قام بول غرين المرشح لنيل شهادة الدكتوراه من كلية هارفارد للأعمال، مع اثنين من زملائه، بدراسة بيانات ميدانية من شركة اعتمدت عملية شفافة لمراجعة الموظفين الأقران فيها كما منحت موظفيها الـ 300 قدراً من التحكم بتحديد وظائفهم، وبالتالي بتحديد الزملاء الذين يختارون العمل معهم. وقد أظهر تحليل الباحثين أن الملاحظات النقدية من الزملاء تدفع الموظفين لتعديل أدوارهم ومسؤولياتهم على نحو يقربهم من الزملاء الذين يمنحونهم تقييماً وملاحظات إيجابية. وقد كانت النتيجة أن:
غرين: عندما كان الناس في هذه الشركة يتلقون ما نسميها "ملاحظات غير مؤيدة"، كانوا يحاولون الابتعاد عن زملائهم الذين أبدوا تلك الملاحظات ويبحثون عن علاقات جديدة ومختلفة. وكلما كانت تلك الملاحظات أكثر سلبية، ابتعد الأشخاص المعنيون أكثر عن مصدر تلك الملاحظات بحثاً عن شبكة علاقات جديدة.
وقد حصلنا –زميلاي فرانشيسكا جينو وبرادلي ستات وأنا- على النتيجة نفسها في دراسة علمية قمنا بها بإعطاء الخاضعين لها ملاحظات نابعة ظاهرياً من شريك لهم حول قصة قصيرة كانوا قد كتبوها. وقد وجدنا أن الأشخاص الذين تلقوا ملاحظات سلبية، كانوا أكثر ميلاً إلى انتقاء شريك جديد في المهمة المقبلة من زملائهم الذين تلقوا تقييماً إيجابياً.
هارفارد بزنس ريفيو: وهل بوسعك رصد هذا السلوك في الشركة التي تعتمد عملية مراجعة الأقران أيضاً؟
نعم، فإذا كانت العلاقة اختيارية –أي إذا لم يتعين على الأشخاص العمل معاً- كان الشخص الذي تلقى الملاحظة السلبية يختفي ببساطة من شبكة العلاقات الاجتماعية تلك. أما إذا كان على كلّ من وجّه الملاحظة وتلقّاها التعامل سوياً، فإن المتلقي عادةً ما كان يبحث ضمن الشركة عن أشخاص آخرين يمنحونه ملاحظات إيجابية توازن تلك الملاحظة السلبية وتلغي مفعولها؛ إذ كان ينسج علاقات أخرى مع أشخاص من أقسام ومكاتب أخرى داخل الشركة. إننا نسمي ذلك " البحث عن التأييد".
قد يكون البحث عن التأييد ممتعاً. يبدو الأمر في هذه الحالة وكأنه ضروري من الناحية السيكولوجية. فعلى الرغم من فاعلية التقييم السلبي في مساعدة متلقّيه، إلا أنه يشعره بالتهديد.
ولعل البحث عن التأييد يعود إلى أن نظرتنا الإيجابية إلى أنفسنا تتطلب علاقات اجتماعية تساعدنا على تعزيز تلك النظرة والحفاظ عليها. فإذا لم نمتلك تلك العلاقات، فإننا سنبحث عنها حتماً.
هل تقصد أن الملاحظات السلبية لا تفيد؟
إنها لا توفر الوقود اللازم للحفاظ على رؤيتنا الإيجابية لذاتنا. وتلك هي المفارقة الكبرى. فالفكرة الأساسية من تقييم الأداء وتقديم الملاحظات عليه، تتمثل بشكل عام في أننا إذا ما أردنا التطور والنمو، علينا تسليط الضوء على الجوانب التي لا نستطيع رؤيتها بأنفسنا. نحن بحاجة لمعرفة الحقيقة مهما كانت مؤلمة. وهنالك افتراض بأن ما يدفع الناس إلى تطوير أنفسهم هو إدراكهم بأن أداءهم ليس بتلك الجودة التي يظنونها. غير أن الحقيقة هي أن انتقاد الناس وتوجيه الملاحظات السلبية إليهم، إنما يدفعهم ببساطة إلى البحث عن أناس آخرين لا يسلطون الضوء على جوانب أدائهم السلبية. وهكذا فإن الانتقاد السلبي قد لا يؤدي إلى النتيجة المبتغاة على الإطلاق.
