في ذلك المكان، على بعد 18 ساعة من الطيران، لم أتوقع أن ألتقي أحداً يحمل اسماً عربياً. هناك التقيت عُمَر، شاب طويل طلْق الوجه تعلوه ابتسامة مميزة. التقيته في الفرع الرئيسي لشركة أمازون بمدينة سان فرانسيسكو.
لا زلت أتذكّر طريقته في الكلام وأسلوبه المُلهِم، بل وإيمانه الكبير بمهمة شركته: "نريد أن نكون أكثر الشركات تمحوراً حول العميل على وجه الكوكب". مهمةُ الشركة مهمةٌ جداً لإلهام الموظفين ودفع عجلة الابتكار كما يقول نائب الرئيس السابق للموارد البشرية في جوجل، لازلو بوك، عندما عرّج في كتابه "قواعد العمل" (Work Rules) على مهمة جوجل: "تنظيم بيانات الكون وتسهيل الوصول إليها وجعلها أكثر فائدة". تحدّث عُمر عن أمازون، وكيف تعمل وتبتكر وما هو وقودها الذي يجعلها تواصل وتستمر.
اليوم، أمازون واحدة من أكثر الشركات ابتكاراً على وجه الكوكب، والذي يجعلني أكثر إعجاباً بها هو أنها تبتكر على الرغم من حجمها الكبير ووزنها الثقيل، إذ تضم قرابة المليون ونصف المليون موظف، وهي ثاني أكبر شركة في العالم من حيث عدد الموظفين بعد وول مارت.
الخبراء في مجال الابتكار يتحدثون عن أن القدرة على الابتكار تتناسب عكسياً مع حجم الشركة في أغلب الأحيان. تخيّل كيف تكون قدرتك على الجري والقفز وتغيير الاتجاه المفاجئ إذا كان وزنك 60 كيلوغراماً! ما رأيك لو أن شخصاً وزنه 300 كيلوغرام يستطيع أن يجري ويقفز ويغيّر الاتجاه بنفس السرعة وبنفس الطريقة، أيُعقل هذا؟
صحيح أن أمازون باتت أول شركة في التاريخ تخسر تريليون دولار من قيمتها السوقية مؤخراً، لكن الشركات الابتكارية تعرف عادة كيف تتعامل مع التحديات والأمور المهمّة. تعرف كيف تعود من بعيد، تعرف كيف تصنع "الريمونتادا" (مصطلح رياضي يُستخدمُ في كرة القدم وتعني "العودة" أو "الرجوع") ما دمنا لا نزال في أجواء كأس العالم.
في كتاب ووركينغ باكووردز (Working Backwards) أي العمل للخلف، للمديرَين التنفيذيين في أمازون، كولِن براير وبِل كار، تحدثا عما يميّز شركة أمازون. ولعل أهم ما يجعل منها شركة ابتكارية برأيي، هو إيمان القيادة العليا الثابت بأهمية الابتكار، ووجود الأفعال التي تصدّق هذا الإيمان من دعم متواصل واستثمار كبير، إذ استثمرت أمازون حوالي 56 مليار دولار في البحث والابتكار في 2021.
دعوني أشارككم هذا النص من خطاب للرئيس التنفيذي للشركة في ذلك الوقت، جيف بيزوس: "ثقافتنا تقوم على أربعة أشياء: الهَوَس بالعميل بدلاً من الهوس بالمنافس، القدرة على التفكير بأهداف طموحة طويلة الأمد والاستثمار فيها أكثر من أيّ من منافسينا، الرغبة الشديدة في الابتكار والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفشل، وأخيراً الاحترافية والتميّز في التشغيل".
أصحاب الأفكار الإبداعية في أمازون يُطلب منهم ثلاثة أمور حتى يعرضوا فكرتهم:
أولاً: أن يتخيّلوا كيف ستؤثر الفكرة على تجربة المستخدم، ومِن ثَم أن يكتبوا خبراً صحفياً يريدون أن يروه في الصحيفة عند إطلاق المنتج أو الخدمة، يجب أن يكون الخبر مُلهماً ومُبهراً. كتب أحدهم يوماً خبراً صحفياً عن إيصال طلبات أمازون خلال 30 دقيقة، كان حلماً وتحوّل في أمازون إلى حقيقة.
