين من العملاء: أشخاص سجلوا في الموقع مؤخراً، وأشخاص ألغوا اشتراكهم أو غيروا استخدامهم للموقع بشكل كبير. كان هدف بوب تحديد التطور الزمني للأحداث التي أدت بالشخص إلى قرار الشراء من جانب، بالإضافة إلى تحديد "القوى" التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ ذلك القرار. فبوب لديه نظرية تقول إن العملاء دائماً يواجهون صراعا عند التفكير بشراء شيء جديد في لحظة يطلق عليها اسم "لحظة الصراع". هنالك ما يدفع الشخص للتصرف- للتخلص من مشكلة ما من خلال "استخدام" حل لها- كما أن ثمة قوى أخرى، كضعف القدرة على اتخاذ القرار، أو الخوف من التغيير، أو القلق، تجعل الشخص في حالة من التردد. كان يسعى بوب بشكل عام إلى تفسير ما جعل الأشخاص ينهون هذا الصراع الداخلي ويقدمون على "استخدام" إنتركم، ثم معرفة جودة أداء الشركة في نظر المستخدمين بالاعتماد على ما يقولونه هم.
وقد استمعت لأربع مقابلات بشكل مباشر، وحاولت ألا أتسرع في إطلاق الأحكام. أثار أمران انتباهي بشكل خاص. الأول هو أن العملاء المحتملين الذين جربوا بعض خدماتنا كانوا عموماً في وضع متقلقل، فيكون النمو راكداً في مؤسساتهم ويكونون على استعداد لتجربة أمر جديد. أما الأمر الثاني هو أن الكلمات التي استخدمها العملاء لوصف منتجنا كانت مختلفة عن الكلمات التي اعتدنا نحن على استخدماها في وصفه. فالأشخاص الذين يستخدمون موقعنا من أجل تسجيل عملاء جدد كثيراً ما استخدموا كلمة "إشراك العملاء"، بينما نحن كنا نستخدم عبارة "توجيه الرسائل إلى العملاء الخارجيين"، وهي عبارة ذات صدى مختلف تماماً ويرى بوب أن هذا أمر شائع، فالشركات كثيراً ما تكون معجبة بمصطلحاتها الفنية الخاصة، فيكون التركيز على التقنية التي تقدمها، بدل التركيز على القيمة التي يحصل عليها العميل.
ما الذي تعلمته بخصوص المهام التي يتوقع العميل منك أداءها؟
اتضح لي أن الناس يرغبون في إنجاز أربع مهام مختلفة: الأولى هي تمكين العميل من الملاحظة، فهو يريد أن يعرف مستخدمي منتجه وكيفية استخدامهم له. الثانية هي تمكينه من التفاعل والمشاركة، أي تحويل أولئك الذين يسجلون في الموقع إلى مستخدمين فاعلين. والثالثة هي تمكينه من التعلم- أي الحصول على تغذية راجعة غنية من الأشخاص المناسبين. والرابعة والأخيرة هي تمكينه من تقديم الدعم- من خلال امتلاك القدرة على حل مشاكل العملاء.
ما مقدار التغيير الذي أدخلته في هذا المجال بعد أن تعرفت على المهام المختلفة التي يبحث عنها العملاء؟
لقد غيرنا الكثير. نحن نقدم الآن أربع خدمات مختلفة، كل منها مصمم لدعم واحدة من هذه المهام. فمجموعة البحث والتطوير لدينا، وهم 120 شخصاً، فيها أربعة فرق، كل فريق يتولى مهمة محددة، مما مكننا من تحصيل خبرة معمقة في كل مجال. لقد أدركنا في واقع الأمر أننا كنا نقدم خدمة ذات لون واحد لا يناسب أحدا، وقد كان العميل، يشعر بأن السعر المبدئي الذي نطلبه مرتفع، لأنه ما من عميل كان يحتاج إلى كافة الخدمات التي كنا نبيعها دفعة واحدة.
وما هي نتائج هذا التغيير؟
لقد ازداد معدل التحويل لدينا أي تحول زوار الموقع إلى (زبائن)، لأنه صار بوسع الزبون المحتمل الآن شراء الجزء الذي يناسب المهمة التي يريد تحقيقها، كما أن لدينا القدرة على امتلاك العديد من نقاط البيع في الشركات التي نتعامل معها، ولاسيما مع توفر أفق معقول لنمو العلاقة المهنية.
