في مقطع مضحك ضمن فيلم "اللي بالي بالك" المصري، تسأل المذيعة البطل الفنان محمد سعد الذي يلعب دور اللمبي: "ما فكرتش تشتغل؟؟!" فيرد عليها: "مش فاضي!" وهذا ببساطة يمثل علاقتنا مع ترتيب الأولويات. فنحن مشغولون جداً إلى درجة نسينا معها بماذا نحن مشغولون أو لماذا يجب أن نكون مشغولين أساساً!
مع تراكم المهام والالتزامات والاهتمامات التي تنهمر علينا من كل حدب وصوب، باتت مهارة ترتيب الأولويات (Prioritization) من أهم المهارات الذهنية التي يجب أن نستخدمها يومياً، سواء عندما يتعلق الأمر بقراراتنا الاستراتيجية بعيدة الأمد (اختيار المشاريع التي سنعمل عليها، اختيار الشهادات التي نحتاج الحصول عليها، اختيار الأفراد الذين سنمضي وقتنا معهم، اختيار الهوايات التي سنستمتع بها)، أو باختياراتنا اليومية (المهام اليومية أو لائحة التسوق). الأمر المثير للاهتمام هو أن كلمة أولوية (Priority) باللغة الإنجليزية كانت كلمة مفردة لا تقبل الجمع -للإشارة إلى أن هناك أولوية واحدة يجب التركيز عليها- ولكن مع تصاعد هدير الحياة أصبحت الكلمة تستخدم بصيغة الجمع "أولويات" وأصبح لكل منا عشرات الأولويات على جدوله وجدولها!
وعلى الرغم من أن مفهوم ترتيب الأولويات هو مفهوم بديهي لمعظمنا، إلا أنه -وفي خضم الضغوط اليومية- لا يتحول إلى ممارسة بديهية بالضرورة. فخلال مشاركتي في العديد من المشاريع المختلفة، وجدت أن تطبيق هذا المفهوم بشكل منظم هو أمر شبه غائب في عملنا، ربما لغياب الإدراك الواعي بأهمية ترتيب الأولويات في المشاريع أو لغياب المعرفة أصلاً بأساليب ترتيب الأولويات بشكل يتفق مع طبيعة وأهداف المشروع وهذا ما يتناوله هذا المقال. بل حتى عندما نقوم بترتيب الأولويات، فإننا نقوم بذلك كيفما اتفق دون تحليل دقيق للوضع الحالي، وبذلك نعتمد على إحساسنا البديهي بدلاً من أن يكون قرارنا منطقياً ومدروساً.
تتحدث كتب الإدارة كمنهجيات إدارة المشاريع وكتب تحليل النظم والأعمال عن الأهمية القصوى لترتيب الأولويات، وتقدم الكثير من التوصيات في هذا المجال، وسأعتمد في هذا المقال على توصيات الدليل المعرفي لتحليل الأعمال (Business Analysis Body of Knowledge)، أو اختصاراً (BABOK)، في موضوع ترتيب الأولويات، لأني وجدتها مفيدة جداً لجميع العاملين في مجال إدارة المشاريع والتحليل، بل ويمكن أن يستفيد منها أي شخص يتطلب عمله الإدارة الماهرة لوقته وإنتاجيته.
لا شك في أن نطاق ترتيب الأولويات يختلف من دور لآخر في المؤسسة، فالمدراء التنفيذيون عليهم أن يرتبوا أولويات المشاريع ذاتها (مثلاً المشروع أ أهم من المشروع ب)، أما مدراء المشاريع فعليهم أن يقوموا بترتيب أولويات أجزاء المشروع الواحد (مثلاً ترتيب أولويات مهام المشروع أو مخرجات المشروع أو مخاطر المشروع)، أما المحللون فعليهم أن يرتبوا أولويات المتطلبات ضمن المشروع الواحد (فمثلاً إجراء العمل أ أهم من الإجراء ب).
عندما يبدأ الشخص المسؤول بترتيب الأولويات فإنه يجب أن يعتمد استراتيجية الترتيب التي تنسجم مع الهدف الحالي للمشروع، بمعنى أنه لا يوجد معيار وحيد في تحديد أولوية العمل الحالي، بل توجد مجموعة من المعايير التي يمكن أن يتبناها محللو الأعمال أو مدراء المشروع حسب الهدف الذي يريدون تحقيقه في هذه المرحلة من المشروع.