غير أن الملاحظات الإيجابية باستمرار تبدو منطقياً عديمة الجدوى. ذلك لأننا ننطلق من أن الملاحظات تحفزنا للأداء بطريقة معينة. غير أن جل ما نقوله هو: صحيح أن الملاحظات قد تحفزنا لتطوير أدائنا، لكنها تدفعنا أيضاً إلى القيام بأمر آخر، وهو البحث عن أصدقاء لا ينتقدون أداءنا. فالناس يأتون عموماً إلى العمل وهم يمتلكون دوافع كثيرة. أنا لا أقول إنهم لا يرغبون في تحسين أدائهم إذا ما اكتشفوا بأنهم ضعفاء في أمر ما. لكنهم يرغبون أيضاً في التأكد من أن لهم قيمة بنظر الآخرين وبأن إسهاماتهم في العمل إيجابية ومفيدة. إننا نرى أن الموظفين يمتلكون حافزين أساسيين اثنين: البحث عن الشعور بقيمتهم في نظر الآخرين، والبحث عن تطوير أدائهم. ولعل آليتنا المتبعة في تقييم الأداء وتوجيه الملاحظات لا تنجح بوضعها الراهن في التوفيق بين هذين الحافزين.
وهل يتعين علينا إذاً تغليف الانتقادات السلبية بملاحظات إيجابية؟
لا، فتلك ليست باستراتيجية جيدة. فالموضوع ليس عبارة عن تقسيم الملاحظات إلى بنود سلبية وأخرى إيجابية كالقول: "لقد نجحت في هذا وأخفقت في ذاك"؛ بل إن ما يهم هو إرفاق الانتقادات السلبية بملاحظات تعترف بقيمة الأشخاص وفائدتهم بالنسبة إلى الشركة. وليس المطلوب الإفصاح عن تلك الملاحظات في كل الأوقات، بل ما يهم هو أن يشعر الناس أن قيمتهم محفوظة ومعترف بها في مكان عملهم.
إذاً، ما نحتاجه هو تعابير مؤيدة ومعززة تبرز الفضائل والقيم الذاتية للموظفين عموماً؟ نعم. ففي دراسة علمية، أعطينا الأشخاص الخاضعين للتجربة انتقادات مشابهة لتلك التي ذكرناها في تمرين آخر عن الكتابة الإبداعية، حيث منحناهم هذه المرة فرصة توكيد ذواتهم، إذ طلبنا منهم الكتابة لمدة 10 دقائق عن القيم الأهم بالنسبة إليهم. وكانت النتيجة هذه المرة زوال مفعول "البحث عن التأييد" بشكل شبه كلي.
يتعين علينا أن نكون قادرين على ابتكار عملية تقييم للأداء تعمل وفق آلية مشابهة لما ذكرنا. فالملاحظات من شأنها أن تحفز أحداً ما لتحسين أدائه، فقط عندما تتوفر فرصة توكيد الذات عموماً على نحو صادق وحقيقي. وهذا منطقي أيضاً عندما نفكر في الأمر في سياق العلاقات الشخصية. فأنا كثيراً ما أتلقى انتقادات غير مؤيدة من زوجتي.
وما تأثير ذلك عليك؟ لم يدفعني ذلك مطلقاً إلى ابتياع التأييد أو إلى القول: "عليّ أن أنهي هذه العلاقة". ذلك لأن الانتقادات التي توجهها إلي، إنما تأتي في إطار إيجابي نسبياً وداعم للعلاقة.
وهل تلقى نظريتك هذه قبولاً من المدراء؟ أظن أنهم مجبرون على قبولها. فآليات مراجعة الأقران منتشرة في أكثر من 50% من الشركات والمؤسسات، وهي أوسع انتشاراً في الشركات الكبرى. وأظن أن الافتراضات التي ينطلق منها مؤيدو نهج الملاحظات والانتقادات ساذجة جداً. فعندما نقول لأحد ما إنه لا يجيد القيام بوظيفته وأنه يحتاج لتطوير أدائه، هنالك الكثير مما يجري في داخله أكثر بكثير مما نعتقد. فالناس كائنات معقدة. ولعل المنطق القائل إن الانتقادات والملاحظات السلبية وحدها قادرة على ردم الهوة بين رؤيتي لنفسي ورؤية الآخرين لي، ليس منطقاً سليماً تماماً. فالأمر ليس بهذه البساطة.