لقد صار برنامج التعليم عن بعد في جامعة "ساذرن نيوهامشير"، ينافس البرامج المماثلة الأخرى في الجامعات المحليّة والجامعات الوطنيّة الأخرى، ولاسيما تلك البرامج التي تقدّمها الجامعات التقليدية والجامعات الربحيّة كجامعة فينيكس ومعهد آي تي تي للعلوم التقنية. ولعلّ الأهمّ من ذلك هو أن جامعة ساذرن نيوهامشير كانت تنافس في فراغ، إنّها حالة من انعدام الاستهلاك. وفجأة صار هذا السوق الذي بدا محدوداً ولا يستحقّ المنافسة سوقاً يعجّ بالإمكانات الهائلة غير المستغلة.
إلا أن جامعة "ساذرن نيوهامشير" لم تمتلك سوى القليل من السياسات والهيكليات والعمليات المخصصة لدعم المهمّة الفعليّة التي كان يرغب طلاب التعلّم عن بعد أن تنجزها الجامعة لهم. فما الذي كان يلزم تغييره؟ يذكر لبلانك قائلاً: "كل شيء تقريباً". فقد شرع الرئيس وفريقه بإيلاء طالب التعلّم عن بعد كامل عنايتهم بعد أن كان يعامل، وكأنّه طالب من الدرجة الثانية. وخلال جلسة شارك فيها عشرون من أعضاء هيئات التدريس والإداريين رُسمت عملية قبول الطلبة بأكملها على لوحٍ في قاعة الاجتماعات. يقول لبلانك: "بدا المخطّط أشبه بمخطّط غوّاصة نوويّة!". وبعدها حدّد الفريق كافّة العقبات التي كانت تضعها الجامعة-أو لا تساعد في حلّها- في تلك العمليّة. ثم قاموا بإزالة تلك العقبات وأقروا مكانها عمليّات من شأنّها أن تحقق المهمّة التي يريد طلاب التعلّم عن بعد إنجازها. وقد ترتّب على هذا التحوّل في وجهة النظر عشرات القرارات المهمّة.
فيما يلي بعض الأسئلة الأساسيّة التي تعامل الفريق معها والتي عدّلت مسار العمليّات في الجامعة:
ما العمليات التي تساعد العملاء على تحقيق التقدّم الذي يسعون إليه؟ يهتمّ الطلبة الأكبر سنّاً بشكل خاصّ بالمعلومات المتعلقة بالدعم الماليّ، فهم يريدون أن يحدّدوا بداية إن كان إتمام الدراسة ممكناً من الناحية الماديّة، بالإضافة إلى ضرورة معرفة أوقات الدراسة. عادة ما تبحث هذه الفئة من الطلاب عن خيارات للدراسة المسائية، بعد يوم طويل من العمل، وحين يكون أطفالهم قد خلدوا أخيراً للنوم. وعليه فإنّ حصول هذا الطالب على إجابة عامّة على استفساراته بعد 24 ساعة من إرسالها، سيعني أن الجامعة تخسر فرص تسجيل الطلبة في البرنامج. ولكن حين استوعبت إدارة الجامعة السياق بشكل أفضل فإنّها وضعت هدفاً إجرائياً داخلياً، يقضي بإجراء مكالمة مع العميل خلال ثماني دقائق ونصف من استفساره عن قضيّة ما. إنّ الاستجابة السريعة بشكل شخصيّ تجعل الشخص أكثر رغبة في اختيار الجامعة والالتحاق ببرامجها.
ما العوائق التي يجب التخلّص منها؟ صار يمكن حلّ القضايا المتعلقة بحزمة الدعم المالي وكيفية احتساب الموادّ الدراسيّة السابقة في شهادة الجامعة خلال أيام وليس أسابيع أو أشهر.