ثانياً: أن يكتبوا ست صفحات من الأسئلة الشائعة التي يتوقعونها من مستخدمي المنتج أو الخدمة عند إطلاقها والإجابات عليها. هذا يجعلهم يضعون أنفسهم مكان المستخدم ويفكّرون كما يفكّر، وهذا مهم للغاية.
ثالثاً: تطلب منهم أمازون نموذجاً أولياً (Prototype) يوضح طريقة عمل الفكرة.
حاولَت أمازون استنساخ وادي السيليكون داخل الشركة، ومن المعلوم أن استنساخ وادي السيليكون هو مهمة فشلت فيها عشرات بل لربما مئات الدول فضلاً عن الشركات، لكن أمازون نجحت في ذلك إلى حد كبير.
يقول بيزوس إن التسلسل الهرمي في الشركات عادة ما يقتل الابتكار، فإذا كانت لديك فكرة مميزة فإنك ستحتاج إلى إقناع سلسلة من المسؤولين لتنفيذها وفي الغالب لن تُنفّذ الفكرة، بينما في وادي السيليكون يمكنك بجهد بسيط أن تحصل على معلومات 20 شركة للاستثمار الجريء وعشرات المستثمرين الملائكيين، فتذهب إليهم واحداً واحداً، قد يُجيبك 19 منهم بـ "لا" وواحد بـ "نعم" وهذا يكفي في كثير من الأحيان.
ما صنعته أمازون هو أنها جعلت هناك أكثر من مسار وأكثر من طريق لتنفيذ الأفكار بدلاً من جعل الأمر بيد عدد من المدراء والمسؤولين. يمكنك أن تذهب لقسم معيّن ليتبنّى الفكرة أو يمكنك الحصول على تمويل معين لتنفيذها أو الدخول في مسرعة أو حاضنة داخل الشركة وغيرها، وأياً كانت الطريق التي ستسلكها لتنفيذ الفكرة فإن الشركة ستحميك وتدعمك في حال النجاح أو الفشل، بل إنهم يرحبون بالفشل ويحتفون به لأنهم يأخذون منه الدروس والعبر التي تجعلهم أقرب للنجاح في المرات القادمة.
من وجهة نظري، أهم ما يميّز أمازون هو ثقافة المغامرة والتجريب وقبول الفشل بصدر رحب. إحدى محاولات الابتكار الفاشلة كانت جهاز الجوال فاير (Fire). كانت أمازون تعتقد أنها فعلت كل شيء لكي ينجح الجهاز، لكنه فشل فشلاً ذريعاً. خلال ثمانية أشهر من الإطلاق أدركت أمازون أن الجهاز لن ينجح، تم قتل الفكرة وتكبدت الشركة 170 مليون دولار من الخسائر (سمعتها من أحد نواب الرئيس في أمازون عندما كان يتحدث في جايتكس قبل أشهر)، لكنها تعلّمت الكثير من الدروس واستفادت منها في جعل جهاز كيندل جهازاً أفضل.
عندما أطلقت أمازون خدمة برايم (Prime) كانت مجرّد تجربة يُعتقد أنها ستفشل. كان ثمة غموض كبير وعلامات استفهام حول جدواها. النتيجة اليوم، 200 مليون مشترك من 23 دولة، 31 مليار دولار قيمة اشتراكات برايم في 2021، ومبيعات بقيمة 11 مليار دولار في يوم واحد يُسمى يوم برايم (Prime Day). فكرة ابتكارية صغيرة أُعطيت فرصة للتجريب صارت واحداً من أهم مصادر الدخل في أمازون.
الابتكار في أمازون كان بسبب إيمان القيادة الثابت والتركيز على نشر الثقافة والمبادئ التي تدعم الابتكار، ووضع إجراءات وعمليات وسياسات تضمن رحلة حياة ميسّرة للأفكار الجديدة حتى لا "تُطحن" أو بأحسن الأحوال "تضيع" وسط زحمة العمليات اليومية والسعي لتحقيق المستهدفات الربعية التقليدية.