هل يمثل "البحث عن التأييد" دافعاً أساسياً داخلياً في الإنسان؟ وهل يمكننا إبطاله؟
أشك في ذلك. فكما قلت سابقاً، يتمظهر الانتقاد السلبي بوصفه تهديداً. ولقد أظهر كمّ كبير من الأبحاث على مدار العقدين الماضيين أو العقود الثلاثة الماضية أن ذلك النوع من التهديد لا يولّد تبعات سلوكية فحسب، بل تبعات جسدية أيضاً: مثل الخمول والقلق والاكتئاب. ولا أعتقد أن مقاومة تلك التبِعات تخلصنا من تلك الحالة السلبية وتجعلنا نشعر بنحو أفضل. ولا نعلم إن كنا نقوم بذلك عن وعي أو من دونه، لكن قد يكون الأمر مزيجاً من الاثنين معاً. المهم هو أن دافع العيش وسط دائرة من الناس المؤيدين والداعمين هو دافع أساسي ومتجذر فينا، وإننا على استعداد لفعل الكثير من أجل تحقيق ذلك.
تظهر نتائج البيانات أن أنظمة تقييم الأداء القائمة على الانتقادات والملاحظات تدفعنا باتجاه البحث عن محيط يؤيدنا ويدعمنا ويحمينا من تلقي الانتقادات والملاحظات السلبية. إنه التعريف الدقيق لغرفة الصدى التي لا تقوم إلا بترديد ما نقول في سرّنا. وهكذا يمكننا القول إن الانتقادات والملاحظات السلبية لا تخفق في تحقيق الهدف منها فحسب، بل إنها تؤدي إلى تكوين تشكيلات اجتماعية تمنعها من تحقيق هدفها.
وهل ينطبق أي من هذا على ما يحدث مع القنوات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث نعمل على إحاطة أنفسنا بمحتويات تشبهنا في الرأي والتفكير؟
إن هذا الأمر يتجاوز قليلاً سياق دراستنا، غير أنني أعتقد أن الناس يميلون إلى التماهي بقوة مع رؤاهم السياسية. وهنالك دلائل كثيرة تشير إلى أنهم يهربون من مصادر الأخبار التي تعارض آراءهم ومعتقداتهم ويلجأون إلى بيئة أكثر قرباً وتأييداً لهم.
لكن أي شكل من أشكال غرف الصدى، إنما يضعفنا في نهاية المطاف. فعندما تحيط نفسك بأناس يدعمونك ويمدحونك على الدوام، تعمي عينيك بإرادتك عن تلك الجوانب في شخصيتك وهويتك السياسية والاجتماعية التي تحتاج إلى تحسين وتطوير. وهكذا نجد أن من ينجح ويزدهر، أكان في حقل السياسة أم الاجتماع أم العمل، إنما هو من يجيد الاستماع إلى انتقادات الآخرين وآرائهم المعارضة والاستفادة منها بصدق وموضوعية.
هل ترغب في القيام بالمزيد من الأبحاث حول آليات تقييم الأداء وتقديم الانتقادات والملاحظات حوله؟
بكل تأكيد. إننا نسعى إلى فهم ما يحدث، بحيث نستطيع تطوير آليات أفضل. وأعتقد أن الأمر يبدأ بخلق بيئة معززِة ونسج علاقات مؤيدة، بحيث لا تتمكن أية ملاحظات أكانت سلبية أم إيجابية من تشكيل حالة تهديد للأشخاص المتلقين. وهنالك كمّ هائل من الشركات لم تستطع بعد خلق مثل تلك البيئة، ففيها تسود بيئة التنافس على الترقية وإصدار النتائج المالية السلبية وتحجيم الإنجازات والتقليل من قيمتها. ومن شأن كل ذلك أن يبني جدراناً بين الناس. إن ما نسعى إليه هو بناء هيكلية من دون هذه الجدران. لا شك أن الأمر صعب، لكنه قابل للتحقيق. ولقد خطونا خطوة باتجاه هذا الهدف.
بصراحة، لقد كان أداؤك في هذا الحوار دون المستوى المطلوب. ولقد كنت أتوقع حواراً أفضل.
دعني أتواصل إذاً مع محررين آخرين. أنا على ثقة بأنهم سيجدون الحوار جيداً جداً.