إن أهم الاستراتيجيات المتبعة في ترتيب الأولويات هي:
1. استراتيجية "القيمة الكبرى أولاً":
تقوم هذه الاستراتيجية على إعطاء الأولوية للمتطلبات ذات القيمة (business value) الأكبر. فمثلاً لدينا إجراء عمل يسمى "خدمة الدفع الإلكتروني" ولدينا إجراء عمل آخر يسمى "خدمة طلب حاسب جديد". بشيء من التحليل للخدمتين يتبين أن الإجراء الأول أكبر قيمة من الإجراء الثاني بسبب أن عدد المستخدمين الذين يحتاجون هذه الخدمة أكبر بكثير من عدد المستخدمين الذين يستخدمون الخدمة الثانية، ولهذا فإن الخدمة الأولى ستعطى أولوية أكبر من الخدمة الثانية.
2. استراتيجية "المخاطر الأعلى أولاً":
نقوم هنا بتنفيذ المتطلبات ذات المخاطر الأعلى أولاً (Highest Risks)، سواء كانت طبيعة هذه المخاطر تقنية (مثلاً استخدام تكنولوجيا جديدة غير معروفة) أو من ناحية تجارية (مثلاً تقبّل المستخدمين لأسلوب جديد في العمل). تقوم فكرة هذا الأسلوب على أننا لا نعلم إن كان هذا المشروع سينجح أو سيفشل بسبب المخاطر التي تكتنفه، لذلك سنقوم بتنفيذ المتطلبات ذات المخاطر الأعلى أولاً، وبالتالي نكون قد ضمنّا -في حال الفشل- أقل نسبة خسائر ممكنة بدلاً من أن نؤجلها إلى نهاية المشروع، ثم نتفاجأ بهذه المتطلبات الخطرة.
3. استراتيجية "المتطلبات الأسهل تنفيذاً أولاً":
في هذا الأسلوب يقوم الفريق بترتيب الأولويات حسب صعوبة تنفيذها التقنية من الأسهل إلى الأصعب (Implementation Difficulty)، حيث يبدأ بتنفيذ المتطلبات الأكثر سهولة. والهدف هو ألا يشعر الفريق بالإحباط لو أنه شرع بالمتطلبات الأصعب، وبالتالي يستطيع التعود تدريجياً على المشروع، وذلك بالتدرج في صعوبة المتطلبات. هذا هو الأسلوب المتبع في المشاريع التجريبية (Pilot Project) التي تهدف مثلاً إلى استكشاف تقنية جديدة قبل البدء بالمشروع الفعلي.
4. استراتيجية "النجاحات السريعة أولاً":
نهدف هنا إلى الحصول على دعم لمشروع ما مثير للجدل، لذلك فنحن بحاجة إلى تحقيق نجاحات سريعة (Quick Wins) لكي نضمن ذلك الدعم. نقوم بترتيب الأولويات هنا حسب المتطلبات التي لها أعلى نسبة نجاح (Likelihood of Success).
5. استراتيجية "المتطلبات القانونية أولاً":
في بعض الأحيان تكون بعض المتطلبات متعلقة بتحقيق الامتثال لقانون تنظيمي معين تفرضه جهة رقابية ما (Regulatory Compliance)، كالمتطلبات التي تنظم عمل البنوك أو عمل القطاع الصحي أو عمل قطاع الاتصالات، ويكون لهذا المتطلب القانوني أولوية على أي متطلب آخر.
6. استراتيجية "المتطلبات الداعمة أولاً":
هناك بعض المتطلبات التي لا يكون لها قيمة مهمة بحد ذاتها. إلا أن هذه المتطلبات تكون داعمة (Supporting) وأساسية لعمل متطلبات أخرى ذات قيمة كبيرة، لذلك يجب أن نبدأ بهذه المتطلبات الداعمة أولاً.
7. استراتيجية "المتطلبات العاجلة أولاً":
يتم ترتيب المتطلبات حسب مستوى الإلحاح (Urgency) لهذا المتطلب أو ذاك كما يراه الأشخاص المؤثرون في المشروع. هذا الأسلوب يمكن أن يتحول بسهولة إلى فوضى وفق ما يعرف بظاهرة "إطفاء الحرائق".
وفي الواقع العملي ندرك بأن هذه الأساليب لا تنفي بعضها بعضاً، ويجب في معظم المشاريع تبني استراتيجية مركبة تكون مزيجاً من عدة استراتيجيات. فمن الشائع مثلاً بناء استراتيجية ترتب المشاريع حسب "القيمة الكبرى أولاً" (الاستراتيجية الأولى) و"المتطلبات الأسهل تنفيذاً أولاً" (الاستراتيجية الثالثة)، حيث يتم ترتيب المتطلبات حسب هذين المعيارين في جلسة ترتيب الأولويات.
وبغض النظر عن الاستراتيجية التي تريد أو تريدين اتباعها، يجب دائما تكريس جزء من الوقت في بداية المشروع أو العمل لاختيار استراتيجية ترتيب الأولويات بشكل واع بدلاً من أن يتحول الأمر إلى إطفاء حرائق لا تنتهي!