ما الجوانب الاجتماعية والعاطفية والوظيفيّة للمهمّة؟ لقد تم تعديل الإعلانات الخاصّة ببرنامج التعلّم عن بعد لتستهدف فئة الأشخاص الذين يبدؤون التعلّم متأخراً. وقد حاولت أن تعكس هذه الإعلانات تلك الأبعاد الوظيفية في المهمّة، كالحصول على التدريب اللازم للتطوّر المهنيّ، كما حرصت على الأبعاد العاطفية والاجتماعيّة، كالفخر الذي يشعر به الشخص عند حصوله على شهادة جامعية جديدة. فقد ظهرت في أحد الإعلانات حافلةٌ لجامعة ساذرن نيوهامشير تتجوّل في البلاد، لتوزّع شهادات كبيرة للطلبة الذي درسوا في برامج التعليم عن بعد، ولم يتمكّنوا من حضور حفل التخرّج. يقول هذا الإعلان سائلاً هؤلاء الطلبة الخريجين وهم في بيوتهم: "لمن تهدي هذه الشهادة؟" فتجيب المرأة وهي تحتضن شهادتها: "أهديها لنفسي"، ثم يجيب رجل ثلاثينيّ "أهدي هذه الشهادة لأمّي"، وآخر يقول: "لقد فعلتها من أجلك"، وهو يحاول ألا يذرف دموعه أمام ابنه الذي يقول له: "تهانينا يا أبي!".
ولعلّ الجانب الأكثر أهمّية، والذي أدركته الجامعة، هو أن انخراط الطالب المستجدّ في المحاضرة الأولى، ليس إلا بداية إنجاز المهمّة المطلوبة. فقد قررت الجامعة تخصيص مرشد شخصيّ لكل طالب من طلبة التعليم عن بعد، تكون مهمّته التواصل بشكل مستمر مع الطالب، ويستشرف المشاكل حتّى قبل وقوعها. إنّ طالب التعليم المستمر يقدّر هذا النوع من الدعم أكثر من الطالب التقليدي، ذلك لأنّه يواجه العديد من العوائق والظروف الصعبة في حياته اليوميّة. فإن كنت مثلاً لم تقم بالوظيفة المنزلية هذا الأسبوع المقرر يوم الأربعاء أو الخميس، فإنّ المشرف الشخصي سيذكّرك به، وإن كان أداؤك غير مُرض في الامتحان، فأنت على موعد مع مكالمة من هذا المشرف ليسألك عن المشاكل في تلك المادّة، ويطمئنّ كذلك على سير الأمور الأخرى في حياتك. وحتّى لو كنت تواجه مشاكل تقنية في جهاز اللابتوب الخاصّ بك، فإنّ مشرفك الشخصي قد يساعدك ويرسل إليك جهازاً جديداً. هذا المستوى غير المألوف عادة من الدعم هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل برامج التعليم عن بعد في جامعة ساذرن نيوهامشير تحرز أعلى المستويات من رضا العملاء (9.6 من أصل 10 نقاط)، بالإضافة إلى نسبة تخرّج تصل إلى 50 بالمئة- متفوقة فعلياً على جميع كليات المجتمع (ومتفوقة بشكل كبير على جامعات منافسة أخرى ربحيّة وأعلى تكلفة حتّى أنّها تلقّت الكثير من النقد بسبب انخفاض نسب التخرج في برامجها).
تلتزم جامعة "ساذرن نيوهامشير" بالانفتاح عند التواصل مع المنافسين المحتملين، وترحّب بالزيارات التي يقوم بها مسؤولون تنفيذيون من مؤسسات تعليمية أخرى وتنظّم لهم جولات في أرجاء الجامعة. ولكن لن يكون من السهل استنساخ التجارب والعمليّات التي هيأتها الجامعة لطلبتها في برامج التعلّم عن بعد. صحيحٌ أن الجامعة لم تكن هي التي وضعت كلّ هذه الأساليب بنفسها، ولكن ما فعلته حين قرّرت التركيز على هذا الجانب هو ضمان أن تكون مئات العمليات مصمّمة بشكل يخدم المهمّة التي استخدم الطالب الجامعة لأدائها.
لقد قامت العديد من المؤسسات بلا قصد بوضع عمليات ابتكارٍ لم ينتج عنها سوى نتائج متنافرة ومخيبة للآمال. فهم ينفقون الوقت والمال في وضع نماذج غنية بالبيانات، وتزيد قدرتهم على التوصيف، ولكنّها لا تجدي نفعاً عند وضع التوقّعات. ولكنّ الشركات ليست مضطرة للاستمرار في هذا الطريق. فمن الممكن زيادة القدرة على تخمين الابتكارات-وجعلها أكثر ربحيّة أيضاً- إن بدأت بتحديد المهامّ التي يطلب العملاء من الشركة إنجازها لهم. إن امتلاك هذه النظرة هي التي ستميّزك عن منافسيك الذين يعتمدون على الحظ فيما يتعلق بالابتكار